ما هى البدائل المتاحة أمام الدولة المصرية للتعامل مع الإخوان لاسيما مع استمرار المراوغة من الطرفين بما يؤدى إلى تعطل مسيرة الإصلاح السياسى وتبدو معها القوانين كما لو أنها تصنع خصيصا لضرب الإخوان، أو للاحتجاج بهم فى تعطيل التطور الديمقراطى.
من منظور مقارن فإن أنظمة الحكم التى واجهت قوى سياسية مشكوك فى احترامها للقواعد المستقرة فى الدولة، سواء كانت ديمقراطية أو غير ديمقراطية، تبنت بديلا من خمسة، يقف البديل المصرى كواحد من أسوأها.
أولا البديل الأردنى ــ المغربى «الاستيعاب القانونى والتحييد السياسى»:
ويسجل لهذا البديل أنه يسعى للاستيعاب القانونى مع سقف سياسى منخفض. فيسمح للإسلاميين بأن يتواجدوا على الساحة رسميا وقانونيا مع خطوط حمراء واضحة جعلت بعض الدارسين توصفها بأحزاب وقوى إدارية وليست سياسية، أى أنها وظيفيا أقرب إلى إدارة المساحة المتروكة لها من قبل الملك من قدرتها على أن تحدد لنفسها مجالا أوسع. ويسير على الدرب نظاما البحرين والكويت.
ثانيا البديل التونسى ــ السورى ــ الليبى «بديل الاستبعاد مع الاستبداد»
ويقوم هذا البديل أساسا على الاستبعاد القانونى والاستئصال السياسى مع وجود مساحة ضيقة جدا، إن وجدت، للتنافس السياسى بين قوى المعارضة المدنية. وهذا البديل مستنسخ من الخبرة المصرية فى عهد عبد الناصر فى أعقاب حادثة المنشية، وكان يمكن أن يستمر هو البديل المصرى فى عهد مبارك لولا أن الرئيس السادات قطعه بالإفراج عن قطاعات واسعة من الإخوان فى مطلع السبعينيات.
ثالثا البديل المصرى فى عهد مبارك «التحجيم دون الاستئصال».
وتبدو الحالة المصرية فى عهد الرئيس مبارك لها خصوصية حتى بالمعايير العربية، حيث يرتفع وينخفض سقف حرية الحركة للإخوان على نحو يوحى بالرغبة فى التحجيم دون الاستئصال، وبالتالى هى درجة من الاستيعاب الجزئى والاستبعاد الجزئى دون وضوح فى طبيعة الخطوط الحمراء، فعمليا يسمح للإخوان بدخول الانتخابات العامة والنقابية والطلابية شرط ألا يفوزوا فيها بالأغلبية، يضاف إلى ذلك أن الدولة تسن قوانين هى أشبه بالعقاب الجماعى، الذى ينال من حرية الحركة المتاحة لجميع القوى السياسية بما فيها الأحزاب الشرعية. وهو ما يجعل الوضع الراهن فى مصر، فى تقديرى، الأكثر غموضا مقارنة بالبديلين العربيين الآخرين.
رابعا البديل الألمانى «الاستبعاد الديمقراطى»:
نص البديل الألمانى الذى جسده دستور 1949 فى ألمانيا الغربية صراحة على استبعاد المتطرفين فى أقصى اليمين، وهم النازيون والمتطرفون فى أقصى اليسار، وهم الشيوعيون من الحياة السياسية، وتكون الانتخابات، ومن ثم مراكز صنع القرار والتشريع والرأى مفتوحة لقوى يمين الوسط ويسار الوسط، ومن فى حكمهما، وفى هذا البديل مزية أساسية أنه يجبر جميع المتطرفين على الاعتدال بأن يغلق عليهم أبواب الشطط، ولكن فى نفس الوقت يفتح لهم نافذة التعبير والمشاركة المشروعة فى الحياة السياسية بأن يكونوا من قوى الاعتدال بالمعايير الألمانية.
بيد أن عيب هذا البديل هو فى صعوبة نقله إلى تجارب أخرى ما لم تقدم قوى التطرف على جريمة تصل إلى حد الكارثة الوطنية يمكن معها قبول فكرة استبعادها أو أن تكون هذه القوى المتطرفة من الضعف بحيث لا يترتب على استبعادها القانونى ما يحدث خللا جسيما فى الجسد السياسى.
خامسا البديل التركى «الاستيعاب الديمقراطى»:
يختلف هذا البديل فى بنيته المؤسسية عن البديل الألمانى، من حيث إنه يستوعب جميع القوى التى تقبل نظريا بقواعد الدولة المدنية والديمقراطية، ويراقبها من خلال مؤسسة تسهر على حماية القواعد فوق الدستورية «supra-constitutional»، والتى لا يجوز الاتفاق على مخالفتها كما لا يجوز العمل على تغييرها أو تعديلها بحكم الدستور نفسه. ولأهميته ومناسبته أكثر للحالة المصرية، فإننى سأستفيض فيه قليلا.
إن التجربة التركية ليست الوحيدة فى التخوف من انهيار الديمقراطية.
فكم من دول تحولت ديمقراطيا، لكنها انكسرت بوصول قوى غير ديمقراطية إلى سدة الحكم فكانت بمثابة ديمقراطية المرة الواحدة، ومن هنا يطرح المدخل المؤسسى فكرة بناء أطر مؤسسية تنشىء وتحافظ على الطابع المدنى والديمقراطى والليبرالى للدولة، وهو ما يقتضى أن يتم تضمين الدستور آليات تسمح بحق جميع القوى السياسية، التى تلتزم بقواعد اللعبة الديمقراطية فى أن تكون جزءا من الإطار السياسى للدولة من ناحية شريطة عدم الركون لنوايا الفاعلين السياسيين بشأن التزامهم بالديمقراطية. وهو ما يتطلب تفتيت السلطة بين القوى السياسية المختلفة على نحو لا يجعل أيا منها، إسلامية كانت أو غير إسلامية، أن تغير قواعد اللعبة السياسية فى مصلحتها متى وصلت إلى الحكم. وفى هذا المقام يمكن أن تتخذ إجراءات ثلاثة على وجه التحديد:
خوفا من أن يؤدى وصول الإسلاميين أو غيرهم للسلطة إلى استبعاد منافسيهم فإنه يمكن أن ينص فى الدستور على ألا يكون رئيس الدولة، فى الدول الجمهورية، من نفس الحزب الذى يشكل الحكومة. فضلا عن ألا يسيطر الحزب الذى يسيطر على أحد المجلسين التشريعيين «وليكن مجلس النواب» على أكثر من ثلث مقاعد المجلس الأخرى «وليكن مجلس الشورى» حتى نضمن أن تظل دائما القرارات توافقية بين أكبر عدد ممكن من القوى السياسية المختلفة.
خوفا من أن تؤدى الديمقراطية إلى فنائها بتصويت المواطنين لقوى غير ملتزمة بالديمقراطية وبأصول الدولة المدنية، فإنه يمكن تضمين قواعد عمل مؤسسات الدولة المدنية والحقوق الليبرالية وإجراءات تداول السلطة ومحاسباتها وموازنتها فى مواد فوق دستورية بحيث لا يمكن تعديلها على الإطلاق أو أن تكون جامدة بحيث لا يمكن تعديلها فور حصول أى قوة سياسية على الأغلبية فى الهيئة التشريعية وإنما يقتضى تعديل الدستور فترة زمنية طويلة تسمح بتداول الآراء والأفكار.
خوفا من أن يؤدى وصول الإسلاميين أو غيرهم للسلطة إلى العبث بدستور البلاد والانقلاب عليه، فإنه يمكن أن ينشئ الدستور آليات محددة لحمايته مثل وجود مجلس أعلى لحماية الدستور يضم فى عضويته مزيجا من الجهات المنتخبة وغير المنتخبة، ويكون لهذا المجلس وحده وبأغلبية خاصة كـ«أغلبية الثلثين» سلطة استدعاء وحدات خاصة من الجيش لحماية الدستور حين الخروج عليه.
البديل التركى والبديل الألمانى هما البديلان الديمقراطيان المتاحان واللذان واجها قوى كان يخشى من أن تستغل الديمقراطية للقضاء عليها أو للنيل من قواعد الدولة المدنية والحقوق الليبرالية لأفراد المجتمع، أما إذا تخلينا عن الديمقراطية فسنجد البدائل العربية الثلاثة تتفاوت فى مساحة الاستيعاب والاستبعاد ولكنها تتفق على أن تظل قوى الحفاظ على الوضع الراهن هى المسيطرة سياسيا بأساليب بيروقراطية ناعمة أو أمنية خشنة.
إن الحالة المصرية تحتاج إلى إعادة نظر فى بنية النظام السياسى كله وليس فقط فى تعديل مادة هنا أو هناك. وليقينى بأن شيئا من هذا لن يحدث فى عهد الرئيس مبارك، فالموضوع كله مؤجل لما بعده ولكن علينا تدارسه من الآن.