العبث بالإصلاح المالى فى الولايات المتحدة - محمد العريان - بوابة الشروق
الأربعاء 8 يناير 2025 10:25 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العبث بالإصلاح المالى فى الولايات المتحدة

نشر فى : الإثنين 8 أكتوبر 2012 - 8:10 ص | آخر تحديث : الإثنين 8 أكتوبر 2012 - 8:10 ص

لقد بدا الأمر وكأنه فكرة ذكية حقا: فلنستخدم تهديدا شعبيا وكبيرا للغاية لحمل الساسة المتشاحنين المتخاصمين على التعاون والقبول بحلول وسط. حسنا، لم تنجح هذه الفكرة حتى الآن، بل إن المخاطر الجسيمة بالفعل أصبحت أكثر جسامة.

 

كلا، أنا لا أتحدث هنا عن أزمة الديون الأوروبية، والتى لا يزال الحل الحاسم لها يتطلب قدرا أعظم من التعاون والمسئولية المشتركة، سواء داخل بلدان منطقة اليورو فرادى أو بين الدول الدائنة والمدينة. بل إنى أشير إلى الموقف المالى المعقد فى الولايات المتحدة المشكلة المائعة التى اكتسبت المزيد من الأهمية بفعل التحذير الأخير من قِبَل وكالة التصنيف موديز بأن الولايات المتحدة قد تفقد تصنيفها الائتمانى المتفوق فى العام القادم إذا فشل الكونجرس فى إحراز تقدم على مسار الإصلاحات المالية فى الأمد المتوسط.

 

والواقع أن الكونجرس الأمريكى وإدارة الرئيس باراك أوباما، بعد أن كبلتهما الجراح الناجمة عن كارثة سقف الديون فى صيف عام 2011 التى قوضت النمو الاقتصادى والقدرة على خلق فرص العمل وألحقت المزيد من الضرر بثقة الأمريكيين فى نظامهم السياسى أدركا ضرورة اتباع نهج مدروس ومتعقل فى التعامل مع الإصلاح المالى. ومن أجل زيادة احتمالات حدوث هذا، فقد اتفقا على تخفيضات مباشرة للإنفاق وزيادات ضريبية يتم تفعليها تلقائيا («الهاوية المالية») إذا عجزا عن الاتفاق على مجموعة شاملة من الإصلاحات المالية.

 

وعلى الورق على الأقل، ينبغى لهذا التهديد الضخم الذى ينطوى على انكماش مالى فظ قد يبلغ 4% من الناتج المحلى الإجمالى أن يكون قد عمل على ضبط وتنظيم الدوافع فى واشنطن العاصمة. ففى كل الأحوال، لا أحد من الساسة يريد أن يذكره التاريخ بأنه مسئول عن دفع البلاد إلى الركود من جديد فى وقت حيث كانت البطالة مرتفعة للغاية بالفعل، وفجوة التفاوت فى الدخول والثروات فى ازدياد، وعدد غير مسبوق من الأمريكيين يعيشون فى فقر نسبى.

 

ولكن حتى الآن لم يجد هذا التهديد نفعا. ولكى نفهم السبب، فبوسعنا أن نستعين بنظرية الألعاب، التى تزود خبراء الاقتصاد وغيرهم بإطار قوى يمكنهم من خلاله تفسير ديناميكيات كل من التفاعلات البسيطة والمعقدة.

 

فالهدف من التهديد بالهاوية المالية كان محاولة فرض «نتيجة تعاونية» على «لعبة غير تعاونية» على نحو متزايد. ولكن فى غياب جهة منفذة جديرة بالثقة (ومع الافتقار إلى ضمانات متبادلة كافية)، شعر المشاركون بأنهم قادرون على كسب المزيد بالاستمرار على سلوكهم غير المتعاون.

 

وبشكل عام، شعر الساسة على جانبى الانقسام السياسى فى أمريكا بأن التنازل من أجل التسوية قد يرى باعتباره علامة على الضعف. وكثيرون منهم بذلوا تعهدات مسبقة على سبيل المثال، الوعود بعدم زيادة الضرائب أبدا يصعب عليهم نقضها، وبخاصة قبيل الانتخابات التى يعتبرها كل من الجانبين ذات أهمية بالغة فى تحديد مستقبل البلاد، وهو ما تجلى فى حملات المرشحين، التى تزداد حدة وفحشا يوما بعد يوم.

 

ومن المرجح أن تتطور حسابات التكاليف والفوائد بعد الانتخابات فى نوفمبر. وعند تلك النقطة، فإن تكلفة تمييز المرء باعتباره متعاونا مع أفراد من الجانب الآخر وبالتالى المخاطرة بالعزل من جانب القوى الأكثر تطرفا فى حزبه قد تتراجع كثيرا. وفضلا عن ذلك، أصبحت فوائد التعاون المحتملة منذ أوائل سبتمبر تشتمل على تجنب خفض التصنيف الائتمانى المحرج فى العام المقبل إذا لم يتحقق الإصلاح المالى للأمد المتوسط.

 

أظن أن البعض سوف يسارعون إلى تجاهل العواقب المترتبة على تخفيض التصنيف من قبل موديز، وهو أمر مغرى بكل تأكيد. فقد تسببت الأزمة المالية العالمية على أية حال فى إلحاق الضرر الشديد بمصداقية وكالات التصنيف ككل. وعلاوة على ذلك فإن الضغوط سوف تكون شديدة لتمييز أى ضربة ذات مغزى للولايات المتحدة نتيجة لقرار صادر عن وكالة أخرى كبرى، ستاندرد آن بورز، بخفض تصنيف أمريكا السيادى فى أغسطس 2011.

 

بل إن ما حدث هو العكس تماما، فبدلا من الارتفاع الحاد عقب التحرك غير المسبوق من جانب ستاندرد آند بورز، استمرت أسعار الفائدة فى أسواق الولايات المتحدة فى الانخفاض، فبلغت مستويات قياسية من الانخفاض. ولقد انعكس هذا الانخفاض المتناقض ظاهريا فى تكاليف التمويل فى وفرة من رءوس الأموال الأجنبية الراغبة فى الاستثمار فى الولايات المتحدة، بما فى ذلك الأموال الفارة من أوروبا. وبالتالى فإن غياب أى تأثير سلبى على التمويل الحكومى قد يدفع البعض إلى تجاهل التأثير المترتب على خفض وكالة موديز المحتمل لتصنيفها فى عام 2013.

 

ومع هذا فإن هؤلاء المعرضين مثلنا بشكل يومى لطبيعة العمل الداخلى للأسواق المالية سوف يتوخون الحذر ضد أى موقف متفائل إزاء التخفيض لمرة ثانية من قِبَل وكالة تصنيف كبرى. وفضلا عن ذلك، لن يكون التأثير المحتمل خطيا بكل تأكيد.

 

ونظرا للطريقة التى تتم بها كتابة عقود الاستثمار وتحديد المبادئ التوجيهية، فهناك اختلاف كبير بين خفض التقييم المنفرد والجماعى. فإذا لحقت موديز بستاندرد آند بورز فى تجريد الولايات المتحدة من تصنيفها (AAA)، فإن النتيجة الأكثر ترجيحا هى انكماش عالم المستثمرين العالميين القادرين والراغبين فى زيادة حيازاتهم من سندات حكومة الولايات المتحدة بمرور الوقت.

 

ومن حسن حظ الولايات المتحدة أن التأثير السلبى المباشر على تكاليف الاقتراض سوف يخفف كثيرا، إن لم يزل بالكامل، بسبب افتقار المستثمرين إلى البدائل المتاحة بسهولة لسندات حكومة الولايات المتحدة، فضلا عن بنك الاحتياط الفيدرالى الذى اشترى كميات كبيرة من سندات خزانة الولايات المتحدة. ولكن هذا لا يشكل مجازفة طويلة الأمد تستحق أن تخاض.

 

فتاريخيا، استغرقت الدول سنوات عديدة من الجهود الشاقة فى مجال السياسات المالية من أجل استعادة التصنيف (AAA). وفى حين لا يستطيع أحد أن يتيقن من حدود الأمر، فهناك حدود نظرية وعملية لعدد السندات الحكومية التى يمكن (وينبغى) وضعها فى الموازنة العمومية لبنك مركزى حديث ويعمل بشكل جيد.

 

وكل هذا يشير إلى أن الساسة الأمريكيين، سواء فى دورة الكونجرس العاطلة بعد الانتخابات أو أثناء الأشهر الأولى من عمر الكونجرس الجديد، سوف يتمكنون على الأرجح من تفكيك الهاوية المالية. واستنادا إلى تقييم القواسم المشتركة المحتملة بين الأحزاب السياسية، فإن مثل هذه التسوية سوف تحد من التأثير المالى الانكماشى بحيث لا يتجاوز 1.5% من الناتج المحلى الإجمالى.

 

ومن شأن هذه الصفقة المصغرة أن تقطع شوطا طويلا نحو الحد من مخاطر الركود الخطير فى الولايات المتحدة. ولكن تأثيرها لن يعادل ذلك النوع من الإصلاحات المالية الذى قد يرضى وكالة موديز. إن مثل هذه الإصلاحات يتطلب إبرام صفقة كبرى بين الحزبين السياسيين الرئيسيين فى أمريكا، وهو ما يستلزم بالتالى الزعامة الحكيمة من الجانبين.

محمد العريان محمد العريان، كبير المستشارين الاقتصاديين فى مؤسسة إليانز، وعضو لجنتها التنفيذية الدولية، وهو رئيس مجلس التنمية العالمية التابع للرئيس باراك أوباما. شغل سابقا منصب الرئيس التنفيذى والشريك الرئيسى التنفيذى للاستثمار فى شركة بيمكو.
التعليقات