من يصنع السياسة في مصر فى هذه الأوقات الحاسمة؟ سؤال تحدد إجابته الكثير. هناك منظور قديم جديد يرى السياسة حكرا على دوائر السلطة العليا، ومن يخطط لها وعليها، ومن يقترب منها ومن يتم إقصاؤه منها.
لا يكترث أصحاب هذا المنظور بغير ما يحدث فى كواليس الدولة والنخب السياسية ومعهم سفارات القوى العظمى. على هذا المنظور، الذى ليس مجرد أداة تحليلية وإنما هو موقف سياسى بامتياز، يلتقى أغلب لاعبى السياسة «المسجلين» فى اتحاد اللعبة الرسمى فى مصر.
على هذا الأساس، يقولون لنا إن هبَّة 30 يونيو هى محض تخطيط مسبق بين الجيش وجبهة الإنقاذ، بهندسة أحد عرَّابى الدولة القدامى (هو من صانعى هذا المنظور فى تأريخ السياسة المصرية ويصل به لدرجة التعويل على تحليل نفسية الزعيم ونوع الأشخاص الذى يرتاح لهم..إلخ)، وتعبئة مالية وإعلامية.. إلخ.
لا يفصح سياسيو جبهة الإنقاذ وبعض من يرتادون اجتماعات تحديد الخريطة السياسية الآن عن هذه الفكرة، ربما اتقاءً لحساسيات الموقف الأمريكى غير المرحب، على الأقل شكليا، بهذه السمة الإنقلابية. لكنهم بوضوح يبنون حساباتهم عليها. هكذا غرقنا الآن فى خرائط الطريق ومفاوضات الحقائب الوزارية، وتفاصيل المرحلة الإنتقالية، وهى كلها مفاوضات تتم فى غرف مغلقة.
•••
ويتعامل الإخوان المسلمون، من نفس المنطلقات بالضبط. فهَّبة يونيو هى مجرد إنقلاب عسكرى مصنوع بدعم من السعودية والإمارات (لاحظ هنا التشابه الهائل مع منظور عمر سليمان الفلولى الذى يرى ثورة يناير هى الأخرى كذلك: مؤامرة خارجية داخلية بالاتفاق بين حماس والإخوان المسلمين). استتبع هذا سياسات على شاكلة: تسريب أخبار عن تمرد داخل الجيش. التركيز على انتقاد الفريق السيسي، الذى خان القسم. التوجه المفضوح للأمريكيين للتدخل دفاعا عن نظام «الرئيس المنتخب».
ويكشف الجدل حول إذا ماكان 30 يونيو إنقلابا عسكرياهذه التصورات، التي يتعامل بها من قاموا بالتحرك ومن يوالون التحرك ومن يعارضون التحرك ممن لا يحسبون حسابا جديا للقوة التى تحسم الأمور الآن فى مصر: قوة الميادين وأماكن العمل. والنقاش الفنى بخصوص تعريف الإنقلاب، وتغطية الصحافة العالمية يؤكدان هذا التركيز الهائل على دوائر قصور السلطة بالمعنى الضيق.
لا يرى هذا المنظور، وإن صدح أصحابه على اختلافهم بأنهم هم الذين يعبرون عن إرادة الشعب أو يبحثون عنها فى الإجراءات، فى الجماهير التى تنزل الشارع فى التحرير والاتحادية، أو فى رابعة والنهضة، سوى مجرد ورقة ضغط لا تتمتع باستقلالية ولا وزن فى صناعة السياسة وتوجيهها، بينما تتعلق أهدابهم جميها بواشنطن.
من صنع هبة يونيو؟
مامن شك في انه كانت هناك خطة، وكان هناك مخططون ل ٣٠ يونيو. هناك مهندسون خفيون واتفاقات سابقة تشبه تماما فعل الاخوان خلال الـ ١٨ يوما ومابعدها، حينما نسقوا وعقدوا الصفقات مع عمر سليمان ومن تبعه. لكن الصورة أوسع كثيرا من كل هذا ولا يمكن فهمها دون تحليل كل أعراض الموقف الثورى الذى نمر به.
العرض الأول: هو أزمة حكم مستفحلة. فى مقال له يصنف آصف بيات، أستاذ الاجتماع ودراسات الشرق الأوسط بجامعة إيلينوى الأمريكية، ماحدث مابعد انتفاضات مصر واليمن وتونس على أنها ليست ثورات وليست إصلاحا.
وإنما ثورات تدفع من أجل إصلاح فى وعبر مؤسسات النظام القائم. ويضيف بيات فى مقاله أن هذا يرتب أوضاعا متناقضة: من ناحية تؤمن انتقالا منظما للسلطة يتفادى الغلو الثورى (إعدامات وعنف) لكنها تحمل خطرا مباشرا دائما متمثلا فى ثورة مضادة تعيد النظام القديم بالضبط لأن الثورة لم تنفذ إلى مؤسسات الدولة. لكن أى تحالف حكم نجده الآن فى مصر؟ جزء من هبَّة يونيو هو أن تحالف الحكم (إخوان - عسكر- بيروقراطية - فلول) فشل فى الحصول على وصفة تمكنهم من سلطة مستقرة. وهو وضع مازال قائما بعد يونيو.
بل بالعكس، مازال تحالف الحكم الجديد مهتزا ويبحث عن أرض ثابتة فى ظل صراع بين مكوناته: الجيش وجبهة الانقاذ بمكوناتها الليبرالية والناصرية والثورية وغيرها، وفلول الوطنى الذين يحاولون إعادة تقديم أنفسهم. ناهيك عن أن هؤلاء مازالوا لم يحسموا الأمر مع الحليف القديم. الخلاف بين الجيش والاخوان علامة ضعف فى تحالف حكم يمثل مصالح نظام قديم غير قادر على تسيير الدولة ولا إقناع الشارع الغاضب. هذه أزمة حكم مازالت معنا. ومن شروط أى ثورة أن طبقة الحكم لا يمكنها أن تسير فى طريقها القديم. هذا عرض واحد وهو عرض ضعف وليس عرض قوة تحدد كل شيء كما يراد لنا أن نعتقد.
•••
أما العرض الثانى للموقف الثوري، هو أن تزيد أوضاع الناس سوءا وحدة أكثر من المعتاد. أزمات فى البوتاجاز والخبزوالكهرباء وارتفاع أسعار هائل وارتفاع فى البطالة بدلا من توفير وظائف وتدهور الخدمات العامة. وهذا كله من ملامح ما قبل 30 يونيو.
ويتسبب هذا فى العرض الثالث للموقف الثورى فهو زيادة ملموسة فى نشاط وفعالية الجماهير غير المسيسة سابقا مدفوعة بأزمة الحكم وسوء الحال إلى التصرف السياسى المستقل. فى مقال بيات يعتبر أن هذا الضغط المستمر، عبر الميادين والإضرابات والاحتجاجات والمجتمع المدني، هو السبيل الوحيد فيما يسميه بالإنجليزية Refolution أو «الثورة الإصلاحية» لتحقيق أى تحول أصيل عبر إصلاحات فى النظام أو الأوضاع الاجتماعية والطبقية.
هذا النشاط الثورى لم ينقطع أبدا منذ ثورة يناير. الناس لم تنزل الشارع فى 30 يونيو نتيجة تحريض الإعلام واتفاقات عرَّابى الأنظمة السابقة المعاد اكتشافهم، وإنما كانوا فى الشارع أصلا فى صورة ما قالت لنا رئاسة مرسى إنه تحديات لها: أكثر من 5000 مظاهرة، و7700 احتجاج اجتماعي. الاتفاق حاول استباق التحرك الشعبى الآتى فى كل الأحوال لتحجيمه وتأطيره وليس العكس. وسيفضح الموقف من هذه الاحتجاجات ترتيبات الحكم الجديدة. (لم يطق أحد مذيعى مبارك وفلوله صبرا حتى يطالب فى برنامجه بمجرد عزل مرسى بوقف الإضرابات والاحتجاجات الاجتماعية، «فالوطن لم يعد يحتمل». وهذا أمر لن يختلف عليه كل من هم فى تحالف الحكم القديم أو الجديد، من إخوان وعسكر وفلول مبارك وأغلب جبهة الإنقاذ.
•••
الملايين التى نزلت الشارع فى 30 يونيو وتمت دعوتها للنزول مرة أخرى أمس، لا سيطرة لأحد عليها، وهى وإن رحبت بتدخل فوقى يدعم مطالبها بعزل مرسي، فهى لن تسمح بنظام استبدادي، فمطلبها الأول هو انتخابات مبكرة. والأهم هو أن معاييرها هى مصالحها المباشرة. وفى الأمرين لا يبدو أن تحالف الحكم الجديد، عندما يسوى أموره سيكون قادرا على تلبية تطلعات الكتلة الجماهيرية التى تزداد حيوية وتسيسا.
لاحظ الارتباك الهائل فى اختيار رئيس الوزراء الجديد الذى يكشف مدى ارتباك التحالف الجديد، وعدم سيادة أى من مكوناته وحساسية توازناته الضعيفة. بالإضافة لذلك هناك الشرط الأمريكى المستمر معنا بتمرير قرض الصندوق كشرط للدعم السياسى الأمريكى والاقتصادى الخليجي، وهو ما يعنى الاستمرار فى نفس السياسات التقشفية وإجراءات فرض الضرائب على الفقراء وتخفيض قيمة الجنيه (بما يؤدى له ذلك من ارتفاع أسعار).
وهى نفس الإجراءات التى حاول الإخوان تمريرها دون نجاح، وأخرجت الناس للشارع أصلا. كما أن التحالف الجديد، وإن كان، مثله مثل القديم يربط حباله عند المؤسسات الأمنية، أضعف من أن يفرض قبضة قمعية على شارع جماحه منفلت.
•••
يستمر الموقف الثورى ويستمر القول الفصل فى الشارع. هل علمتم من الذى يصنع السياسة حقا الآن فى مصر؟