أستعمل اللغة.. إذن أنا إنسان - قضايا مجتمعية - بوابة الشروق
الإثنين 16 سبتمبر 2024 10:10 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أستعمل اللغة.. إذن أنا إنسان

نشر فى : الجمعة 8 يوليه 2016 - 9:50 م | آخر تحديث : الجمعة 8 يوليه 2016 - 9:50 م
نطرح هنا تأملات حول اللغة والثقافة والعلاقة الرابطة بينهما من جهة، وحول اللغة كرمز أول لكسب الجنس البشرى وحده دون غيره من الأجناس الأخرى رهانَ تاج صفة الإنسانية من جهة ثانية. إنها حصيلة من الأفكار ساعدت على ميلادها محاولة بحوثنا التعمق أكثر فى خفايا ما نسميه عالم الرموز الثقافية وأسراره، والذى بدأنا التعرف إليه والغوص فى أعماقه منذ ما يزيد على عقدَيْن من الزمن.

يكثر الحديث اليوم عن الثقافة فى المجتمعات البشرية بمعانيها العديدة المستعملة مثل ثقافة النخبة المفكِرة، وثقافة النخبة السياسية، والثقافة البيئية، والثقافة الغذائية، وثقافة السياقة، وثقافة المزج اللغوى، وغيرها من الاستعمالات السائدة لكلمة الثقافة فى مجتمعات عصر العولمة. نود هنا أن نركز على العلاقة الرابطة بين الثقافة بصفتها خاصية إنسانية مميزة للجنس البشرى من ناحية، وملكة اللغة المميِزة هى الأخرى للإنسان عن غيره من الكائنات والأجناس الأخرى، من ناحية ثانية. نستعمل هنا مصطلح البعد الثالث للإنسان كمرادف لكلمة الثقافة. ويتضمن كل منهما عندنا العناصر التالية: اللغة والفكر والدين والمعرفة والعلم والأساطير والقوانين والقيم والأعراف الثقافية وغيرها من العناصر غير المادية التى يتصف بها الإنسان وحده. ويأتى مفهوم البعد الثالث للإنسان من اعتبارنا أن الإنسان يتكون من ثلاثة أبعاد «الجسد والروح والبعد الثالث» لا من بعدين فقط «الجسد والروح» كما هو شائع فى الشرق والغرب وفى الجنوب والشمال وفى القديم والحديث.


دور اللغة الحاسم فى إنسانية الإنسان:

عند التساؤل عن أهم عنصر فى منظومة البعد الثالث للإنسان الذى يقف وراء ميلاد منظومة هذا البعد المميز للجنس البشرى، فإن اللغة البشرية المكتوبة والمنطوقة على الخصوص تكون هى وحدها المؤهِلة لبروز منظومة البعد الثالث كما عرفناها أعلاه. فيصعب إذن تخيل وجود بقية عناصر هذا البعد كالدين والعلم والفكر، مثلا، من دون حضور اللغة البشرية فى شكلها المنطوق على الأقل. ومن ثم، جاءت مشروعية اعتبارنا أن اللغة هى أم رموز البعد الثالث جميعا.

يحظى موضوع اللغة باهتمام كبير بين الباحثين. فقد ذهب عالم النفس بنكر Pinker إلى القول إن اللغة هى غريزة فى الإنسان مثلها مثل قدرة الإنسان الغريزية على المشى. أى إنها شىء متجذر ومبرمج فى الطبيعة البشرية. وهذا ما يفسر نجاح كل الأطفال بكل سهولة فى استعمال اللغة. فلو لم تكن المقدرة اللغوية أمرا غريزيا مبرمجا فى عمق صميم الطبيعة البشرية لفشل عدد غير قليل من الأطفال فى تعلم اللغة كما يفشلون فى تعلم القراءة مثلا. وبعبارة أخرى، فالقدرة على استعمال اللغة مسألة متاحة لكل الناس فى الظروف العادية ولا يُحرم منها إلا نزر قليل من الناس لأسباب خلقية أو لأسباب عارضة فى حياتهم. إن حرمان هؤلاء من استعمال اللغة لا يؤدى بالضرورة إلى عجزهم عن امتلاك بدرجات مختلفة بقية عناصر منظومة البعد الثالث، كالتفكير وممارسة العلم والمعرفة والتدين والتأثر بقيم المجتمع وتقاليده.

يرى العالمان نوبل W.Noble وديفدسن I.Davidson، أن اللغة هى أداة التفكير الرمزى عند الإنسان. فهى التى تمكنه من صياغة المفاهيم والأفكار ونشرها بين الآخرين. ففى نظرهما، أن الانفجار الثقافى الكبير The Big Cultural Bang وقع فى دنيا الإنسان بواسطة اللغة. فبها استطاع بنو البشر أن يبتكروا الفنون والتقنيات الجديدة للتعامل مع محيطهم. وهكذا تتجلى مركزية اللغة بوجهيها فى تشكيل هوية الإنسان هذا الكائن الفريد على هذه الأرض. ومن هنا، تأتى مشروعية القول بأن اللغة هى المصدر الذى لا ينضب فى قدرته على مد الكائن البشرى بتاج صفة الإنسانية على مر العصور.

غياب اللغة فى أشهر تعريف للثقافة:

ونظرا لمركزية ملكة اللغة فى نشأة منظومة البعد الثالث أو الثقافة بتعبير علمَى الأنثروبولوجيا والاجتماع على الخصوص، فإن وصف القدماء للإنسان بأنه حيوان ناطق هو وصف مشروع جدا، لأن كلا من اللغة المنطوقة والمكتوبة هما أكثر ما يميز الجنس البشرى عن بقية الأجناس الأخرى، ويعطيه السيادة عليها بواسطة منظومة الرموز الثقافية.

وعلى الرغم من مركزية ملكة اللغة فى هوية الإنسان، وبالتالى فى بروز منظومة الرموز الثقافية فى المجموعات والمجتمعات البشرية، فإن أشهر تعريف لمفهوم الثقافة فى العلوم الاجتماعية الغربية المعاصرة لا يذكر اللغة كعنصر مركزى وأساسى فى صلب منظومة الثقافة. والحال أن اللغة هى مُنشِئة ظاهرة الثقافة نفسها كما بينا سابقا. أى أن هناك علاقة عضوية جدا بين اللغة ومنظومة البعد الثالث عند بنى البشر.

الإنسان كائن ثقافى بالطبع:
يتبين مما سبق أن منظومة البعد الثالث /الثقافة هو بيت القصيد فى هويات الكائنات البشرية. أى أن هيمنة هذا الأخير على بقية الكائنات الحية الأخرى وسيادته عليها تأتى من الجانب غير المادى فى هويته الثلاثية الأبعاد «الجسد + الروح + البعد الثالث» أى من البعد الثالث/ الثقافة. وأن ملكة اللغة هى مصدر تميز الجنس البشرى عن سواه بمنظومة البعد الثالث. فالإنسان، إذن، ليس حيوانا ناطقا فحسب، كما قال قدماء الفلاسفة، بل هو أيضا كائن رموزى / ثقافى بالطبع.
وبعبارة أخرى، إن تميز الكائن البشرى عن سواه من الكائنات الأخرى بالقدرة على استعمال اللغة فى شكليها المنطوق والمكتوب على الخصوص، أهله بطريقة مشروعة لكى يكون وحده مخلوقا رموزيا / ثقافيا بالطبع. وبمصطلح العلوم الاجتماعية الحديثة، يسهل القول إن علاقة الارتباط قوية جدا بين ملكة اللغة عند بنى البشر من جهة، وحضور ظاهرة البعد الثالث فى المجتمعات الإنسانية من جهة ثانية.

أستعمل اللغة إذن فأنا إنسان:
إن التحليل السابق يثبت العلاقة الوثيقة بين اللغة والبعد الثالث/الثقافة، حيث تكون اللغة هى السبب الرئيسى لبروز ظاهرة الثقافة الواسعة والمعقدة عند الجنس البشرى. فملكة اللغة والثقافة الناتجة عنها هما، إذن، سمتان مميزتان للإنسان. أى إن هاتين السمتين هما مصدر إنسانية الإنسان. إذ من دونهما، يفقد الإنسان إنسانيته، من ناحية، ومشروعية سيادته/خلافته فى هذا العالم، من ناحية أخرى. وهكذا يتضح أن اللغة فى شكليها هى المفتاح الأول الذى يمنح الإنسان وحده صفة الإنسانية. فيصح إذن، القول بهذا الصدد على الطريقة الديكارتية: أستعمل لغة إذن فأنا إنسان. فلا معنى للحديث عن أسباب تكريم الإنسان فى هذا العالم من دون الحضور الكامل لملكة اللغة البشرية لديه فى شكليها المنطوق والمكتوب.
قضايا مجتمعية قضايا مجتمعية
التعليقات