واحد من مفاهيم النقاش العام هو أنه مناقشة الجمهور لقضية ما أو مناقشتها فى العلن. فى مفهوم آخر، النقاش العام طرح لمقترح ما ومقابلته برأى معارض. المفهوم الأول يبدو أنه مجرد عرض لرأى على مجموعة أكبر كثيرا أو قليلا من تلك الدوائر المحيطة بصاحب، وهو قد يتوقف عندها. هذا المفهوم لذلك قاصر فهو لا يتعدى مجرد التعبير عن الرأى من جانب واحد. المنظور الثانى يذهب أبعد قليلا فهو يأخذ بالتعارض بين رأيين بغرض مفترض هو الوصول إلى أفضل السبل فى معالجة قضية من القضايا. فى هذا المفهوم أيضا قصور لأنه يفترض ثمة رأيين اثنين متعارضين فقط من قضية من القضايا، بينما الآراء وظلالها عديدة، خاصة فى عصرنا العلمى والتكنولوجى الحالى الذى تفجرت فيه مصادر المعرفة بل وصارت أصغر جزيئاتها تحمل مبادئ الحلول وطاقات التقدم. فى أحسن الافتراضات، نحن الآن فى مصر وبالكاد، عند حدود المفهوم الأول وفى بعض القضايا فقط، ففى عدد من أهم قضايانا التعبير عن الرأى غير مصرح به قانونا، أو هو غير مستحب سياسيا فيصدر على استحياء.
•••
المفهوم الأول يَحبسُ الآراء، ويمنع ازدهارها، فتكون نتيجته تبعثرها. انظر إلى الصحافة والقضايا المثارة فيها، وطرق إثارتها، وما لهذه الإثارة. ستجد قضايا يثيرها صاحب هذا العمود أو ذاك، وكاتب لمقال الرأى هنا وهناك، ثم سرعان ما ينتقلون منها إلى غيرها تماما دون مقارعة للرأى بالرأى أو بناء لرأى على آخر. التنوع منشود وعرض مختلف الموضوعات على الرأى العام ضرورى ومطلوب ولكن تركيز الآراء، وهى بمثابة الأشعة، تركيزها فى بوتقة واحدة ينتج ضوءا ينير عملية اتخاذ القرار وهذا هو الهدف الأسمى من أى نقاش عام حقيقى. عن البعثرة، خذ عندك أمثلة عن القضايا المثارة فى الأسابيع الأخيرة. تناول كتاب العواميد ومقالات الرأى قضية المديونية الخارجية المتزايدة بإيقاع غير مسبوق، وأثاروا مسألة ما يطلق عليه «صفقة القرن» «لتسوية» القضية الفلسطينية، وهى جزء لا يتجزأ من الوطنية المصرية، بعبارة أخرى، هى ليست قضية تخص آخرين نهتم بها كما نعنى بغيرها، أو كما يكترث بها آخرون فى أمريكا أو أوروبا أو روسيا أو الصين. على علاقة «بصفقة القرن» المزعومة، تصدى البعض للمصالحة الفلسطينية، وهى مصالحة يرحبُ بها وإن جاءت مفاجأة لم يغب عن بعض الكتاب ورسامى الكاريكاتير ما تحمله من مفارقة فحماس المتهمة هى وزعيمها بعظائم الأمور صارت الحنون على مصر، دون أن يعرف المصريون على أى أساس وجهت لها الاتهامات وعلى أى أساس غيره صارت حنونا دون أن تسقطَ عنها الاتهامات! وللغرابة وربما على سبيل التعبير عن الأمل الأخير، علق البعض على افتتاح الدورة الجديدة لمجلس النواب وتحدثوا عما يتوقعونه منه وكأنما ما زال ثمة أمل فى أن يضطلع المجلس بالوظائف البرلمانية المتفق عليها. وقبل وبعد كل شىء تناول الكتاب، وأثاروا، وتصدوا للغلاء والارتفاع المطرد فى الأسعار وضغوطهما الهائلة وآثارهما غير الإنسانية على الأغلبية الساحقة من المواطنين، على عشرات كثيرة من الملايين منهم، على ثمانين مليونا على أقل تقدير. خارجيا، تأمل البعض فى الانتخابات الألمانية وحظى استفتاء كردستان العراق، بل واستفتاء كتالونيا، على الانفصال عن كل من العراق وإسبانيا باهتمام لافت للنظر. يلاحَظُ أن قضايا الحريات، بما فى ذلك حرية تكوين الجمعيات والتعبير فى وسائط الاتصال، خاصة المرئية منها أى التلفزيونية، والتنقل، صارت لا تشغل مساحات يعتد بها، وهو الشىء المؤسف فى حد ذاته لأنه يعنى أن أصحاب الرأى يشعرون أنهم ينبغى أن يعنوا أولا بأخطار حالة تحدق بالوطن. الخبراء بنظرية حقوق الإنسان وفقهها يعرفون أن عددا من الحقوق يمكن تعليقها فى حالات الحرب والكوارث. يبدو أن الكتاب، عن حق أو خطأ، يشعرون بأننا بصدد كارثة متعددة المصادر الممكنة.
•••
كف المحللون كذلك عن إثارة موضوعات ذات أهمية قصوى للحاضر والمستقبل. سكت الحديث عن جدوى «العاصمة الإدارية الجديدة»، وعن نتائج حفر فرع قناة السويس الذى كان من أسباب انهيار الجنيه المصرى وضياع مدخرات المصريين الذين ساهموا فيه وهم لا يدرون أنهم بهذه المساهمة يحرقون مدخراتهم. حتى أشد المهتمين بالسلامة البيئية صمتوا عن مناقشة جدوى إنشاء محطة الضبعة النووية، ناهيك عن تكلفتها التى من شأنها أن تضيف عشرات الملايين الأخرى إلى الدين العام الخارجى. ومل الكتاب من إثارة موضوع تمكين عضو منتخب فى مجلس النواب من شغل مقعده، وامتنعوا عن التعليق على المواجهة مع قطر، والنزاع فى اليمن وخف الاهتمام بمسألة مياه النيل، وهم قليلا ما تناولوا بالتحليل الوضع فى ليبيا فالمعلومات عنه قليلة وهو يعالج كموضوع أمنى وليس كمسألة سياسية تخص مصر ومنطقة شمال إفريقيا ومستقبل التطور السياسى والاقتصادى فيها وعلاقاتها بالمحيط المتوسطى والقارة الإفريقية على اتساعها، خاصة منطقة الصحراء الكبرى والدول الواقعة فيها أو المشرفة على جنوبها. الشىء ذاته، قلة عن الإرهاب. هو أيضا يعالج على أنه مسألة أمنية. من الواضح أن الدولة حققت تقدما فى مواجهة الإرهاب ولكن المقاربة الأمنية تخمده فقط ولا تطفئ جذوة ناره تماما. فى مقطع من مذكراته، كتب الجنرال ديجول أنه «تحت الرمادِ تَرقدُ الجذوةُ، ومن الجذوةِ يمكنُ أن تشتعلَ النارُ من جديد». فى التسعينيات من القرن العشرين، هدد الإرهاب النظام العام فعالجته الدولة أمنيا وأخمدت التهديد الذى شكله. ولكن ما الذى حدث؟ عاد الإرهاب من جديد بعدها بأقل من عشرين عاما. الإرهاب مسألة سياسية تعالج سياسيا بالاستعانة بالأدوات الأمنية ولكن لا يمكن أن تكون الأدوات الأمنية هى الأصلية والوحيدة فى التصدى له.
عودة إلى التعبير المتبعثر عن الآراء المشار إليه أعلاه، هل حدث أنه أفاد بأى شكل من الأشكال فى عملية اتخاذ القرار؟ لم يحدث. ليس المقصود باستفادة عملية اتخاذ القرار برأى من الآراء أن يؤخذ به بالضرورة، وإنما الفائدة تتحقق أيضا بالاستفادة بالرأى كعنصر من عناصر عملية اتخاذ القرار يلقى الضوء على هذا الجانب أو ذاك فى الموضوع المعنى وحتى بدون الرجوع إلى صاحب الرأى نفسه.
•••
على العكس من ذلك، فإنك تجد قضايا أقل ما يقال عنها إنها هامشية بل إن بعضها ليس قضايا أصلا سرعان ما يؤخذ بأكثر الآراء رجعية بشأنها، بل إن قرارات تستبق مثل هذه الآراء لتُرضى من يمكن أن تَصدرَ عنهم. شاب وفتاة يتعانقان فى حرم إحدى الجامعات فتقوم الدنيا ولا تقعد، حتى بعد أن يتبين أنهما كانا يعلنان خطوبتهما، ويفصلان من الجامعة! ومجموعة من الشباب ترفع علما هو رمز للمثليين فتقوم الدنيا أيضا ولا تقعد ويتخذ قرار بإجراء كشف مخزٍ على أعراض الشباب من أجل التأكد من عدم التعريض بالفضيلة. تعداد مصر 95 مليونا، هل سيوقع الكشف على كل الذكور منهم؟ وماذا عن النساء؟ هذا من أمثلة القرارات الهزلية التى لا تنفذ ولكنها تشغل الناس وتتخذ بديلا عن القرارات الجديرة فعلا بالاتخاذ. وبنطلونات الجينز الممزقة، يندد بها أعضاء فى مجلس النواب ويغضبون، ليس لأن فى تشبه القادر بالضعيف استخفافا بشعور الضعيف وعجزه، وإنما من جديد لأن فيها هى أيضا اعتداء على الفضيلة! الحقيقة تبدو وكأن «الغضب» على البنطلونات لا يرجع إلا لأن فيها خروجا على المألوف. الرجعى والمحافظ لا يحب أى جديد، سواء كان ضارا، أو مفيدا، أو لا هذا ولا ذاك. ليس فقط تشتته وعدم جدواه، ربما كان أكثر ما يحزن هو انهيار مستوى النقاش العام فى مصر!
المفهوم الأوسع للنقاش العام هو أنه مجموعة من المحافل يتبادل فيها الناس التعبير عن آرائهم ومصالحهم وتوقعاتهم بشأن قضية من القضايا ذات أهمية للمجتمع كله أو لجزء منه. المشاركة النشطة فى التعبير المتبادل عن الآراء والمصالح والتوقعات من خلال هذه المحافل تمكِن من تكوين أرضية صلبة لممارسة فعالة للمواطنة تبغى تحقيق المصلحة المشتركة لمجموع المواطنين. المهم فى هذا المفهوم هو تعدد المحافل والتبادل النشط للتعبير عن الآراء والمصالح والتوقعات، وهى بالضرورة آراء ومصالح وتوقعات مختلفة؛ تنجلى أفضل سبل التصدى لقضية ما من هذا الاختلاف بل ومما يعتريه من تقابل وتعارض. مثل هذا النقاش العام يبث حياة ونشاطا فى المجتمع فيستطيع التصدى بكل الإمكانيات الكامنة فيه للتحديات التى تواجهه. البلدان النامية قبل المتقدمة فى حاجة إلى مثل هذا النقاش العام.
مصر من بين هذه البلدان النامية. وهى تقترب من المائة مليون نسمة، بدون إرادة منعقدة على وقف نموها السكانى غير المسئول، ما أحوجها إلى النقاش العام الحقيقى.