يحمل قيام بعض الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية بالإضافة إلى 13 دولة أخرى، بوقف تمويلها لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين فى الشرق الأدنى «الأونروا» تداعيات خطيرة، ويفاقم من تدهور الأوضاع المأساوية للفلسطينيين خاصة فى قطاع غزة الذى يواجه سكانه محنة إنسانية غير مسبوقة مع استمرار العدوان الإسرائيلى.
وتمثل هذه الخطوة عقوبة جماعية للفلسطينيين ومحاولة لتصفية القضية الفلسطينية، وتمس بقدرة الأونروا على القيام بدورها فى إغاثة سكان غزة الذين يعيشون فى خضم أهوال الجوع والعطش والأمراض ومحدودية المساعدات، ويعتمدون بدرجة أساسية على مساعداتها، كما أنها تؤثر سلبا على الخدمات الحيوية التى تقدمها الوكالة فى مجالات الصحة والتعليم والإغاثة، خاصة أنها تشكو منذ سنوات من عجز فى الموازنة اضطرها إلى تقليص بعض خدماتها المقدمة للاجئين الفلسطينيين فى مناطق عملياتها الخمس فى قطاع غزة، والضفة الغربية (التى تشمل القدس الشرقية)، ولبنان، والأردن، وسوريا. ففى ديسمبر 2022، أكدت الوكالة أنها تمر بأزمة مالية هى الأشد فى الأعوام الأخيرة، محذرة حينها من أن عام 2023 سيكون صعبا فى ظل ازدياد أعداد اللاجئين وحاجتهم للخدمات الحيوية المنقذة للحياة. جدير بالذكر أن الأونروا تعتمد فى ميزانيتها بشكل كلى على مساهمات الدول الأعضاء فى الأمم المتحدة، والمنظمات الإقليمية كالاتحاد الأوروبى.
وتشير المعلومات إلى أن حوالى 5,9 مليون فلسطينى مسجلين لدى الأونروا (والتى تأسست بموجب القرار رقم 302 «رابعا» الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 8 ديسمبر 1949 وبدأت عملياتها رسميا فى الأول من مايو 1950)، ويمكنهم الاستفادة من خدماتها، التى تشمل التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية والبنى التحتية للمخيمات والتمويل الصغير والمحدود والمساعدات الطارئة، بما فى ذلك خلال الفترات التى تشهد نزاعا مسلحا. وتساعد الأونروا نحو ثلثى سكان قطاع غزة البالغ عددهم 2.4 مليون نسمة، وتلعب دورا محوريا فى تقديم المساعدات خلال الحرب الجارية حاليا.
• • •
تأتى هذه الخطوة فى اليوم التالى مباشرة بعد استنتاج محكمة العدل الدولية بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية فى قطاع غزة، وقرارها بإلزام إسرائيل باتخاذ كل الإجراءات التى تمنع الإبادة الجماعية للفلسطينيين فى القطاع وعلى رأسها توفير المساعدات الإنسانية، ووقف سياسة الحصار والتجويع.
جاء الهجوم الإسرائيلى ضد الأونروا بعد قرار محكمة العدل الدولية مباشرة، حيث عملت على ممارسة الضغط على المجتمع الدولى لوقف دعمها وتمويلها للحد من أهمية قرار المحكمة الدولية، لأنه يعطى فرصة لإنقاذ العدالة الدولية وآلياتها، كونها صاحبة ولاية قضائية واختصاص مبدئى بالبت فى قضية الإبادة الجماعية التى رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل.
وبدلا من أن تقوم الدول الغربية، التى علقت تمويلها للأونروا، بممارسة الضغوط على الحكومة الإسرائيلية لتنفيذ قرارات المحكمة، وإدخال المزيد من المساعدات الإنسانية، وتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم (2720)، نجدها تتماهى مع الموقف الإسرائيلى فى العقاب الجماعى ضد الفلسطينيين، تحت مزاعم إسرائيلية غير دقيقة بضلوع عدد من موظفى الوكالة الأممية فى أحداث السابع من أكتوبر، وهو أمر يعكس ازدواجية المعايير الغربية فى التعامل الإنسانى وسياسة الكيل بمكيالين والتضامن مع إسرائيل فى سياستها فى استهداف الفلسطينيين واستخدام سلاح الجوع فى الحرب الشعواء ضدهم لكسر صمودهم وتهجيرهم قسريا لتصفية القضية الفلسطينية.
ولا شك أنه فى ظل العدوان الإسرائيلى المتواصل والوحشى على قطاع غزة، وما نتج عنه من ضحايا ونزوح قسرى وإبادة وتدمير لكل مرافق الحياة والبنى التحتية، أصبح وجود الأونروا وبرامجها أولوية قصوى من الناحية الإنسانية والإغاثية، وهناك ثقة دولية بها كمؤسسة وبتدخلاتها وعملها، وبالتالى فإن التحريض على الأونروا وتشويه سمعتها يمثل هدفا إسرائيليا من أجل تشديد الخناق على الشعب الفلسطينى، لاسيما فى قطاع غزة، والاستمرار بتجويع السكان وإبادتهم وتهجيرهم. فسلطات الاحتلال الإسرائيلى لا تريد الإبقاء على أى منظمة دولية تكون شاهدة على جرائمها ووحشيتها وإبادتها التى تمارسها يوميا فى قطاع غزة.
• • •
ولا تربط إسرائيل بالأونروا علاقات جيدة، حيث سعت على مدار سنوات طويلة إلى تصفية وجودها بعرقلة عملها والتحريض ضدها.
ففى عام 2018، دعا رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو إلى وضع اللاجئين الفلسطينيين تحت ولاية المفوضية السامية لشئون اللاجئين فى الأمم المتحدة وإنهاء وجود الأونروا؛ إذ اعتبرها تعمل لصالح الفلسطينيين وتخلّد قضية اللاجئين. وتعتبر تل أبيب أن عودة اللاجئين تمثل تهديدا ديمغرافيا للأغلبية اليهودية فى إسرائيل، وبالتالى فهى قضية غير قابلة للحل فى أى مفاوضات مستقبلية مع الفلسطينيين، ولذا تدفع باتجاه دمج اللاجئين فى أماكن إقامتهم؛ وبالأخص فى دول الجوار.
ونشر معهد الأمن القومى الإسرائيلى دراسة مطولة فى عام 2020، قدم فيها 4 بدائل فى مقدمتها تفكيك الأونروا ونقل ميزانيتها إلى حكومات الدول المضيفة للاجئين. واقترحت الدراسة التى صدرت بعنوان «70 عاما للأونروا: حان الوقت للإصلاحات الهيكلية والوظيفية» نقل صلاحيات الوكالة وميزانيتها وجميع ما يخصها إلى المفوضية السامية لشئون اللاجئين بالأمم المتحدة.
وخلال الحرب الحالية، أثارت الأونروا غضب تل أبيب بسبب بيانات لها وتصريحات لمسئولين فيها، تتهم الاحتلال بقصف أهداف مدنية بما فيها مدارسها ومراكز الإسعاف. وقال وزير الخارجية الإسرائيلى يسرائيل كاتس، إن «بلاده ستسعى إلى منع الأونروا من العمل فى غزة بعد الحرب».
كما أن مدارس ومؤسسات ومقرات وموظفى الأونروا فى قطاع غزة كانوا أهدافا إسرائيلية بامتياز، حيث تسببت الغارات الإسرائيلية فى مقتل أكثر من 150 موظفا من موظفى الوكالة (وهو أكبر عدد من القتلى يُسجل فى صفوف موظفى الأمم المتحدة فى حرب واحدة منذ تأسيسها)، وجرح المئات منهم، وتدمير الكثير من مقراتها ومؤسساتها، بما فيها تلك التى تؤوى آلاف المدنيين الفلسطينيين الذين هجرهم جيش الاحتلال الإسرائيلى قسرًا من بيوتهم وأحيائهم السكنية.
• • •
إن على الدول التى أعلنت وقف تمويلها للأونروا إعادة النظر بقرارها والتراجع عنه انحيازا للإنسانية واتساقا مع مواقفها المعلنة، بشأن ضرورة حماية المدنيين وتأمين احتياجاتهم الإنسانية الأساسية، لأن وقف التمويل واستمراره سيحرم الشعب الفلسطينى لاسيما فى قطاع غزة من أى فرصة للأمل بمستقبل أفضل، وسيقوض فرص السلام ويدفع المنطقة إلى مزيد من عدم الاستقرار. كما أن ادعاءات مشاركة موظفين من الأونروا فى أعمال عسكرية ضد إسرائيل أمر غير مؤكد، وحتى إن صح هذا، فذلك لا يدين الوكالة التى يعمل بها حوالى 30 ألف موظف منهم 10 آلاف موظف فى قطاع غزة، وبالتالى فمزاعم اتهام 12 موظفا لا يبرر الإجراءات الانتقامية التى حدثت. فيجب التمييز بين ما قد يفعله الأشخاص وما تمثله الأونروا، خاصة بعد قرار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيرش بإنهاء عقود 9 موظفين من أصل 12 موظفا فى الوكالة تم التعرف عليهم حتى بدون إجراء تحقيقات فى هذا الشأن، وقيامه مؤخرا بتعيين مجموعة مراجعة مستقلة لتقييم ما إذا كانت الوكالة تضمن الحياد بعملها وللرد على الاتهامات الإسرائيلية بارتكابها انتهاكات، وذلك بالتزامن مع التحقيق الذى يجريه مكتب الأمم المتحدة لخدمات الرقابة الداخلية فى هذا الإطار.
بالإضافة إلى ذلك، فإن المجتمع الدولى بأكمله عليه دور كبير وهام فى استمرار الدعم القوى والمستمر للأونروا والتى تقوم بدور حيوى فى تلبية الاحتياجات الإنسانية والتعليمية والصحية للشعب الفلسطينى، وتعد شريكا رئيسيا فى الجهود المشتركة لتعزيز العدالة وتحقيق الاستقرار فى المنطقة. وعليه، فلابد من تعزيز دعمها من جانب الدول الأعضاء فى الأمم المتحدة والمانحين الدوليين لتمكينها من مواصلة عملها الحيوى فى تحسين ظروف حياة اللاجئين الفلسطينيين، ومساعدتها فى تنفيذ برامجها الهامة، وهو ما يعكس الالتزام بتحقيق العدالة والإنصاف وتوفير الحماية والرعاية للشعب الفلسطينى، حيث يعد ذلك أمرا حاسما لتحقيق السلام العادل والمستدام والشامل فى المنطقة.