«أصبحت جماعات رجال الأعمال الأوليجارك بديلا للحكومة. تم انتخابهم فى البرلمان وشكلوا مجموعات ضغط تدفع بالقوانين التى تخدم مصالح مالية وصناعية محددة بدلا من مصالح المجتمع. كما أمَّن هؤلاء تنفيذ هذه القوانين من خلال ممثليهم فى مناصب الدولة العليا. ولم يكن ذلك يصب فى المصلحة العامة». لم تكن مصر هى المقصودة بهذه الكلمات، برغم الانطباق المدهش لها على ما شهدته بلادنا خلال العقدين الماضيين. هذه كلمات الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى مطلع 1996 فى حوار صحفى كان يصف فيه خصومه الأساسيين فى معركته التى استعاد بعدها التوازن للعملاق الروسى اقتصاديا وسياسيا.
يعرف بوتين الأوليجارك، وهى الكلمة التى يقول إنه لا يحبها وتطلق على رجال الأعمال الكبار الذين أنتجتهم عمليات الخصخصة الفاسدة فى روسيا المتحولة إلى سياسات السوق، بأنه «شخص يستحوذ على مال مسروق، ويستمر فى نهب المال العام من خلال استغلال صلاته الخاصة مع أجهزة الإدارة والسلطة».
خاض بوتين معركة ضارية ضد هؤلاء منذ وصوله للسلطة، قيل وقتها فى الغرب إنها ضد الديمقراطية. ونجح إلى حد كبير فى تصفية أقوى أجنحتهم بسياسة عنيدة، استخدمت القانون أحيانا. وحين لم يسعفها القانون أحيانا أخرى اعتمدت على الإرادة السياسية المدعومة بالتصويت الشعبى فى الانتخابات.
فبعد تفكيك الاتحاد السوفييتى، وفى خضم عملية تحول جذرى وسريع من سيطرة الدولة لعقود إلى الاقتصاد الحر، تم بيع الشركات بأسعار بخسة لعدد من مدرائها ومن قيادات الحزب الشيوعى الوسيطة، الذين تحولوا إلى أباطرة أعمال فى وقت قصير من خلال التلاعب فى الشراء وفى أسعاره. ومن خلال الخصخصة ظهرت هذه المراكز الاقتصادية الاحتكارية التى سيطرت على مراكز صنع القرار من خلال إنشاء أحزاب وتمويلها ثم دخول الحكومة والبرلمان مباشرة، على طريقة الفكر الجديد المصرية.وجاء رجل الأعمال بيريجوفسكى فى بداية القائمة، التى تلاه فيها كثيرون أشهرهم رجل الأعمال خودوركوفسكى صاحب يوكوس للنفط. وبيريجوفسكى هذا كان مقربا من الرئيس السابق يلتسين، وبنى ملايينه الأولى بحلب شركة سيارات خاسرة كان مسئولا عنها ثم انتقل للسيطرة على شركة الطيران أيروفلوت ثم شركة البترول سيبنيفت فى عملية خصخصة بعشر القيمة العادلة، كما سيطر على 49% من التليفزيون الحكومى، ليصبح النموذج الكامل للأوليجارك، يجمع بين مقعد البرلمان والقرب من الرئيس، والإعلام والمال.
وفور انتخابه فى مارس 2000، على خلفية انهيار الاقتصاد ومستويات المعيشة وانحدار الدور الإقليمى والعالمى لروسيا، خضع رجال الأعمال الأوليجارك لعمليات تحقيق وتقصى من قبل السلطات القضائية التى درست الوضع الضريبى لهذه الشركات وتحققت من السلامة القانونية لعمليات البيع كاشفة فسادا هائلا. وهكذا سقط هؤلاء،واحدا تلو الآخر، فى يد السلطات القضائية عبر غرامات هائلة بسبب الخسائر التى تسببوا فيها للمال العام، ثم عبر إعادة الاستحواذ على الحصص المباعة بالفساد من خلال المصادرة.
وبعد تفكيك هذه الإمبراطوريات الكبرى للأعمال، انتقلت روسيا من وضعية اقتصاد منكمش، مر بإحدى الأزمات الكبرى فى 1998 وهى أزمة طالت أسواق المال العالمية، إلى واحدة من القوى الاقتصادية الكبرى فى العالم مرة أخرى، تصنف الآن فيما يسمى «البريكس» مع الهند والصين والبرازيل، من بين قوى المستقبل الصاعدة. وعاد الاقتصاد الروسى ليصبح عاشر أكبر اقتصاد فى العالم والسادس بحساب معادل القوة الشرائية.
تعلمنا التجربة الروسية أن القانون وحده قد لا يكفى فى إجراء هذه الجراحة العاجلة لاستعادة بعض التوازن فى المجتمع. وهكذا فإن بوتين استخدم شرعيته الانتخابية، التى جلبت النجاح السابق الإشارة إليه حتى لمصلحة قوى رأسمالية أخرى كانت مغبونة، لاتخاذ إجراءات صارمة لضمان نجاح الاستئصال.
وفى مصر فإن أى تحقيق قانونى محض سيتعامل مع نفس الظاهرة التى تعامل معها بوتين سيصطدم بأن القوانين المصرية لم تلاحق تطورات الرأسمالية المصرية. فبينما يمكنها محاسبة من اشترى قطعة أرض بقيمة تقل عن قيمتها، فإن صلب عملية السلب والنهب «الأنيقة والمعطرة» بعيد عن مجال التعامل القانونى إلا بإعمال الإرادة السياسية وروح القانون.
القانون المصرى بحاله الآن لا يستطيع تقديم حلول ناجعة مثلا فى معمعة تقييم الشركات وأساليب التقييم المالية ولا فى عمليات الاستثمار الخاص المباشر عبر الصناديق المؤسسة فى قبرص وجزر كايمان وفيرجين آيلاندز، والتى كان لها وضع احتكارى فى بيع جميع الشركات، بعد أن ارتبطت ببنوك الاستثمار الكبرى، التى كان إبنا مبارك والمجموعة المتحلقة حولهما شركاء فيها. ناهيك عن غياب قانون لتنظيم وتفادى تعارض المصالح فى حالة اشتغال صاحب المال الخاص فى الدولة أو الحكومة. هذه العمليات التى تستطيع تعقب تشابكاتها فى كل القطاعات وكل الصناعات، وشكلت نبع الحياة والوجود للأوليجارك المصريين، هى الكعكة الحقيقية التى استولى عليها هؤلاء من أموالنا.
لا مناص إذن من عملية سياسية باترة لاستئصال هؤلاء ومصادرة المال المنهوب، وهذه المرة فإن الشرعية مبنية على ثورة وعلى الملايين من أصحاب المصلحة، وهو ما يتجاوز حدود مصالح بوتين وشرعيته بمراحل.
نفس المنطق ينطبق على استعادة المال المهرب للخارج. وتقدره منظمة النزاهة المالية العالمية الأمريكية غير الحكومية ب 32 مليار دولار، فى خمس سنوات فقط من 2004 إلى 2008 من حكم نظيف، وهو ما يقرب من نصف التدفقات الهاربة فى أربع عقود. إذ يفرق دليل عمل أصدرته الأمم المتحدة لاستعادة الأموال المنهوبة والهاربة للخارج فى ديسمبر الماضى، وكتبت عنه فى هذا المكان وقتها، بين المصادرة القائمة على الإدانة الجنائية للأموال المصادرة والمصادرة غير القائمة على الإدانة. «بينما يشتركان فى استعادة الأموال والأصول القائمة وفى ردع المسئولين الفاسدين والمعتدين على المال العام ورجال الأعمال المخالفين للقانون، فإن المصادرة غير القائمة على الإدانة لاتتطلب حكما قضائيا باتا فيها، وإنما فقط إجراءات المصادرة التى يمكن تأسيسها على أدلة ذات مستوى أقل كتوازن الاحتمالات أو مستوى رجحان الدليل. ويساعد هذا فى تخفيف العبء على السلطات»، كما يقول دليل الأمم المتحدة.
هناك قول مأثورلعمدة مدينة أطلانطا السابق أندرو يونج يؤكد أنه «لا شيء غير شرعى لو أن 100 رجل أعمال قرروا أن يقوموا به»، مضيفا أن القوانين لها مظهر التعامل المتساوى لكنها ليست كذلك طالما أنه لا توجد مساواة اقتصادية. «الأغنياء لا يحتاجون أن يسرقوا الطعام من على أرفف السوبرماركت. ولديهم وسائل أخرى للنشل أكثر فعالية من النشل ذاته»، على حد تعبيره.
وفى حملته الانتخابية عام 2000 تحدث فلاديمير بوتين عن ضرورة إنهاء العلاقة القريبة بين رجال الأعمال الكبار والحكومة قائلا إنه «يجب تصفية الأوليجارك كطبقة من أجل خلق ملعب محايد للمتنافسين فى المجتمع وفى الأعمال». والدرس سار فى الحالة المصرية: تصفية الأوليجارك المصريين واستعادة أموال الشعب، من الداخل والخارج،ضرورة لضمان مصالح الثائرين واستكمال مهام التحرير.