تذكرت قصة ذات دلالة حينما استمعت إلى خطب وحوارات المشاركين فى مؤتمر الحزب الوطنى الأخير. فحينما طلب من أحد المسئولين التايلنديين أن يفسر لماذا تبدو تايلاند أضعف سياسيا واقتصاديا عن غيرها من الدول المحيطة بها مثل سنغافورة وماليزيا وتايوان رغما عن تشابههم فى الموارد الطبيعية والتاريخ القريب فكان رده: «إننا دولة رخوة» أو soft state. ولهذا المفهوم فى أدبيات العلوم السياسية مداخل مختلفة ما يعنينا منها بالنسبة للحالة المصرية هو تلك الفجوة بين القول والفعل، بين القانون وتطبيقه، بين الخطاب المعلن، كتلك التى سمعناها فى مؤتمر الحزب، والممارسة المباشرة، بين الأهداف المعلنة والإنجازات المحققة. ففى آخر ثلاثين سنة أعلنت الدولة العديد من الأهداف من قبيل القضاء على الأمية، القضاء على الدروس الخصوصية، إعادة الانضباط للشارع المصرى، الخروج للصحراء واستصلاح الأراضى، بيع القطاع العام، خطة الألف يوم وغيرها.
وكأن المراقب للشأن المصرى يكتشف أنه أمام مصر ذات وجوه ثلاثة: مصر الرئيس، ومصر الحكومة، ومصر الشعب.
فمصر الرئيس تتجلى فى خطاباته التى لا تخلو من بلاغة ورسم صورة مشرقة عن واقع يراه الرئيس فى تقارير مكتوبة وبإمعان النظر فى الربع أو النصف المملوء من الكوب. فى حين تبدو مصر الحكومة أقل إشراقا، وأكثر صلفا، وأقل شفافية، وأقل ثقة فى الإنسان المصرى واستعدادا لانتهاك حقوقه التى سبق أن عددها الرئيس فى خطاباته ووضعها حزبه على موقعه على الإنترنت. وهناك ثالثا مصر الشعب وهى مصر المعاناة، مصر الروتين، ومصر الغلاء، والتى فيها تتبدى أزمة المصداقية بين الحكومة والناس.
وليس أدل على وجود مصر ذات الثلاثة وجوه من حوادث قليلة لكنها كاشفة عن أحوال مصر. فمثلا، حينما يدعو الرئيس المواطنين للتوجه لصناديق الاقتراع لاختيار ممثليهم فى مجلس الشعب ويفاجأ هؤلاء بجنود الأمن المركزى يمنعونهم من الإدلاء بأصواتهم بحجة الحفاظ على الأمن فيضطر هؤلاء إلى اعتلاء السلالم الخشبية لممارسة حقهم الدستورى والذى يمارسونه، صراحة، بناء على دعوة رئيس الجمهورية لهم. هذه ضربة قاصمة لمصداقية الدولة وتخلق مجتمعا من الرعايا لا المواطنين. فالرئيس دعا، والحكومة منعت، والمواطن يعانى.
حينما يتوجه السيد رئيس الجمهورية إلى مقره الانتخابى من أجل الإدلاء بصوته أو يحضر مؤتمرا للحزب الوطنى، فيلاحظ المرء أن الشوارع والمقار نظيفة وأعمدة الإضاءة مطلية حديثا، وكذا الرصيف بلونيه الأبيض والأسود، ولا توجد أى اختناقات مرورية فى الطريق من القصر الرئاسى إلى المقر الانتخابى أو المؤتمر وبالعكس، بل والقائمون على العملية الانتخابية والمشاركون فى أعمال المؤتمر مبتسمون وسعداء. ولاشك عندى أن هذا الجزء من مصر الذى يراه الرئيس ويتعامل معه هو جزء صنعته حزب الحكومة وحكومة الحزب خصيصا حتى لا تقع عينا الرئيس على ما يزعجهما. ولا شك أن درجة الحرفية عالية لدرجة أن الناظر يعتقد أن هذا الحال هو الطبيعى. لكن حتى تكون مصر الرئيس من وجهة نظر الرئيس بهذا النقاء، كان لا بد أن تعانى مصر الشعب. فلا بد أن تمر سيارات المراسم والتشريفات عبر العديد من الطرق بما يقتضى إخلاء هذه الطرق من المارة بسياراتهم لدقائق معدودات أو لساعات طوال.
وقد نجحت المسألة بحكم التكرار، فآلاف المواطنين يركبون مئات السيارات التى تصطف فى عشرات الشوارع انتظارا لمرور الموكب، وإلى أن يمر الموكب ويقضى الله أمرا كان مفعولا تتعالى الألسنة بعشرات الأسئلة التى تعبر عن تذمر وتشعر بحيرة وتؤكد أن هناك أزمة مصداقية بمنطق أن مصر ليست للمصريين وإنما مصر هى مصر الحكومة، إنها مصر الرئيس وليست مصر الشعب. فالرئيس مر، والحكومة عطلت المارة، والمواطن المصرى يعانى.
إن تشريفة واحدة تخلق أو تزيد عدم ثقة المصرى فى بلده عشرات السنين إلى الوراء وتجعله يشعر فى قرارة نفسه بأن مصر ليست الأم التى تحتويه، وإنما هى بقرة حلوب، الأشطر يحلبها أكثر وأسرع خلسة أو علنا، فالقانون انتقائى وتطبيقه عشوائى. ويكفى أن نستمع إلى شكوى رجال القضاء من عدم قدرتهم على أن يأخذوا حقهم من السلطة التنفيذية، وهم أصحاب حق بحكم الدستور والقانون بل وفقا لتصريحات رئيس الدولة نفسه. فالدستور نص، والرئيس أكد، والحكومة منعت، والقضاة يعانون. والأمر ليس ببعيد عن المواطنين الأعضاء فى نقابات أخرى موضوعة تحت الحراسة.
إن بناء المصداقية مسألة تتم عن قصد وتدبير وليست محض مصادفة كما أنها ليست من نوافل أى نظام حكم رشيد بل هى من أركانه الأساسية.
المشكلة الآن أن الأداء الحكومى تفاعل مع مؤسسات التنشئة لتصبح النظرة السلبية للدولة وعدم الثقة فيها مسألة ثقافية تنتقل من جيل إلى جيل ويسهم رب الأسرة فى زرعها فى أبنائه بالتأكيد على أهمية الاتصالات والإكراميات والواسطة والتوحش فى الكلام والتغول فى الفعل من باب أن الأب، باتصالاته وماله، فوق القانون أو أن القانون أخرس إذا عرفت كيف تخرسه.
إن الدولة التى تحدد الأهداف ولا تقوى على تحقيقها والتى تسن القوانين ثم لا تلتزم بها بسبب الفساد أو بسبب تعارض مصالح نخبتها ستكون دولة الحفاظ على الوضع الراهن وشراء الوقت وليست دولة تنمية وتحديث. لأن أصل التحديث قائم على الثقة فى المؤسسات، أى الثقة فى أجهزة الدولة وأشخاصها.
ومصداقية مؤسسات الدولة وكياناتها المؤسسة تلك التى رفعت دولا وحطت من أخرى مثلما قال داهية القرن السادس عشر مكيافيللى. وهو ما يفسر الموقف الذى اتخذه عمر بن خطاب مع جبلة بن الأيهم، آخر أمراء الغساسنة، حين ذهب إلى الحج بعد أن أسلم فوطئ رداءه أعرابى فضربه الأمير بكفه على وجهه. فما كان من عمر إلا أن أمر أن يضرب الأعرابى الأمير حتى لو ترتب على ذلك خروج جبلة وقومه من الإسلام. يقول صاحب عبقرية عمر: لقد أفاد عمر الدين الجديد الكثير والكثير بأن وطد ثقة أهله (أى أهل الإسلام) بعدله ويقينهم بأنهم فى حضرة دين عظيم لا يحابى ولا يجامل وإنما يعز ويذل بقدر احترام الناس لمبادئه التى هى القانون الأسمى فوق الجميع.
بل إن مونتسكيو، وهو أحد كبار المفكرين السياسيين الفرنسيين فى عصر النهضة، جعل حكم القانون واحترامه أهم من المشاركة الشعبية فى صياغته وإن كانت المشاركة الشعبية أفضل لأنها تعطى له «مصداقية».
وإن أردنا أمثلة معاصرة لحاجة الدول لبناء مصداقيتها أمام مواطنيها فيكفى أن نشير إلى قرار الخومينى بحتمية إقامة الانتخابات التشريعية فى موعدها رغما عن تدمير مجاهدى خلق لمقر البرلمان بالصواريخ فى عام 1979 لأن الدستور لا يعطى لرئيس الجمهورية أو أى جهة أخرى الحق فى تأجيل موعد انتخابات مجلس الشورى الإيرانى. وحين يطبق القانون على ابنة الرئيس بوش حينما قبض عليها وهى تتعاطى المخدرات وحكم عليها بعدد من ساعات الخدمة المدنية جزاء بما فعلت، فإن الرسالة مزدوجة: ابنة الرئيس أتت فعلا مشينا، لكن الأهم أن الدولة لا تقبل أن تجامل أحدا مهما كان. بل إن محاكمة رئيس فرنسا على ما اقترفه من أخطاء حتى قبل الرئاسة يعطينا مثلا فى أن لا أحد فوق القانون: لا الرئيس ولا رئيس الوزراء، ولا الوزراء. ففرنسا الرئيس تتطابق مع فرنسا الحكومة تتطابق مع فرنسا الشعب.
وتنعكس هذه المصداقية على المواطن فى أن يبادل احترام الدولة لقوانينها، فى احترامه لهذه القوانين سواء حضر أفراد جهاز الدولة أم غابوا. من أسف، فإن مصر الرئيس، لا تماثل أو حتى تشابه مصر الشعب بما أنتج فجوة مصداقية هائلة تجعل مصر أقرب إلى الدول الرخوة إلا فيما يتعلق بأمن حاكميها. وهى فجوة أتصور أن المسئولية فيها مشتركة بين الجميع: رئيسا وحكومة وشعبا.
إن العدالة والمساواة فى تطبيق القانون، حتى لو كان ظالما، تنتج أثارا أفضلا كثيرا من قانون عادل الكلمات لكن تعتريه الانتقائية والانتهازية عند التطبيق. وهذه هى المعضلة الأكبر التى تواجه الحزب الوطنى بل ومصر كلها.