سقوط إستراتيجية الردع الإيرانية - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 3:04 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سقوط إستراتيجية الردع الإيرانية

نشر فى : الإثنين 7 ديسمبر 2020 - 8:10 م | آخر تحديث : الإثنين 7 ديسمبر 2020 - 8:10 م

بينما تتوالى تهديدات إيران ووعيدها برد انتقامى مروع على مسلسل التصفية الممنهجة لكوادرها البشرية الوطنية العاملة ببرنامجيها النووى والصاروخى، مع اشتداد وطأة الضغوط الشعبية المتعاظمة على شاكلة دعوة صحيفة «كيهان» المقربة من مرشد الجمهورية على خامنئى، لاستهداف مرفأ حيفا الإسرائيلى، حالة ثبوت ضلوع تل أبيب فى عملية اغتيال العالم النووى فخرى زادة، وتكبيدها من الخسائر المادية والبشرية ما يكفل ردعها بقابل الأيام، ثم إصدار مجلس الشورى الإسلامى بيانا يطالب الحكومة بالانتقام الرادع، تنحو عديد شواهد صوب استبعاد إقدام نظام الملالى على أى تحرك تصعيدى من ذاك القبيل.
خبرات الماضى: منذ إرجاء إسرائيل الاضطرارى فى العام 2010 لمخطط استهدافها العسكرى للمنشآت والبرامج النووية والصاروخية الإيرانية، واستعاضتها عنه مرحليا باستراتيجيتها المدعومة أمريكيا لتجريد تلك المنشآت والبرامج من خبرائها وفنييها وعلمائها البارزين، بقى الرد الإيرانى على حوادث الاستهداف المتتالية لتلك الشخصيات، حبيس تأكيد الاحتفاظ بحق الرد الحاسم بالطريقة الملائمة وفى المكان والزمان المناسبين، لينتهى الأمر فى كل مرة إلى جعجعة بغير طحين، كما هو الحال مع الغارات الإسرائيلية المتواصلة على الوجود العسكرى الإيرانى فى سوريا والعراق، والذى فقدت إيران بجريرته أرتالا من المعدات والمنظومات التسليحية النوعية، كما شيعت مئات العسكريين، بينهم قيادات كان أحدثها اللواء بالحرس الثورى مسلم شهدان، الذى تزامن مقتله برفقة ثلاثة من أفراد حمايته بمنفذ القائم الحدودى باتجاه سوريا، مع اغتيال الصندوق الأسود للبرنامج النووى الإيرانى فخرى زاده بطهران قبل أيام. وبينما لم يتخط رد طهران حدود التهديدات التى لا تسمن ولا تغنى من جوع، أسفرت اندفاعتها المسرحية الهوجاء للانتقام لمقتل قائد فيلق القدس بالحرس الثورى قاسم سليمانى مطلع العام الجارى، عن إسقاط المنظومات الصاروخية الإيرانية لطائرة تجارية أوكرانية بطريق الخطأ أثناء القصف السوريالى لأهداف أمريكية بالعراق، لتتكبد إيران كلفة تهورها، بينما تمضى إسرائيل، قدما وبنجاح، فى جنى ثمار استراتيجيتها الرامية إلى حرمان إيران من إنتاج السلاح النووى وأدوات إيصاله من الصواريخ الباليستية بعيدة المدى، كما الحيلولة دون تموضعها العسكرى النوعى والآمن وطويل الأمد فى سوريا والعراق.
هواجس الاستدراج: يكابد نظام الملالى منذ مدة حالة من الاستنفار المشوب بالحذر تحسبا لضربة أمريكية محتملة. ففى مطلع العام الجارى هدد الرئيس ترامب باستهداف 52 موقعا حساسا داخل إيران حالة مهاجمتها أهدافا أو أفرادا أمريكيين، أو تقويضها للأمن الإقليمى. وخلال الشهر المنقضى، توقع خبراء مباركته عمليات نوعية تنفذها إسرائيل ضد معاقل إيرانية استراتيجية، فيما أكد مسئول أمريكى مؤخرا مطالبة ترامب لمستشاريه العسكريين بوضع خطة لضربة محتملة لإيران، لكنه عدل عن الأمر خشية اتساع دائرة المواجهات فى الشرق الأوسط.
فى غضون ذلك، جاءت زيارة، اسماعيل قاآنى قائد فيلق القدس، إلى بغداد قبل قليل، لحث الميليشيات الولائية العراقية على تجميد الأنشطة المستفزة للأمريكيين، والالتزام بضبط النفس التام، تلافيا لأى ردود فعل عدوانية يتبناها ترامب قبيل مغادرته البيت الأبيض فى العشرين من يناير المقبل. وبعدما اتهم الرئيس روحانى، إسرائيل، باغتيال فخرى زادة، بمباركة ترامبية توخيا لإثارة الفوضى فى المنطقة واستدراج إيران لمواجهة غير محسوبة ولا تتماشى مع نيتها حرمان ترامب من أى مبررات استراتيجية مقنعة لاستهدافها ووكلائها فى المنطقة، أكد أن بلاده لن تقع فى هذا «الفخ»، مكتفيا بمناشدة مجلس الأمن الدولى التدخل وإدانة عملية الاغتيال الغادرة، فيما دعا وزير الخارجية ظريف المجتمع الدولى لتحمل مسئولياته بهذا المضمار.
وفى مسعى منه لكبح جماح شطط مجلس الشورى الإسلامى، الذى يسيطر عليه المحافظون، بعدما صادق على قانون «الإجراء الاستراتيجى لإلغاء العقوبات»، الذى يدعو لمباشرة تخصيب اليورانيوم بدرجة نقاء 20 %، وهى النسبة التى كانت معتمدة حتى توقيع الاتفاق النووى عام 2015، الذى خفضها إلى 3.67 %، بما يقل كثيرا عن مستوى 90% اللازم لإنتاج القنبلة النووية، علاوة على الانسحاب من الاتفاق النووى، وإعادة تشغيل مفاعل آراك، ووقف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وطرد جميع مفتشيها، أعلن روحانى رفضه للقانون الذى ارتآه مضرا بالجهود الدبلوماسية الهادفة لإحياء الاتفاق النووى الذى انسحب منه ترامب عام 2018، كما أعلنت الحكومة اعتراضها على القانون، الذى يتطلب تفعيله موافقة مجلس صيانة الدستور، مؤكدة أنه لن يغير من سياسة إيران النووية، التى عهد بها الدستور إلى المجلس الأعلى للأمن القومى.
برغم ادعاء طهران امتلاك استراتيجية متكاملة للردع، ترتكن على قوة عسكرية متمكنة، تشمل ترسانة تحوى 11 ألف صاروخ باليستى متعددة المديات، وطائرات بدون طيار متنوعة المهام، وزوارق ومنظومات تسليحية بحرية متطورة، علاوة على ميليشيات وأذرع قتالية موالية منتشرة فى أصقاع حيوية شتى، فضلا عن قدرة مؤكدة على امتصاص أى ضربة عسكرية أمريكية إسرائيلية مشتركة أو منفردة، ثم توجيه الضربة المضادة للعمق الإسرائيلى كما جميع الأهداف والمصالح الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط عبر إمطارها بوابل من الصواريخ الموجهة، فى وقت بدت القيادات الإيرانية محاصرة بعاصفة من المطالبات الشعبية الملحة بالانتقام، لم تخل بدورها من اتهامات مبطنة للمرشد وحرسه الثورى بالتفريط فى دماء سليمانى وكل من سبقوه أو لحقوا به، حتى غدت الشعارات المتعلقة بمحو إسرائيل من الوجود محض أهازيج، لن يكون بمقدور الولى الفقيه تجشم أى مغامرة بهذا الخصوص، فى ضوء التربص إلاسرائيلى والتوثب الأمريكى لاستهداف إيران، بما يستتبع إحراجا لنخبتها الحاكمة أو ربما إزاحتها بغير رجعة.
بحسابات مغايرة، لا يبدو الملالى مستعدين للتضحية ببصيص الأمل الواهن فى إمكانية أن يقود فوز بايدن بالرئاسة الأمريكية إلى إحداث اختراق بمعضلتهم النووية، لاسيما وأنهم يعتبرونه امتدادا لأوباما، الذى تفاوض معهم حتى أدرك الاتفاق النووى، حيث تتطاير الأنباء بشأن استئناف المفاوضات الإيرانية الأمريكية توطئة للعودة لذلك لاتفاق أو التوصل لآخر جديد. وهو السيناريو الذى تعتقد طهران فى تنادى نتنياهو وترامب لإجهاضه من خلال عملية الاغتيال الأخيرة، كونه سيمهد السبيل لطى صفحة عزلتها الإقليمية والدولية، كما سيحررها من إسار العقوبات القاسية التى تكبلها، بما يسهم فى إعادة هندسة الملامح الجيوسياسية للإقليم، على غير هوى تل أبيب. ولعل هذا ما يفسر حرص روحانى على الربط ما بين تزامن اغتيال فخرى زادة واقتراب مغادرة ترامب للمكتب البيضاوى، لافتا إلى هرولة أعداء إيران لاغتنام الأسابيع القليلة المتبقية لتحقيق أقصى استفادة ممكنة عبر خلط الأوراق وإثارة الفوضى فى الإقليم.
المتاجرة بالإخفاقات: خلافا لما ينبغى أن تصير عليه الأمور من حيث محاسبة النخبة الحاكمة على إخفاقاتها الداخلية والخارجية وتحرى السبل الكفيلة بإصلاحها أو تغييرها مع أقرب استحقاق انتخابى، يتفنن النظام الإيرانى فى استثمار انكشافه الأمنى والاستخباراتى وتوظيف عمليات الاغتيال والتخريب التى تزلزل المجتمع الإيرانى، كما الضربات العسكرية التى تعصف بالوجود العسكرى الإيرانى والميليشيات الموالية لطهران فى الخارج، لاستجداء التأييد والتعاطف الشعبيين وقمع المعارضة، بذريعة الاصطفاف الوطنى للتصدى للمؤامرات التى تحيكها قوى الاستكبار العالمى وأذنابها فى المنطقة للنيل من صمود واستقلالية الجمهورية الإسلامية، وإجهاض مسيرتها النهضوية. فبينما فجر اغتيال سليمانى تظاهرات حاشدة عمت البلاد للتنديد بالعدوان وحث النظام على الانتقام بدلا من مطالبته بالإصلاحات الضرورية أو الرحيل، رغم كون سليمانى رمزا للمشروع الصفوى التوسعى الذى لا يتورع عن استنزاف وإهدار موارد الشعب، بدلا من تطويعها لاستنهاض الاقتصاد المهترئ وتحسين الوضع المعيشى المتردى، لا يفتأ الولى الفقيه يراهن على استغلال عمليات الاغتيال الأخيرة لإحكام قبضته الحديدية على السلطة وتبرير التنكيل بخصومه، توسلا لتعزيز الموقف التنافسى للتيار الأصولى خلال الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها الصيف المقبل.
ولئن كان الردع ينصرف إلى تيقن الخصم من تكبد كلفة فادحة حالة إقدامه على أى سلوك عدوانى، تتجاوز تداعياتها حدود العائد المنتظر من وراء ذلك السلوك، يمكن الادعاء، وبقدر معقول من الثقة، أن استراتيجية الردع الإيرانية فى مواجهة تل أبيب وواشنطن قد أخفقت، بعدما تآكلت صدقيتها إثر اجتراء الأخيرتين على اختراق الداخل الإيرانى وانتهاك ستر دوائره الأمنية والاستخباراتية شديدة التعقيد والإحكام، والعبث بمناطق نفوذها الخارجى وبؤر تموضعها العسكرى القريبة والبعيدة على حد سواء، عبر تنفيذ عمليات نوعية ناجحة وموجعة ضد أهداف استراتيجية متنوعة، دونما اكتراث لأى تهديدات جوفاء أو مراعاة لتراهات الرد الانتقامى، بينما لم يجرؤ الولى الفقيه، فى المقابل، على تنفيذ وعيده المزعوم بالرد المتناسب، سواء بالأصالة أو بالوكالة عبر أذرعه العسكرية المؤدلجة، ولو حتى بنية الحفاظ على ما تبقى من ماء الوجه، أو بقصد استنقاذ شىء من الصدقية المتهالكة لاستراتيجيته الردعية المتهاوية.

التعليقات