فى مطلع 2009، وفى عز الأزمة العالمية، أصدرت منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو) تقريرا بعنوان «الاقتحام والصعود حول التحديات الصناعية التى تواجه الدول الافقر فى العالم». أصر التقرير على أن الدرس الأساسى فى الأزمة التى ضربت الاقتصاد العالمى هو ضرورة العودة لما يسمى بالاقتصاد الحقيقى، الإنتاجى، ولا سيما التصنيع.
وبعد عام كامل، هاهو مدير مركز تحديث الصناعة يتلقى الرسالة، التى لم تلتفت لها الدولة فى تعاملها مع الأزمة عبر خطط تحفيز بقيمة 33 مليار جنيه ركزت بالأساس على البنية الأساسية. يقول أدهم نديم فى حواره مع «الشروق» أمس: «لقد فشلت خطط التحفيز الأولية فى أن تخلق طلبا حقيقيا فى السوق، لأنها تتعلق بمشاريع لا تتسم بالاستدامة، ومن هنا أدركت الحكومات ضرورة تنشيط القطاع الإنتاجى». ويطالب نديم بإعادة صياغة الأولويات لصالح الصناعة والمجتمع الإنتاجى، قائلا: إنه إذا كان أمامه الاختيار بين مد مرافق البنية الأساسية إلى مدينة صناعية أو أخرى سكنية يجب إعطاء الأولوية للأولى.
ويتوافق كلام نديم مع المنطلق الرئيسى لتقرير اليونيدو من أن التصنيع ليس فقط الطريق الطبيعى للتنمية وإنما كنتيجة لعولمة الصناعة، فإنه طريق قد يجلب نتائج غير عادية، ضاربا المثل بكياوتو الصينية، والتى تحولت فى 20 عاما من قرية صغيرة إلى منتج لثلثى الإنتاج العالمى من الأزرار. «هذه الإمكانية للنمو المتفجر خاصية تتفرد بها الصناعة»، كما أجمل التقرير رسالته.
لكن هذا الاستنتاج، الذى بدأ العالم الرأسمالى المتقدم يأخذه على محمل الجد، يتصادم مع مقولات رئيسية قامت عليها السياسة الاقتصادية هناك وعندنا أيضا. أولى هذه المقولات هى حرية السوق المطلقة فى توجيه موارد المجتمع إلى القطاعات المختلفة، وذلك على أساس أنه لا معيار للرشادة الاقتصادية سوى الربح. فبينما يلقى أغلب الخبراء والمحللين باللائمة فى الأزمة الاقتصادية الأخيرة على جشع المضاربين أو ضعف التشريعات المنظمة لأسواق المال، أو حتى تضخم الاستثمار فى الأوراق المالية على حساب الزراعة والصناعة، فإن هؤلاء يغفلون أن ظاهرة تضخم الاقتصاد المالى كانت توجها اقتصاديا رشيدا بمعايير الربح، بعد أن ضاقت معدلات الربحية فى الصناعة. بل إن البعض انطلق من هذا ليعلن نهاية الصناعة لصالح الخدمات.
وفى بلادنا لم نكن استثناء. فقد تراجع معدل الاستثمار فى الصناعة فى 2004، أى بعد ما يقرب من عقد ونصف العقد من الإعلان الرسمى عن تبنى مصر لسياسات الاقتصاد الحر، إلى مالايتجاوز 5%، مخليا المرتبة الأولى لقطاع الخدمات. ورغم بعض التحسن فى وضعية الاستثمار فى الصناعة بعد حكومة نظيف ليرتفع نصيبها منه إلى 25% فى 2006/2007، إلا أن معدل الاستثمار القومى عموما يظل أقل من المرتجى. وبعد أن وصل لأعلى مستوياته خلال أعوام التحرير الاقتصادى، عند 22.4% فى عام 2007/2008، تراجع إلى 15.9% فى العام التالى، ثم إلى 13.8% فى الربع الأول من العام المالى الحالى.
وهنا تجىء المقولة الثانية القائمة على أن الأمل فى الصناعة يقوم على القطاع الخاص. وتكشف معدلات إقراض الجهاز المصرفى لقطاع الأعمال الخاص، وهو مؤشر مهم على الازدهار والركود فكلما اقترض القطاع الخاص زادت استثماراته وزاد النشاط الاقتصادى، عن مستويات متدنية ونمو طفيف متوازيا مع زيادة اقتراض القطاع الحكومى. فبرغم كل ما قدمته الدولة للقطاع الخاص، وكما كشفت كل تجارب التنمية الحقيقية من طرف العالم الشرقى إلى طرفه اللاتينى، لا غنى عن هذه الأداة الهائلة فى يد الرأسمالية. ويشكو نديم من غياب الدولة عن الصناعة قائلا: الحكومة لا تريد أن تتحمل أى عبء، وكأن جيب القطاع الخاص أكبر من جيب الحكومة.
أما المقولة الثالثة الخاضعة للاختبار الآن فهى ما يسمى بالإنتاج للتصدير. وفى حوار مدير مركز تحديث الصناعة، وفى الاستراتيجية الحكومية الجديدة لمضاعفة الصادرات الصناعية إلى 200 مليار جنيه بحلول 2013، تأكيد جديد على أن تطوير الصناعة يقوم على الصادرات.
ويقوم هذا النموذج على استدعاء للنموذج الشرق آسيوى الذى أقام التنمية الصناعية على التوجه للسوق العالمية. لكن المشكلة أن هذا النموذج، وإن كان قد غير اتجاهات التجارة العالمية فى الصناعة، قد ألغى نفسه تقريبا، مصعبا للغاية فرص تكراره بنجاح. وتزداد الصعوبة إلى حد الاستحالة لو أصر من يحاول تكراره على إغفال عناصر دور الدولة والتعليم، وغيرها من العناصر الأساسية فى تجربة ككوريا الجنوبية مثلا.
تقول اليونيدو إن إيجاد أو حتى الحفاظ على شرفة فى سوق تجارة المنتجات الصناعية ليس سهلا، بل إن المنافسة المحتدمة تهدد بتراجع التصنيع فى بعض دول العالم النامى.
لا تنمية بلا تصنيع. وشروط التصنيع فى عالم ما بعد الأزمة تصطدم بالأسس التى قامت عليها خطة حركة الرأسمالية المصرية فى السنوات الأخيرة. وحتى هذه اللحظة، لم تعلن الرأسمالية المصرية عن مراجعة حقيقية أو إعادة توجيه لبوصلتها على الإحداثيات القادمة من العالم. ويبقى مستقبل الرأسمالية فى مصر معلقا بقدرتها على القيام بهذه المراجعة الصعبة، التى لا يمكن القيام بها دون إعادة ترتيب للتحالفات السياسية والاجتماعية فى مصر.