تخوض مصر تحولها الحكومى الثالث غير المخطط إلى حد كبير خلال عامين ونصف العام فحسب. ومن المرجح حدوث تحول رابع بعد شهور (ونأمل أن يكون أفضل تخطيطًا).
على وجه الدقة تقريبًا، وبفعل الظروف بكل تأكيد، هذه مرحلة معقدة ودقيقة من تاريخ البلاد الطويل الذى يبعث على الفخر، وتتجاوز عواقبها إلى حد بعيد حرص الخمسة وثمانين مليون مصرى على جنى ثمار ثورتهم الملهمة وتجنب الانزلاق إلى صراع أهلى.
فى الأسابيع المقبلة، سوف يتركز جهد كبير على إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، ومراجعة الدستور، وتعزيز مؤسسات الدولة ـ وينبغى تكريس هذا الجهد بشكل عاجل لتحقيق ذلك.
ولتحسين إمكانية النجاح هذه المرة، ربما ترغب القوات المسلحة المصرية (المسئولة عن البلاد الآن) والساسة المصريون (الذين بدأوا العمل بهمة لتسلم دفة الحكم) فى أخذ هذه الرؤى المتعمقة التسع التالية فى اعتبارهم. وقد استخلصتها من تاريخ البلاد، قديمه وحديثه، وكذلك من التجربة الدولية.
سوف تقدم كل رؤية فى حد ذاتها لمصر فوائد محتملة خلال تحول آخر يتسم بالدقة وقد يكون غير مستقر. لكن أثرها مجتمعة أكثر أهمية. فالواقع أن المكسب الجمعى قد يكون أكبر بكثير من مقدار كل جزء على حدة. ويجب أن تضمن مصر اليوم كل ميزة ممكنة كى تخوض بنجاح المستقبل القريب الذى لا يزال يتسم بالتحدى وعدم اليقين ومن المحتمل أن يكون محفوفًا بالأخطار.
لم تعد مصداقية الحكم تُمنَح، بل لابد من اكتسابها كل يوم
فى مصر القديمة، كان الأمر الصعب بحق بالنسبة للنخب الحاكمة هو اكتساب السلطة. لكن ما إن يتحقق لها ذلك حتى يقوم جهاز الدولة بكامله (والمصالح المكتسبة ورأسمالية المحسوبية التى انتعشت حينذاك) بربطها ببعضها للحفاظ على الوضع القائم فى المقام الأول. وكان ذلك يتم بغض النظر عن أدائها.
لكن الأمر ليس كذلك فى مصر الجديدة.
فاليوم، لابد لحكام البلاد ـ مدنيين كانوا أم عسكريين ـ من اكتساب ثقة غالبية المواطنين، على أساس من التردد العالى، والاحتفاظ بها. فهم الآن يتعاملون مع مواطنين مُمَكَّنين ولهم الحق فى التأثير على مصير البلاد، بعد أن عاشوا زمنًا طويلاً فى ظل القمع وثقافة الخوف. والواقع أن الشعور بالملكية الشعبية نادرًا ما كان على هذا النحو من الوضوح والجلاء من قبل.
الاتصال دومًا بحركات الشباب ليس أمرًا مرغوبًا فحسب، بل إن أهميته مطلقة
للمرة الثانية خلال عامين ونصف العام كان الشباب المصرى الملتزم هو من نظَّم ببراعة الانتفاضة الشعبية التى شملت البلاد كلها وقادها. ومرة أخرى كانوا هم عوامل التغيير التى تواجه احتمالات هائلة، وقدموا من جديد نتائج فاقت معظم توقعات «الخبراء»، من حيث الحجم أو المجال أو التوقيت.
فقد أبدى شباب مصر مرة أخرى تنسيقًا وانضباطًا ورؤية مثيرة للإعجاب. وإذا كانوا سيعيدون تجربة ثورة 2011 التى أطاحب بالرئيس مبارك، فسوف يكون ميلهم فى الأسابيع القليلة المقبلة هو التحرك للوراء وإعطاء مقاليد الحكم لعواجيز البلاد. وعلى أية حال فمصر مجتمع تقليدى يحترم السن. (بما أنى نشأت فى الستينيات فكثيرا ما سمعت القول الشائع «أكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة»)
من جانبها، فشلت النخب الحاكمة المصرية باستمرار فى الاتصال بشكل مناسب مع الحركات الشبابية، ناهيك عن الاستفادة من طاقة الشباب ورؤيتهم. وبدلاً من ذلك فهى غالبًا ما تتمسك بالصيغ والممارسات القديمة والمبتذلة. وأثناء ذلك جردت مرارًا شريحة مهمة جدًّا من المجتمع من حقوقها، وقوضت بالتالى قوضت البلاد وحيوتها.
هذه المرة من المهم أن يستمر إشراك الحركات الشبابية بفاعلية فى عملية الحكم، وأن تكون الأجيال الأكبر سنًّا قادرة على دمجهم ماديًّا وراغبة فى ذلك، وإلا فسوف يظل هدف الثورة ـ «عيش، كرامة، عدالة اجتماعية» ـ مراوغًا.
احكموا بطريقة تتسم بالشمول والتعاون والشفافية
مرة أخرى، لا يتحقق هذا بشكل طبيعى لبلد كان يحكمه لقرون عديدة فى العادة نوع من من «الفرعون»، سواء أكان من أهل البلاد أم أجنبيًّا. كما أنه يمثل تحديًا فى مرحلة انتقالية يقودها الجيش.
لابد لحكام اليوم والغد أن يدركوا أن البلاد ستظل تكافح ما لم تتحد غالبية المصريين بسرعة فى ظل رؤية وطنية يتم إعلانها بشكل جيد. فالواقع أن عملية المصالحة السياسية والاجتماعية الوطنية ضرورية إذا كانوا يريديون للبلاد أن تحظى بفرصة للحد من العنف وتكمل محورها الثورى المهم بسرعة، من تفكيك الماضى القمعى إلى بناء مستقبل أفضل.
تجنبوا إغراء التجاوز
وقعت الحكومات الثلاث السابقة ضحية لفكرة خطيرة مفادها أنه يمكنها الحكم من خلال محاباة شريحة بعينها من السكان بينما تفرض إملاءات من أعلى على سائر الشرائح. ولابد لحكومات مصر الحالية والمستقبلية من التصرف بطريقة أفضل لتكون متوازنة، حيث تتبنى طيفًا من الرؤية فى مسعى إحيائى سياسى واجتماعى وطنى.
مكِّنوا الأنشطة الشعبية والمجتمع المدنى كى تنتعش
تُبنَى الديمقراطيات النابضة بالحيوية والناجحة ويحافَظ عليها من أسفل لأعلى، وليس من أعلى لأسفل. ويوفر هذا كذلك تدفقًا مهمًا للمعلومات للطبقة الحاكمة. وهو يشكل مجموعة إضافية من القيود والتوازنات لتعزيز التحول الديمقراطى الناجح والدائم.
زوروا مصر الآن وسوف يبهركم عدد الأنشطة الشعبية الجديدة التى بدأت منذ ثورة 2011. وسواء أكان الأمر يتعلق بالتعليم أم الصحة فهى تقوم بدور مهم فى تحسين الحالة المعيشية للشرائح الأكثر فقرًا وعرضةً للخطر من السكان، وإن كان لا يزال هذا الدور هامشيًّا.
وحتى بعد الإطاحة بالرئيس مبارك، مازال هذا النجاح الفردى يواجه نظامًا يتصارع مع تفويض المسئولية المدنية. ومن خلال تحويل الريح المعاكسة إلى ريح مواتية، يمكن لنخب مصر الحاكمة الجديدة دعم قدر أكبر بكثير من التقدم والاتصال على أرض الواقع.
يسِّروا إشراك المقيمين بالخارج بخَلْق آليات أفضل لنقل الحركة للمجتمع المدنى المحلى
لا تسيئوا تقدير استعداد المقيمين بالخارج لتخصيص الوقت والموارد المالية للمساعدة فى تحقيق أهداف الثورة.
تذكروا أن قليلاً جدًّا منهم تعود أصولهم إلى أسر هاجرت من مصر للتغلب على القمع والحصول على الفرص. وهم معجبون إلى حد كبير بالمصريين الشجعان الذين يوضح تصميمهم الثابت الآن للبلاد إمكانية السعى للوصول إلى سبيل للرخاء الشامل. وهم يرغبون فى المساعدة.
حققوا تقدمًا سريعًا ومطردًا فى معالجة تحديات البلاد الاقتصادية العميقة
أسهمت الظروف الاقتصادية السيئة بشكل كبير فى الإحساس بالإحباط الوطنى وحتى اليأس فى بعض الأوساط، وهذا أمر مفهوم. وعلاوة على ذلك، لا يتمتع اقتصاد مصر بترف الوقت.
إنه يجرى تقويضه كل يوم بسبب دائرة مفرغة تغذى نفسها بنفسها من الاستثمار غير الكافى والنمو شديد الضعف والتضخم وعجوزات الميزانية وميزان المدفوعات وضغوط النقد الأجنبى وهروب رؤوس المال. وكلما طال إهمال هذا الوضع كان الثمن الذى تدفعه الأجيال القادمة أكبر.
لكن لا يتوقع مواطن عاقل حلولاً بين عشية وضحاها للمشكلات المتأصلة بعمق التى طال أمدها وتتعلق بالبطالة المرتفعة على نحو مفزع، وعدم كفاية القوة الشرائية، وشبكات الأمان الاجتماعية المشدودة على نحو مبالغ فيه وتكثر فيها الثقوب، والتفاوت المفرط فى الدخل والثروة. لكن الناس بحاجة ماسة إلى رؤية اقتصادية يتم إعلانها بشكل جيد تصحبها أهداف سنوية من أجل المتغيرات التى يتم فهمها ومراقبتها بشكل مشترك.
تفتقر مصر منذ فترة ليست بالقصيرة إلى إطار اقتصادى قصير المدى موثوق به. وبدلاً من تحديد مقصد واضح والإعلان عن اتجاه استراتيجى وتقديم حزمة سياسات موثوق بها، اختارت الحكومات الأخيرة الإجراءات العشوائية والتمويل الاستثنائى من البلدان الصديقة. وأثناء ذلك جعلوا أنفسهم يصدقون أن مسئولية الحوكمة الاقتصادية يمكن تعهيدها بشكل ما لمنظمات خارجية كصندوق النقد الدولى. ولا يمكن ذلك.
قدموا بعض المكاسب المبكرة
المصريون فى حاجة ماسة إلى منجزات أساسية تعد مجدية ومرغوبة الآن من وجهات نظر كثيرة.
لابد للحكام الجدد من إعادة الأمن إلى الشوارع وإزالة القمامة التى غزت الكثير منها، والتعامل مع انقطاع الكهرباء ومعالجة جيوب الحرمان والفقر الشديدين فى المناطق الحضرية والريفية.
ويمكن تحقيق معظم هذا بواسطة حكومة تتسم بالتركيز والالتزام تستعيد مجموعة فعالة من الخدمات العامة الأساسية. وسوف يحتاج بعضها موارد مالية وخبرة تقنية أجنبية لتكملة الجهود المحلية.
وأخيرًا، لا يغيب نظركم عن سمات تواضع مصر التى تحظى بإعجاب كبير ما تتمتع به من روح دعابة قوية
أى إنسان أمضى وقتًا فى مصر سوف يعرف على الفور ما أشير إليه. فلأن معظم المصريين أتوا من طيبة الفلاح التقليدى، فهم قادرون على التسامح بشكل كبير بتواضع ومرح يدعو للإعجاب.
فى مصر القديمة كانت النخب الحاكمة ترى هذا على أنه طريقة لقمع الجماهير واستغلالهم باستمرار. إلا أنه فى مصر اليوم يمكن أن يكون هذا وقودًا قويًّا للإنجاز المجتمعى الجماعى، بما فى ذلك الخروج بشكل أقوى من الحفر الحتمية الواقعة على أى طريق ثورى.