للجادين فقط - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:50 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

للجادين فقط

نشر فى : الأحد 9 مارس 2014 - 8:50 ص | آخر تحديث : الأحد 9 مارس 2014 - 8:50 ص

«فرصة للجادين فقط» عبارة يلجأ إليها القائمون على الدعاية والإعلان، للبحث عن زبائنهم المحتملين الجادين فى البحث عن فرصة للعمل أو امتلاك عقار أو ما شابه، فهى وسيلة لجذب الانتباه من ناحية واختصار طوابير الهواة ممن يضيعون وقت أصحاب العمل أو العقارات باتصالات وهمية من أجل «الرغى» لا «الشراء» أو «التوظف». لاحت فى بالى تلك العبارة وأنا أتابع حال السياسة فى مصر، فلا أحد يبدو لى جادا وهو بشأن خوض تجربة العمل العام أو ممارسة السياسة، إن كان ذلك نشطاء أو أحزاب أو تيارات سياسية أو طوابير من المحللين والخبراء الإستراتيجيين الذين يؤثرون على توجهات الناس ووعيها ليل نهار من على المنابر الإعلامية.

بدأ الناس فى مصر يأخذون حياتهم على محمل الجد أثناء أيام الثورة الأولى بعد سنوات من الجمود والهزل والعزف عن الاعتناء بالشأن العام، وبعد سقوط مبارك سرعان ما تشكلت الأحزاب والتيارات والائتلافات، وبدا أن تغيرا حقيقيا سيلوح فى الأفق يهتم الناس فيه بالشأن العام، سعيا لتنمية وتقدم بلدهم، وهو ما سينعكس لاحقا على حياتهم الشخصية، لكن ما لبثت الأمور أن تبدلت وبلغ «الهزل» مداه فى ميدان التحرير وغيره من ميادين مصر الأخرى، وسرعان ما امتد الأمر إلى الإعلام، وانعكس على الممارسة السياسية للنشطاء والأحزاب، بل والحكومات. حاول رئيس الوزراء شفيق أن يهزل فى موضع الجد، فدعى فى أيام مبارك الأخيرة إلى توزيع «الحلوى» على المعتصمين، وحاول لاحقا أن يتظاهر بأن دعوته كانت جادة، وأصبح حديث الإعلام لفترة عن تحليل «بونبون» شفيق! ثم جاء شرف ليبدو جادا حازما ثوريا، بكى الرجل من فرط التأثر بالضغوط، فحلل الناس بكاءه على أنه جدية، ثم سرعان مابدت أعراض الهزل على سياسته وتصريحاته وأداء وزارته، فغادر ليأتى الجنزورى ويعود الناس ليروا فيه شخصية سياسية جادة تسعى لتنمية بلادها، ثم مالبث أن ظهر هزله فى اليوم التالى لأحداث مجلس الوزراء الشهيرة وهو يسأل أحد الصحفيين الذين وجهوا إليه سؤالا حول الأحداث «بذمتك هل رأيت أحدا من الشرطة أو الجيش يعتدى على المتظاهرين؟».

•••

استمر الهزل مع حكم الإخوان ومحمد مرسى، الذى قدم وعبر عام كامل فاصلا من الهزل بخطبه وتصريحاته وسياساته التى بدت قادمة من عالم آخر، ليصل الرجل إلى أكبر فاصل كوميدى فى تاريخ مصر الحديث بإذاعة لقاء خصصه لمناقشة قضية أمن قومى على الهواء مباشرة! وقطعا لم يكن رئيس وزرائه أفضل حظا فكان للرجل أيضا عالمه الخاص وهو الذى وقف فى لحظة حرجة يشرح أزمة الرضاعة من صدور عارية أمام لفيف من الصحفيين ليضرب الناس كفا على كف.

استمر الهزل دون توقف بعد سقوط مرسى، وملء السياق العام بمجموعة هواة يتصدون لمسؤوليات سياسية جسيمة مدعومون بطوابير هائلة من المحللين السياسيين والإستراتيجيين والأمنيين، ونفر من مقدمى البرامج مما حولوا مصر إلى كوميديا سوداء لا تعرف حين تنصت إليهم هل تضحك أم تبكى أم تموت كمدا، وهم يسطحون عقول الناس بتحليلات ساذجة غير مسئولة ولا معقولة وتفرد لهم ساعات الهواء بلا توقف، بل إن بعض مؤسسات الدولة ومسئوليها حرصوا على تكريم بعضهم، لا تعرف لماذا يكرمون ولا ماذا قدموا ولا هى ماهية التكريم، وربما فقدت شهيتك أصلا للمتابعة من فرط التهريج والمسخ والهزل الذى اعترى أداء الدولة ومسئوليها ونخبتها إلا من رحم ربى.

•••

رجل وحيد ومؤسسة واحدة بدت وكأنها خارج السياق، فراهن الكثيرون على الرجل والمؤسسة، فالأخيرة قوية ومنظمة ومنضبطة، ولها باع فى العمل التنموى والإدارى، لا وقت لرجالها للانخراط فى وصلات تهريج أو هزل وتفاءل الكثيرون لعله خير! إلا أن الصدمات بدأت تتوالى، فخلط الرجل حديثه الجاد دائما بالهزل حين تحدث للملايين عبر الأثير سائلا إياهم «انتو مش عارفين انكوا نور عنينا ولا إيه؟» كانت الطريقة صادمة لكثيرين، ولكن بررها البعض من أن الرجل ومؤسسته يعرفون من أين يؤكل لحم الكتف وأنه يحاول أن يطمئن جماهير الشعب الذى لا يجد من يحنو عليه!

فأتت الأيام، حتى وصلنا إلى فاصلا كوميديا جديدا كانت المؤسسة هى صانعته، حين خرجت بإعلان على هامش حضور رسمى لرئيس الوزراء ووزير دفاعه وداخليته ولفيف من المسئولين بإختراع جهاز معجزة يكشف عن العديد من الأمراض بل ويعالجها فى الحال!!! شكل الأمر صدمة وخاصة مع خروج رجل يحمل على كتفه رتبة كبيرة يعلن على الهواء عن مشروعه وعن محاولة مخابرات أجنبية إختطافه لمنعه من إكمال مشواره، سخر الناس من هذا الهراء وتخيل الجميع أن المؤسسة القوية ستخرج فى الوقت المناسب لإيقاف الفقرة الكوميدية، لكنها لم تفعل، فواصل الرجل تصريحاته ومعه فريقه البحثى من نفس المؤسسة ليبشروا الناس بأن الجهاز الجبار لا يعالج فقط الأمراض التى تم الإعلان عنها مسبقا ولكنهم أضافوا إليها سلسلة جديدة من الأمراض المستعصية التى أعيت علماء العالم بأثره، ليتناول الإعلام الخبر ويرفض النقاش العلمى بشأنه مروجا للجهاز المعجزة، ولأن نفر من المطبلين اعتبرها فرصة للدعاية للرجل القوى، فقد تم اعتبار ذلك كله من قبيل التأكيد على القدرات الخارقة للمؤسسة وجدارتها بحكم البلد! ثم حاول آخرون ربما عن حسن نية أن يدعوا جمهور المنتقدين والساخرين التعامل بموضوعية مع اكتشافهم المعجزة، لدرجة أن إحداهن دعت إلى حرمان المشككين من العلاج بالجهاز.

ضحك من ضحك وبكى من بكى وصدق من صدق، لكن حقيقة واحدة مؤلمة بدت لائحة فى الأفق، الهزل لم يستثنِ أحدا فى مصر، والخرافة أصبحت عقيدة جديدة لتسكين أوجاع الناس ومداعبة أحلامهم، والكارثة أن المتورط هذه المرة هى المؤسسة الوحيدة القوية الباقية التى راهن عليها الكثيرون.

•••

بكل تأكيد فإن الأوجاع فى مصر أكبر من أن يعالجها شخص أو مؤسسة بشكل منفرد، ولا أشك للحظة أن مصر مازال بها جادون، كلٌ فى مجاله يبحث عن حق تنمية البلد وتقدمها، كما أنى لا أقبل (ومعى كثيرون) أن يتم تصيد أخطاء للمؤسسة العسكرية فى مصر من أجل تشويهها أو شرذمتها، لكن هنا المعضلة، المؤسسة ورجالها تورطوا فى الشأن السياسى، ولأن الأخير هزلى بطبيعته وملىء بالصقور والمنافقين والانتهازيين والمقامرين والهواة القادرين على تحقيق أكبر قدر من المكاسب، ولأن الحياة السياسية فى مصر مهترئة بالفعل فإن مزيدا من تدخل المؤسسة فى السياسة ومقامراتها سيكشف تدريجيا عن نقاط ضعفها وسيعريها أمام الرأى العام بل والعالم كله، ولن يكون لها أى قدسية مع مرور الوقت خاصة أن جمهور الموجوعين والمتألمين الباحثين عن معجزة للخروج لن يرحموا أحدا حاول التلاعب بهم وبأحلامهم وأوجاعهم من أجل مكسب سياسى هنا أو هناك.

مصر لن تقوم إلا بعد التخلص من مهرجيها وهواتها وإبعادهم عن التصدى للشأن العام الذى هو موضع الجد، حيث لا هزل معه ينفع ولا يشفع، مصر تحتاج إلى الجادين المحترفين المتخصصين كل فى مجاله، فالطبيب يظل طبيب، والاقتصادى يتصدى لمشاكل الاقتصاد والمالية، والأمنى يبحث عن حلول لعالج منظومة الأمن المهترئة، والسياسى يبحث عن قواعد شعبية وبدائل عملية واقعية، وموقع المؤسسة العسكرية ورجالها فى كل ذلك هو الدفاع والأمن القومى، قد تساعد فى هذا الشأن أو ذاك اذا ما استدعت الضرورة، لكن أن تتصدى للاقتصاد والأمن والسياسة والصحة، بل ولأمور الترفيه والحفلات والأفراح، فهذا درب من دروب الانتحار، الذى سيستنزفها أولا ويفرغها من رجالها الجادين ثانيا، ثم يعريها أمام الجماهير فى الداخل والخارج فيجعلها فريسة للمتصيدين. إدركوا من يريد حقا لكم الخير والقوة والصمود، ومن يدفعكم دفعا لورطة كبرى بدأتم فى دفع ثمنها وستدفعون المزيد لو أكملتم هذا الطريق، فمستقبل مصر لن يكون إلا للجادين فقط ولا مجال للهزل فى المشهد، ومازالت مصر تبحث عن جادين فهل تجدهم؟

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر