سـياسة فـوق البشـر - إبراهيم الهضيبى - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 7:05 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سـياسة فـوق البشـر

نشر فى : الجمعة 8 فبراير 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الجمعة 8 فبراير 2013 - 8:00 ص

يفقد كل العمل السياسى معناه إنْ تحول من وسيلة لتحقيق مصالح الناس وحفظ كرامتهم إلى هدف يضحى من أجله بدمائهم، وتنتهك فى سبيله إنسانيتهم، وهو أمر من شأنه أن يزيد كفر الناس بالسياسة، فيزداد العنف الذى يطال الجميع.

 

•••

 

وثَّقت المنظمات الحقوقية خلال الأسبوعين الماضيين أكثر من عشرين حالة اعتداء جنسى وتحرش جماعى بالمتظاهرات فى ميدان التحرير، وصلت فى بعض الأحيان لطعن المعتدى عليهن بالمطاوى، ولا تزال بعضهن ترقدن فى المستشفيات فى حالة خطرة، بينما نظر جل الساسة للجريمة كواقعة قابلة للتوظيف لا انتهاك ينبغى تحليل أسبابه واتخاذ التدابير الضامنة لمنع تكراره.

 

اختار بعض من يؤيدون الاعتصام التكتم على الجريمة، لئلا تتشوه صورة الثوار بطريقة تؤثر سلبا على تضامن الجماهير معهم فى نضالهم من أجل «الكرامة الإنسانية»، فجعلوا تحقيق الأهداف الكبرى كافيا لتبرير التعتيم على الانتهاكات، وكأن الكرامة الإنسانية مقصد يمكن تحقيقه بتجاهل إهدار بعض الكرامة فى الطريق، وكأن استمرار تجاهل هذا المرض الاجتماعى يمكن أن يؤدى لمجتمع تحفظ فيه الكرامة، فكل المعتدى عليهن عند هؤلاء ثمن عادل يمكن أن «نتحمله» (والكلام بنون الجماعة، يقولها من لم يتحمل هو الثمن) فى سبيل المجتمع ذى الكرامة.

 

أما بعض المعارضين للاعتصام فقد وجدوا فى الجرائم ضالتهم، إذ دلت عندهم على كون المعتصمين والمتظاهرين «بلطجية» يختلفون نوعيا عن أولئك الذين تظاهروا فى يناير 2011، متناسين أن الاعتداءات الجنسية غير مقتصرة على هذه الموجة من المظاهرات (كانت هناك حوادث مماثلة التجمعات السابقة، وازداد عددها تدريجيا لتتحول من حوادث فردية فى 2011 إلى ظاهرة فى 2013)، ولا هى مقتصرة على التظاهرات السياسية (التحرش الجماعى منتشر فى التجمعات، وخصوصا فى الأعياد، منذ عقد تقريبا)، ومتجاهلين أن التحرير يقع فى مصر، سكانه سكانها، وجرائمه لها نظائر فى غيره، والدولة مسئولة عن حفظ الأمن فيه كما فى غيره، كل ذلك يفقد معناه إذا كان المقصد تشويه المعتصمين بغير اكتراث بالمعتدى عليهن.

 

وأما بعض وسائل الإعلام فقد قررت أن تؤدى دورها فى إخبار المجتمع على حساب المعتدى عليهن، فنشرت بعض الوكالات أسماء بعضهن ممن رفضن الخضوع للكشف الطبى لبيان حالات الإصابة، من غير مراعاة لرغبتهن العزوف عن الكلام وإصرارهن على كتم هوياتهن، وكأن مقصد إعلام الناس بالحقيقة يكفى لمزيد من الإهدار لكرامة المعتدى عليهن وانتهاك خصوصيتهن بعد انتهاك أجسادهن، على نحو يحولهن لـ«حالات دراسة» مستباحة، لا بشر لهم إنسانية وخصوصية، وكأن إعلام الناس بالحقيقة يحتاج لكشف هويات المجنى عليهن.

 

•••

 

لا يقتصر الأمر فى حوسلة النساء (أى نزع إنسانيتهن وتحويلهن لوسائل، وهو تعبير نحته الدكتور المسيري) على ردود الأفعال لاعتداءات التحرير، بل يشمل كذلك ــ على سبيل المثال ــ مواقف الساسة حيال مبادرات تأمينهن ضد التحرش، كمبادرة مواصلات السيدات التى أطلقها أحد الأحزاب بقصد تجنيبهن الانتهاك الجسدى اليومى، والتى أثارت ضجة لا لأنها طرحت أزمة تستوجب المعالجة (ربما بسبل أنجع)، ولكن لأنها ــ فى نظر جل منتقديها من الطبقة السياسية ــ رسخت للفصل بين النساء والرجال، وهو نقد لم يصحب ببديل تحفظ فيه كرامة النساء فى المواصلات بغير فصل، وإنما قرر المنتقدون التضحية بأجساد نساء الطبقات العاملة كثمن عادل للحفاظ على «قيم» المجتمع.

 

والساسة أنفسهم غضوا الطرف قبل سنة عن الاعتداء الجسدى من قبل الإخوان على المتظاهرات اللاتى حاولن منع الاشتباك بين القوى التى ذهبت بمظاهرات للبرلمان، والإخوان الذين قرروا منع المتظاهرين من الوصول إليه: كان السكوت لأجل مصلحة سياسية (هى تجنب المزيد من الاستقطاب)، على حساب كرامة المتظاهرات، وبغير موافقتهن، ولم يؤد ذلك للحفاظ على التوافق، فانتهكت كرامتهن بغير ثمن.

 

•••

 

والحوسلة لا تقتصر على النساء، فالمشهد السياسى يقول إن السياسة تستخدم البشر بدل أن تخدمهم، فتنظيم الإخوان ــ الراغب فى تقليل الكلفة السياسية لتراجع الرئيس عن الإعلان الدستورى فى ديسمبر ــ استحل فى سبيل ذلك الدماء، فدفع أنصاره للتظاهر حيث المعترضون، وقوى المعارضة لم تحاول ــ فى موجة العنف الأخيرة فى بورسعيد ــ فهم أسباب غضب الجماهير والمساهمة فى علاج مشكلاتهم وإنما اكتفت بمحاولة تعظيم مكاسبها السياسية المترتبة على غضبهم والضغط لتحقيق مطالب غير متعلقة بمظالمهم (طالبت بتعديل الدستور وبعض مواد قانون الانتخابات)، وشعارات كالشريعة والعدالة الاجتماعية أفقدها الساسة معناها بعد أن صارت تستخدم الجماهير لتحقيق مكاسب انتخابية فى ظل غياب تام للرؤى والبرامج.

 

وتبدو تلك الحوسلة جلية فى الموقف من المتظاهر الذى تم سحله وتجريده من ملابسه فى مظاهرات الاتحادية: فجل الاهتمام انصب على تحميل الخصوم مسئولية الجريمة، وضُغِط على المجنى عليه ليكون أداة فى هذا الصراع السياسى بدل أن ينشغل أطراف الصراع (حكومة ومعارضة وإعلاما) بالتعامل مع الجريمة على نحو يضمن معاقبة الجناة وعدم تكرارها، ولم يكترث هؤلاء كثيرا بالآثار المترتبة على نشر صورة المواطن عاريا على نطاق واسع، فتحقيق «فائدة» كشف الحقيقة يستحق عندهم التضحية بخصوصية المجنى عليه، وإن بغير إذنه.

 

•••

 

إن استعمال البشر كوسائل لمقاصد سياسية، والتضحية بهم على خلاف إرادتهم (بالاستغلال والتضليل والتعتيم) جرم فى جميع الأحوال، وخاصة حينما تكون المقاصد التى يتذرع بها فى ذلك مناقضة لتلك الحوسلة، كالثورة، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، والشريعة، واستمرار الطبقة السياسية فى هذا النوع من الممارسة المستعلية على المجتمع المستخدمة له من شأنه أن يقلص من شرعية النظام السياسى برمته.

 

سيبادل الناس عدم احترام النظام (حكومة ومعارضة وإعلاما ومؤسسات وأشخاصا وآليات) إياهم بعدم احترامهم إياه، ويزيد كفرهم به بتآكل كل شرعية متعلقة بقدرته على خدمتهم واحترامه إياهم، وسيكون من الطبيعى وقتئذ أن تزيد حدة العنف لا السياسى فقط، وانما الانتقامى، الرامى للانتقام من الدولة الجانية، والساسة الجناة، وسيطال العنف وقتئذ الجميع.

التعليقات