بين المصريين والانتخابات ذكريات مريرة سجلها تاريخ طويل من التجاوزات والأخطاء وعمليات التزوير.. لا أعتقد أن هناك مواطنا مصريا دخل لجنة انتخابية وهو على ثقة أن العمل فيها اتسم بالعدالة وما يسمى بحقوق الإنسان.. تاريخ المصريين مع الانتخابات يمثل صورة كئيبة لا نحمل لها من الذكريات غير كشوف مزورة أو صناديق فارغة أو لجان بلا ناخبين
.
لو أنك سألت مواطنا مصريا عن آخر مرة دخل فيها لجنة انتخابية لاكتشفت أن الأغلبية الساحقة من أبناء المحروسة لم تعرف أقدامهم طريقها للانتخابات فى يوم من الأيام.. ورغم هذا تجرى الانتخابات وتتشكل المجالس النيابية ويحصل الحزب الوطنى على الأغلبية التى لا يعرف أحد من أين جاءت ثم بعد ذلك يصدر البرلمان القوانين والتشريعات التى تدير شئون هذا المجتمع.. رغم أن الانتخابات باطلة وتشكيل المجالس التشريعية باطل والأغلبية الساحقة باطلة أيضا.. وعلى هذا القياس فإن القوانين طبقا لهذا تكون باطلة رغم هذا كله فإن الدولة تنفق مئات الملايين على الانتخابات مزورة وأرقام غير صحيحة.
. وفى النهاية نسمع من يصيح تحت قبة البرلمان أن المجلس سيد قراره.. من اين جاءت هذه السيادة.. ومن أصدر القرار وما هى شرعية هذه السيادة وهذا القرار فى ظل انتخابات تنقصها الشفافية وما أكثر الشواهد التى أكدها رفض المحكمة الدستورية العليا لكثير من الأحكام والقوانين التى تصدرها الحكومة
..
بدأت رياح الانتخابات البرلمانية تهب على مصر واندفعت جحافل الحزب الوطنى تشق الطريق نحو مجلس الشعب القادم والغريب أن الأشياء لا تتغير وأن الأسماء والأعضاء هم الأعضاء ورؤساء اللجان هم نفس الرؤساء وربما اختلفت فقط أرقام حزب الأغلبية فى المجلس فزادت قليلا عن الدورات السابقة لمجلس الشعب.
ما يحدث فى مصر الآن عشناه وشاهدناه قبل ذلك عشرات المرات لقد مرت أمامنا نفس الصور على فترات متباعدة أو متقاربة ولكن الغريب أن المسرحية واحدة وأن الأداء لم يختلف وأن الممثلين هم نفس الممثلين السابقين واللاحقين وأن مخرج المسرحية ما زال يصر على عرضها رغم خروج المشاهدين وانطفاء الأنوار وإسدال الستار..
وإذا سألت المخرج لماذا كل هذا الاصرار على هذا العرض السخيف تكون الإجابة نوعا من الصمت المخيف حيث لا كلام ولا تعليق ولا فائدة.
كان آخر عهدى بالانتخابات فى ليلة شتوية شديدة البرودة حينما بدأت رحلتى مع الصحافة فى الأهرام العتيق فى نهاية الستينيات.. يومها ذهبت إلى إحدى لجان الاستفتاء على بيان 30 مارس وبينما كنت أجلس مع ضباط الشرطة فى إحدى لجان حى شبرا همس فى أذنى أحد الضباط وقال لى إن صناديق التزوير وصلت.. وذهبنا ضابط الشرطة وأنا إلى الدور السفلى فى اللجنة ورأيت صناديق مغلقة بالشمع الأحمر.. وقال الضابط هذه هى نتيجة الاستفتاء
..
كنت قد قرأت كثيرا فى سنوات الجامعة عن الديمقراطية وحرية الانتخابات وحقوق الإنسان.. وكانت هذه الصناديق هى الصدمة الأولى لشاب تخرج من الجامعة وفتح عينيه لأول مرة على الصناديق المزورة.
. وظلت صورة هذه الصناديق تطاردنى فى أكثر من مكان وأكثر من مرحلة من مراحل العمر
.
كنت أشاهدها فى انتخابات مجلس الأمة ثم مجلس الشعب وفى الحالتين لم يكن هذا المجلس فى أى مرحلة من مراحل العمر ممثلا للأمة أو الشعب وفى أحيان كثيرة كنت أحاول المرور أمام لجان الانتخابات فى أكثر من مكان وأكثر من منطقة وأتوقف أمام اللجنة ولا أجد أحدا ثم أقرأ فى اليوم التالى عن زحام الناخبين والتكدس الرهيب ونسبة 99% من الأصوات وظلت هذه النسبة تطارد جيلنا المنحوس حتى أصبحت رقما ثابتا فى حياتنا
.
تغيرت الوجوه وتغيرت سنوات العمر وبقى صندوق انتخابات شبرا المزورة يقف أمامى وأراه شاخصا كلما قرأت أو سمعت أو شاهدت هذه الانتخابات..
وفى الأيام الأخيرة بدأ الحديث عن الانتخابات
..
فى الدورة السابقة لمجلس الشعب كان نجاح كتلة الإخوان المسلمين شيئا خارج السياق، أن الجماعة دخلت فى معارك ضارية تحت قبة المجلس مع حزب الأغلبية ورغم أن الحزب الوطنى كان يتمتع بأغلبية ساحقة جعلته يجيز ما أراد من القوانين والتشريعات وجعلته يتصدى لكل محاولات الاستجوابات ضد الحكومة إلا أن تجربة الإخوان فى المجلس لم تكن بسيطة أو سهلة ولهذا كان إصرار الحكومة على إغلاق ملف الإخوان بحيث لا يعود أحد منهم إلى مجلس الشعب مرة أخرى.
كل الدلائل والمؤشرات تقول إن فرص الإخوان المسلمين فى مجلس الشعب القادم لن تكون سهلة وربما تبدو الآن مستحيلة..
ومن هنا حاولت الحكومة قطع الطريق على جماعة الإخوان قبل أن تبدأ الانتخابات البرلمانية وتجد الحكومة نفسها أمام صورة مكررة لما حدث فى انتخابات 2005 عندما حصد الإخوان أكثر من 80 صوتا يمثلون 20% من مجلس الشعب
.
وقفت الحكومة للإخوان بالمرصاد قبل أن يبدأ الترشيح وتبدأ المعركة.. ذهب الإخوان إلى وزارة الداخلية يطلبون أوراق الترشيح فلم يجدوا شيئا من أوراقهم فلا هم مقيدون فى الجداول الانتخابية ولا يوجد ما يثبت أنهم مواطنون مصريون لهم حقوق سياسية
.
بدأت قوات الأمن عمليات القبض على أعداد كبيرة من أعضاء الجماعة المحظورة بحيث يتبادل الأعضاء الإقامة فى السجون وما بين الإفراج والاعتقال وخروج البعض ودخول البعض الآخر يمكن أن تجرى الأحداث حتى تتم الانتخابات بالصورة التى تريدها الدولة ولا تتكرر فيها بأى صورة من الصور نتائج انتخابات 2005
قلت.. إن الحكومة لن تسمح مرة أخرى بدخول 80 عضوا فى مجلس الشعب القادم من الإخوان لأسباب كثيرة
.
إن الإخوان أثاروا الكثير من الشغب فى المجلس الماضى وينبغى ألا تتكرر التجربة.. هذا بجانب أن المجلس المقبل سوف يشهد الانتخابات الرئاسية وهذه الانتخابات تحتاج إلى مناخ خاص لكى تجرى بالصورة التى ترغبها الحكومة أمام العالم
..
إن كل الأبواب والنوافذ وإمكانيات الحوار مغلقة أمام الحزب الوطنى والإخوان المسلمين ولهذا لا ينبغى فتح حوارات جديدة على الإطلاق ومن هنا فإن الحكومة تصر على موقفها من الإخوان مهما كان حجم التنازلات أو الحسابات التى يمكن أن تكون بابا للحوار.. ومن هنا فإن احتمال عودة الإخوان إلى مجلس الشعب يبدو أمرا مستحيلا فى الانتخابات القادمة.. سوف تسعى الحكومة إلى إجهاض كل محاولة قد تدفع ببعض الأعضاء إلى المجلس وإذا حدث ذلك فلن يكون بنفس الإنجاز الذى حققه الإخوان فى انتخابات
2005.
كانت هناك دعوات داخل الإخوان بمقاطعة الانتخابات ولكن الأغلبية رأت أن المقاطعة نوع من أنواع الانسحاب والسلبية ولهذا قرر المرشد العام د.عبد البديع أن يخوض الإخوان الانتخابات البرلمانية
..
على الجانب الآخر أمام الحزب الوطنى والإخوان المسلمين تقف كتائب الاحزاب المصرية ورغم أن فى مصر 24 حزبا معظمها مجهول النسب والهوية والاسم والعنوان إلا أننا لا نستطيع أن نتجاهل حزبا فى قوة وشعبية وتاريخ حزب الوفد.. وهناك أحزاب التجمع والعربى والناصرى والغد هذه الأحزاب يمكن أن تمثل قوة لا يستهان بها إذا استطاعت التنسيق فيما بينها واتخذت موقفا موحدا فى الشارع المصرى وإن كان ذلك يبدو أمرا صعبا
..
هنا نستطيع أن نتوقف أمام تجربة الوفد فى ظل قيادته الجديدة مع الدكتور السيد البدوى.. لاشك أن التغييرات التى شهدها حزب الوفد فى الشهور الأخيرة قد أضافت للحزب قدرا ملموسا وواضحا من التأثير والحيوية فى الشارع المصرى.. لقد انضمت أسماء كثيرة فيها عدد كبير من الرموز الفنية والثقافية والاجتماعية إلى عضوية حزب الوفد.. وبجانب هذا الحزب استطاع فى فترة وجيزة أن يؤكد وجوده فى الشارع المصرى ثم قرر أخيرا أن يخوض الانتخابات البرلمانية.. إن الدماء الجديدة التى تدفقت فى حزب الوفد يمكن أن تمثل بداية جديدة ليس للحزب وحده ولكن للمعارضة المصرية بصورة عامة.. ان تاريخ الوفد واسمه ورموزه فى الشارع المصرى تضع الحزب فى مكانة متقدمة للغاية بحيث يمكن أن يكون منافسا حقيقيا لحزب الأغلبية الحزب الوطنى
..
ولاشك أن الدولة تفضل أن تكون المعارضة فى مجلس الشعب القادم معارضة وفدية وليست إخوانية كما أن خطوات حزب الوفد فى الشارع المصرى فى الفترة الخيرة يمكن أن تجعل الحزب يلقى تأييدا أكبر فى الانتخابات.. وقبل هذا كله فنحن حين نتحدث عن الوفد فلا شك أن تاريخ الحزب السياسى يحمل بريقا خاصا لا يمكن أن نتجاهله
.
الواضح الآن أن حزب الوفد يدخل الانتخابات القادمة بروح جديدة واستعدادات أفضل سواء على مستوى الدعاية الانتخابية وما رصده الحزب لها من ميزانيات.. أو العدد الكبير من المرشحين الذين دفع بهم الحزب فى المعركة الانتخابية وهو يزيد على 200 مرشحا حتى الآن فى معظم الدوائر
..
فى ظل هذه التركيبة فإن التقاء الوفد مع الحزب الوطنى أقرب كثيرا من التقاء الوفد مع الإخوان المسلمين ومن هنا فإن التنسيق بين الوطنى والوفد هى الصيغة الأقرب للمنطق فى الانتخابات القادمة
..
ولهذا لن يكون غريبا أن يقبل الحزب الوطنى أن يغمض عينيه عن حصة فى مجلس الشعب يحصل عليها حزب الوفد إلا إذا سيطر منطق الأنانية والاكتساح على المسئولين فى الحزب الوطنى ورأوا أن يحصلوا على المجلس كاملا وهنا سوف يخسر الحزب الوطنى كثيرا
.
فى تقديرى أن المسافة بين الوفد والإخوان المسلمين تبدو كبيرة خاصة أن الإخوان دائما يسعون للمقدمة والوفد لن يقبل أن يكون تابعا للإخوان.. كما أن الوفد لن يقبل أن يسير فى ركاب الإخوان وإذا كان من الضرورى للوفد أن يسير فى ركاب أحد فإن الحزب الوطنى سيكون هو الأفضل من حيث الفكر والمصلحة والتوجه.
ولهذا فإن اختبار الإخوان المسلمين فى الانتخابات المقبلة سيكون اختبارا صعبا وقاسيا لأن الجماعة لن تجد دعما من الوفد ولن تجد مساحة مع الحزب الوطنى.
من الخطأ أن نتصور أن الإخوان المسلمين حصلوا على 83 عضوا فى الانتخابات البرلمانية فى عام 2005 بعيدا عن رغبة الحزب الوطنى لاشك أن الحزب الوطنى رضى بذلك فى المرحلة الأولى والثانية من الانتخابات وعندما اكتشف أن الأمور يمكن أن تفلت من يده عاد إلى لجان الانتخابات ليضع نهاية للغزو الإخوانى ويغلق الملفات
.
فى الانتخابات القادمة نحن أمام ثلاث جبهات تختلف فى قوتها وتتفاوت فى تأثيرها فى الشارع المصرى
..
نحن أمام الحزب الوطنى حزب الأغلبية والحزب الحاكم والشىء المؤكد أن الحزب سوف يلجأ إلى جميع الأساليب المشروعة وغير المشروعة للحصول على أفضل النتائج فى هذه الانتخابات وهو لن يمانع فى أن يرتكب كل التجاوزات ابتداء بالتزوير وانتهاء بالبلطجة لأن المجلس القادم هو مجلس الرئاسة
..
لن يمانع الحزب الوطنى فى أن يعطى فرصة ليست كبيرة لحزب الوفد خاصة أن قيادة الوفد الجديدة د. السيد البدوى رجل أبدى التزاما وموضوعية فى الكثيرة من المواقف منذ تولى رئاسة حزب الوفد.. هذا بجانب أنه يتمتع بعلاقات طيبة مع قيادات الحزب الوطنى.. وإذا كان الموقف يحتاج إلى أولويات فى السباق فإن الوفد هو الأفضل عند الحكومة من الجماعة المحظورة
.
إن ذلك يعنى أن معركة الإخوان المسلمين فى الانتخابات القادمة لن تكون سهلة لأن الإخوان يخوضون المعركة وحدهم دون تنسيق أو تعاون مع أى تكتلات حزبية أخرى بل إنهم يخوضون المعركة وهم يمرون بأزمة عاصفة مع الحزب الوطنى
.
وفى ظل غياب الرقابة الدولية التى طالب بها البعض.. وفى ظل الإجراءات المتشددة التى أسكتت بها الحكومة أصواتا كثيرة وأغلقت عددا كبيرا من القنوات التليفزيونية ومنعت الرسائل التليفونية فى ظل هذا الحصار فإن الإخوان المسلمين يواجهون مرحلة عصيبة فى هذه الانتخابات.. أما الأحزاب الأخرى فإن نصيبها سيكون محدودا فى مجلس الشعب ولهذا فإن الأرجح أن تكون أغلبية الحزب الوطنى ساحقة ماحقة فى المجلس القادم خاصة إذا حصل على النسبة الأكبر فى أصوات المرأة وهذه الكتلة النسائية المؤثرة فى مجلس الشعب الجديد.
يأتى حزب الوفد وأمامه الآن فرصة لكى يحتل موقع المعارضة فى المجلس يسانده عدد قليل من الأسماء الملحقة بالأحزاب الأخرى خاصة الناصرى والتجمع والغد
.
فى ظل الضغوط الشديدة التى تتعرض لها كتلة الإخوان المسلمين والحرب الضارية التى يشنها الحزب الوطنى على الجماعة تبدو فرصة الوفد فى الانتخابات القادمة أكبر من أى انتخابات سابقة ولكن سيكون من الصعب بل من المستحيل أن نجد تكتلا معارضا من الوفد والإخوان وبقية الأحزاب يمكن أن يقلب موازين الانتخابات ويضع الحزب الوطنى فى موقف لا يحسد عليه.