منذ زمان بعيد وأنا أطالب بوضع ضوابط جادة تراقب عمليات التمويل الأجنبى للأنشطة التى يقوم بها المجتمع المدنى فى أرجاء مصر بحيث لا نترك الأمور تسير بنا إلى أفق مظلم مجهول.. فى كل دول العالم يحظى المجتمع المدنى بتقدير خاص فى مواقفه وأنشطته ودوره الاجتماعى والسياسى.. ولكن فى هذه الدول تخضع الأشياء لرقابة جادة حتى لا تتداخل الأمور ويصبح من الصعب أن نفرق بين نشاط مدنى مشروع ونشاط تآمرى غير مشروع..
وفى السنوات الماضية وفى ظل النظام السابق تفتحت جميع الأبواب أمام التمويل الأجنبى فى عملية اختراق لكل مؤسسات الدولة المصرية الرسمية والشعبية تحت شعار الدعم الخارجى والحوار مع الآخر ومنظمات حقوق الإنسان وغيرها من الشعارات البراقة وإذا كان البعض قد سلك هذا الطريق من أجل مهمة إنسانية ووطنية صادقة فما أكثر الذين تاجروا بهذه الشعارات وتربحوا من ورائها..
كانت الدولة المصرية قد فتحت كل أبوابها الرسمية والمدنية لتلقى المعونات.. وكانت هناك إدارات مسئولة عن تلقى هذا الدعم سواء جاء من دول أو مؤسسات مدنية أجنبية مشابهة..
وعلى سبيل المثال فإن هناك معونات وصلت ومازالت لعدد كبير من الوزارات سواء كانت معونات مادية أو عينية.. هناك مثلا معونات إلى قطاعات مثل الصحة والتربية والتعليم والزراعة والإعلام بل إن بعض المؤسسات الصحفية كانت تتلقى معونات خارجية تحت أى مصطلح أو شعار..
ومع اتساع هذا النظام فى مؤسسات الدولة كان من السهل أن ينتقل ذلك إلى جمعيات ومؤسسات المجتمع المدنى.. ومنذ وقعت مصر اتفاقية كامب ديفيد وهناك حشود أجنبية اتجهت لمعرفة كل شىء عن مصر تحت ستار البحث والتعاون والدراسة.. وللأسف الشديد فإن هناك تداخلا شديدا حدث بين منظومة البحث وعمليات الاختراق وكانت النتيجة أن أصبحت مصر بكامل مؤسساتها مكشوفة تماما أمام كل قادم..
وهنا حدثت عمليات اختراق لمعظم المؤسسات البحثية والأكاديمية الرسمية والشعبية تحت شعار الحوار مع الآخر وأصبح من الصعب الكشف عن أهداف ونوايا هذه المشروعات وهل هى بالفعل مؤسسات بحثية أم مؤسسات مخابراتية..
تداخل النشاط ما بين البحث عن الحقائق والدراسات والأنشطة غير المشروعة فى الكشف عن أسرار الدولة التى استبيحت أمام مؤسسات أجنبية غير معروفة الهوية وكان ذلك كله تحت شعار الأنشطة المدنية..
وبعد أن سقط النظام البائد أفاقت الحكومة عندنا وبدأت فى مراجعة أنشطة المجتمع المدنى وكان السبب فى ذلك هو الكم الهائل من الأموال الذى تتدفق على مؤسسات المجتمع المدنى تحت شعار التعاون والحريات فى حين أنه كل يخفى أغراضا أخرى..
أمسكت الحكومة بهذا الخيط وبدأت رحلة البحث عن مصادر تمويل عدد كبير من المؤسسات المدنية وكان الخطأ الأكبر أنها بصورة أو أخرى حاولت الربط بين عدد من رموز ثورة يناير ومؤسسات خارجية قيل إنها دفعت بمبالغ كبيرة لعدد من المشاركين فى الثورة..
كانت هذه الخطوة حيلة مريبة لتشويه جزء من رموز هذه الثورة بل لتشويه الثورة كلها على أساس أنها لم تكن ثورة مصرية ولكن كانت هناك أيادٍ خارجية حركتها ومولتها ودفعت بها إلى الشارع..
وعند هذه النقطة بدأ الخلاف حول قضية التمويل الخارجى كلها بعد أن اتضح أن الهدف هو تشويه صورة بعض الأشخاص وبعض المؤسسات وأن القضية ليست رفضا للمبدأ ولكن بحثا عن أسلوب لإدانة البعض فى هذا الظرف التاريخى الصعب.. لو أن القضية كانت وقفة مع هذه الأنشطة المرفوضة من المسئولين فى الدولة لكانت هناك معالجات ومواقف أخرى..
كان ينبغى أن تعلن الحكومة موقفا حاسما وصريحا من قضية التمويل الخارجى بالرفض الكامل لذلك وإصدار قرارات تنفيذية على أساس وضع قواعد ملزمة للمجتمع المدنى وشروط واضحة لتلقى هذا التمويل أو هذه المعونات..
لا ينبغى أن تحاسب أنشطة مؤسسات المجتمع المدنى بأثر رجعى وإلا دخلنا فى سرداب طويل من المساءلة لمؤسسات وأشخاص تلقوا تمويلا خارجيا عبر سنوات طويلة.. وإذا فتحنا هذا الملف فسوف تظهر فضائح كثيرة حول مؤسسات سياسية وثقافية واجتماعية رسمية تلقى المسئولون فيها ملايين الدولارات، وعلى سبيل المثال فإن منظمة السلام التى كانت تحظى باهتمام خاص من كل سلطات الدولة قد تلقت دعما ماليا كبيرا من عشرات المؤسسات الأجنبية وهناك ملفات كثيرة حول عدد من المشروعات التى تلقت دعما خارجيا لم يصل إلى مستحقيه..
إن اختيار هذا التوقيت بالذات لفتح ملف هذه القضية يحمل أغراضا كثيرة فى مقدمتها الايحاء بأن وراء ثورة يناير مصادر أجنبية فى التمويل والتخطيط وهذه خطيئة كبرى أن نبخل على الشعب العظيم الذى خرج بالملايين فى هذه الثورة من حقه فى لحظة شموخ وإرادة..
إن الحكومة تسعى إلى إدانة بعض التيارات والتوجهات دون الأخرى وهنا كان طرح الأسماء التى تعمل فى أنشطة حقوق الإنسان والحريات وتجاهلت تماما الدعم المالى الذى يأتى من الخارج للمؤسسات والهيئات الدينية سواء كانت إسلامية أم مسيحية.. هناك أموال خليجية كثيرة وصلت للتيارات الإسلامية وهناك أموال ومعونات كثيرة وصلت إلى الكنائس والمؤسسات المسيحية وكان ينبغى أن يعامل الجميع بأسلوب واحد مادمنا نحاول وضع أسس جديدة لهذه الأنشطة..
ماذا عن مؤسسات الدولة ووزاراتها التى تتلقى دعما من الخارج لا أحد يعلم عنه شيئا بما فى ذلك أجهزة الرقابة فى الدولة.. لا أحد يعلم شيئا عن عمليات التمويل التى تقوم بها هيئة المعونة الأمريكية وهى تدفع مبالغ رهيبة لعدد كبير من الأشخاص والمؤسسات والمسئولين فى الدولة فمن يراقب هذه الهيئة.. هناك أيضا جمعيات رجال الأعمال مع الدول الأجنبية وهناك مؤسسات دولية لها فروع فى مصر مثل الروتارى والليونز وهى أيضا تتلقى دعما خارجيا رسميا وشعبيا.. وهناك المؤسسات الثقافية والبحثية الخاصة أو التابعة للدولة.. والأخطر من ذلك أن وزارات مثل التربية والتعليم تتلقى معونات تحت بند تطوير المناهج أو التعامل مع الآخر كما أن المؤسسات الإعلامية بما فيها وزارة الإعلام تحصل على دعم خارجى كل هذه الأنشطة والعلاقات لابد أن تضع الحكومة لها ضوابط وقواعد إما أن تترك الحبل على الغارب وتقوم فجأة وتمسك بعض الأسماء وتترك البعض الآخر فهذا إجراء تنقصه العدالة..
إذا كنا نريد أن نضع نظاما للتمويل الأجنبى لأنشطة المجتمع المدنى علينا أولا أن نحصر الجمعيات الأهلية التى تتلقى الدعم الخارجى ثم نحدد قواعد ذلك ونضع من الضوابط ما يضمن شفافية هذه الأنشطة..
فى السنوات الماضية حدثت عمليات اختراق واسعة ومريبة للمجتمع المصرى بحيث تحول إلى حقل تجارب فى كل شىء ابتداء بالسياسة وانتهاء بالأمراض مرورا على أساليب القمع فى السجون والمعتقلات وكل ذلك كان يدخل فى إطار التعاون مع الآخر.. والآن لابد أن ننقى كل هذه المجالات بشرط ألا يكون ذلك بأثر رجعى لأنه ليس من العدل أن نحاسب بعض الأشخاص على تلقى أموال خارجية فى الماضى بينما كانت كل مؤسسات الدولة تقبل هذه الأموال..
هناك أنشطة أهلية اجتماعية تتلقى معونات خارجية وتمويلا أجنبيا وهذه الأنشطة يمكن أن نقبلها إذا كانت نشاطا مشروعا يتسم بالشفافية والنزاهة..
وهناك أنشطة تتعلق بمؤسسات خيرية فى المساجد والكنائس وهذه تحتاج إلى متابعة دقيقة ورقابة صارمة..
وهناك أنشطة تتعلق بالبحث العلمى وهذه الأنشطة يمكن أن تستفيد منها فى مجالات كثيرة..
وهناك أيضا أنشطة ثقافية وفكرية ولكنها من أخطر وسائل الاختراق لأنها تتخفى أحيانا فى الفكر وتتجه إلى جوانب أخرى وقد كان لهذه الأنشطة دور كبير فى معارك وخصومات فكرية كان ظاهرها الاستنارة وباطنها التآمر..
إن هذه الأنشطة لابد أن تقسم حسب نوعياتها وظروفها وبعد ذلك نضع من الضوابط ما يمنع التحايل أو التلاعب أو الاختراق..
إن المطلوب الآن وفى هذا الإطار الجديد الذى تسعى إليه الحكومة أن نحدد أهداف ووسائل وأنشطة المجتمع المدنى وأن نرفض من حيث المبدأ كل أساليب التمويل الأجنبى بحيث يعتمد هذا القطاع على المعونات والدعم الداخلى من المصريين فقط.. أما الحساب بأثر رجعى فهذه قضية تحتاج إلى مراجعة خاصة لأن الواضح أمامنا أنها تهدف فقط إلى تشويه الثورة وإلصاق تهم التمويل الخارجى بها وربما فتح ذلك أبوابا أكبر للإدانة والحساب..