فى مواجهة التحديات والعقبات التى تمنع انطلاق مرحلة إيجابية جديدة فى العمل العربى المشترك، دعت «الشروق» عددا من الكتاب والمفكرين والمتخصصين العرب لإجراء حوار بشأن الشروط التى يجب توافرها فى دولة أو ائتلاف عربى يتولى مهام القيادة فى النظام العربى ويتغلب على هذه التحديات. وكان أول من استجاب لدعوتنا المفكر العربى الكبير ووزير التربية والتعليم الأسبق فى دولة البحرين الدكتور على فخرو. وبطبيعة الحال فإن الآراء المنشورة فى سلسلة مقالات «حوار مفتوح ــ من يقود الأمة نحو عمل عربى مشترك» تعبر عن أصحابها فقط وليس عن وجهة نظر «الشروق».
علينا أن نؤكد على مجموعة من الثوابت التى لا خلاف عليها؛ أولها: أن الحوار الدائر الآن حول قيادة الأمة العربية لا يعدو أن يكون جدلا سياسيا، ولا يرقى إلى مستوى الحوار الفكرى، ويبعث ذلك على الطمأنينة النسبية؛ فلم يدحض أحد الفكر القومى العربى أو العمل العربى المشترك، وبين المتجادلين إيمان بالمصلحة القومية العليا، والتى هى جمع للمصالح الوطنية للشعوب العربية، والفكر القومى دشن منذ بداية القرن المنصرم وأسس له جورج أنطونيوس فى كتابه المرجعى يقظة العرب. وعلى الرغم من محاولات عديدة لتحدى الهوية العربية وتخطيها إلى هوية غامضة تتصل بالعالم الإسلامى بدءا من المؤتمر الإسلامى فى مكة عام 1926، وإنشاء منظمة المؤتمر الإسلامى عام 1969؛ فإنها لم تفلح، وهكذا؛ فإن الجدل السياسى الحالى حول قيادة الوطن العربى لا يتطرق إلى الهوية العربية ولا إلى المصالح القومية المشتركة، ويؤكد على الأمن القومى العربى فى تشابكه وتكامله، وثانيها: أنه بالرغم من التجاذب السياسى حول قيادة العرب اليوم من جانب الخبراء؛ فإن الشواهد تؤكد أن القيادات العربية وصانعى القرار لم ينشغلوا بهذا السؤال المثار، وإنما يجتهدون فى تحديد التهديدات الإقليمية والتشاور الجاد فى كيفية مواجهتها، ويدركون أن التهديد الرئيسى يتمثل فى دول الجوار غير العربية؛ تركيا وإيران وإسرائيل، ويتلمسون استراتيجيات وخطط دحض أطماعها، وفى هذا الصدد، يتم التنسيق المباشر بين أبو ظبى والرياض والقاهرة، وقد يكون من اللائق تذكر ما قاله المرحوم الأمير سعود الفيصل فى فرنسا، وما ذكره الشيخ عبدالله بن زايد فى الجمعية العامة للأمم المتحدة فى حق مصر فى أعقاب ثورة يونية 2013، وثالثها: هناك إجماع على أن المصالح القطرية لها أولوية على المصالح القومية العليا، إذ أن كل صانع قرار عربى مسئول مسئولية مباشرة عن مصالح شعبه ودولته، بيد أنه لا يوجد تعارض أو تناقض بين المستويين من المصالح؛ فالأمن الوطنى لأية دولة عربية هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومى العربي؛ فمما لا شك فيه أن ما حدث فى العراق وما يحدث فى ليبيا وسوريا واليمن والصومال يخصم من الأمن القومى العربى، ويكرس التهديدات الخارجية خصوصا من دول الجوار غير العربية، إلا أن ذلك يستلزم بالضرورة ليس فقط إحياء معاهدة الدفاع والتعاون الاقتصادى العربى لعام 1950، وإنما التعاون والتنسيق العسكرى والاستراتيجى العربى على أعلى مستوى.
***
ومع ذلك، توجد تحديات عالمية وإقليمية وداخلية ينبغى أن نتداركها ونكرس لها بعض الجهد والوقت؛ فمن ناحية، هل لا زالت الرؤية العربية والهوية القومية تشغل الأجيال الجديدة خصوصا تلك التى اكتسبت خبرتها وتعليمها فى الغرب أو الشرق، أرى أننا إزاء المواطن الكونى الذى يفكر ويتفاعل عبر القوميات، بينما مجتمعه منغلق على الذات.
تحدى الولاء والانتماء والهوية الوطنية كجزء نشيط فى الهوية العربية. ومن ناحية أخرى، يقف العالم على أعتاب حرب عالمية ثالثة لإعادة هيكلة النظام الدولى، وتحديد قياداته المستقبلية، والتوصل إلى هوية عالمية جديدة، وتحقيق التوازن المفقود بين الموارد الدولية (الناتج الدولى الإجمالى) والديون العالمية. إن الديناميات التى تحرك العالم اليوم تستلزم من الوطن العربى أن يحدد موقفه فيها، لدينا مجموعة البريكس، والاتحاد الأوروبى، ومجموعة أمريكا اللاتينية والاتحاد الإفريقى، والولايات المتحدة واليابان؛ فأين الأمة العربية، خصوصا فى ضوء العلل التى أصابت جامعة الدول العربية والوهن الذى أصاب العمل العربى المشترك؟ والسؤال المباشر هو: هل تستطيع الدول العربية منفردة النجاة من نيران الحرب العالمية الثالثة وتداعياتها من إعادة التقسيم والتجزئة واحتمالات السيطرة الأجنبية، أم أنه يمكن للعمل العربى المشترك أن يكون أكثر فاعلية، وربما يكون من المفيد أن نستمد بعض الدروس من الاتحاد الأوروبى؛ حيث تقوم ألمانيا، وهى أغنى الأعضاء بتقديم دعم مالى ضخم للدول التى تفتقر إلى الموارد، كما حدث لليونان، وما يحدث لإيطاليا وربما أسبانيا. فى الوقت ذاته تنشط فرنسا وبريطانيا وإيطاليا فى حلف الناتو، ومما يلفت النظر أن مقر البرلمان الأوروبى وحلف الناتو يقع فى بروكسل عاصمة بلجيكا التى لا تزيد مساحتها على 30000 كيلومتر مربع، وعدد سكانها عن 11,5 مليون نسمة.
ومن جانب ثالث، هل يمكن التحول فى العمل العربى المشترك من بناء المؤسسات السياسية التى وهنت وتأزمت، إلى الأداء الوظيفى، والذى يتضمن بالضرورة إعادة توزيع الأدوار أو القيادة لمن يريد، بين مختلف الأقطار أو التجمعات كل حسب الوظيفة أو الأنشطة التى تملك لها ميزة نسبية؟ فى هذه الحالة لا يثور السؤال حول مَنْ يقود، بل يثور حول مَنْ يؤثر؛ فالأولوية لملء الفراغ الاستراتيجى لمجموعة الدول التى تملك قدرات عسكرية متميزة وكافية، والتنمية المستدامة تقف وراءها الدول الأكثر ثراء، والتى تملك صناديق سيادية مهمة، والنهضة التكنولوجية بما فيها الرقمنة والثورة الصناعية الرابعة، وما بعدها تتكفل بها الدول التى قطعت شوطا ملموسا فيها، والبنية التحتية تتولاها الدول التى لها سبق مهم وخبرات تراكمية.
***
فماذا بعد؟ رغم الجدل السياسى الدائر والحاجة إلى حوار فكرى عميق، ربما نكون فى حاجة إلى منصات وطرق وسبل أفضل للبحث فى مآل الوطن العربى، بعبارة أخرى هل يمكن ضبط البوصلة العربية على الاتجاه الفاعل، والطرح التالى معروض للنقاش الوطنى والقومى البنَاء؛ تبادر أبو ظبى بعقد اجتماعات قمة عربية فى شكل خلوة مغلقة غير رسمية تناقش فيها الهموم الاستراتيجية والحياتية بأريحية ودون قيود؛ فالقيادة هناك تملك من المبادرات ما يمكن أن يؤسس لعمل عربى مشترك يحقق المصالح الوطنية ولا يغفل المصالح القومية العليا ــ يأتى أمام عينى الآن قرارات المرحوم الملك فيصل والمرحوم الشيخ زايد بشأن قطع البترول العربى عن الغرب لمساندة الجيشين العربيين المصرى والسورى فى حربهما ضد إسرائيل، ويرتبط بذلك أنه قد شاركت معنا فى حرب أكتوبر 1973 قوات كويتية وعربية أخرى ــ يلجأ العالم كله إلى لقاءات الخلوة للنقاش الصريح والمباشر وتناول أعقد القضايا بعقل مفتوح، تقوم الرياض بدعوة مراكز البحث والفكر والسياسات المنتشرة فى الدول العربية، ولكنها منكفئة على ذاتها ــ إلى حد كبير ــ وتركز على القضايا الدولية أو الإقليمية أو حتى الوطنية الوقتية، وإن كانت مُلحة، ربما يكون من المناسب أن تتواصل تلك المراكز، وتكرس الموارد والطاقات الخلاقة لديها، وتكفل جهودها المشتركة للبحث فى التوقعات والتنبؤات متوسطة وطويلة المدى بشأن العمل العربى المشترك من حيث التهديدات والقدرات والاستراتيجيات المستقبلية، وتقدم أوراق سياسات للقادة العرب، تستضيف المنامة أو مسقط وزارات التعليم العربية التى تكلف بوضع مقرر موحد للدراسات الاجتماعية واللغة العربية للمدارس العربية كلها، وأود الإشارة إلى أن مقرر الدراسات الاجتماعية فى الولايات المتحدة رغم تنوعها واتساعها، هو مقرر موحد، وظيفة هذا المقرر، وكذلك مقرر اللغة العربية، ليس فقط دراسة التاريخ أو الجغرافيا أو قواعد النحو، ولكن الأهم بناء الهوية العربية دون إغفال الانتماءات الوطنية، وهذه فكرة غير مكلفة ماليا، وإن كان مردودها السياسى والتربوى لا حدود له، وربما يعقد الكُتَاب والأساتذة والمفكرون العرب لقاءات فكرية دورية عبر الفضاء الافتراضى بأية وسيلة تكنولوجية، وأتمنى أن تقوم الرباط بالترتيب لهذه الاجتماعات بقصد التوصل إلى صياغات تنهض بالوطن العربى فى عالم شديد القسوة، وأخيرا، تقوم القاهرة بدعوة وزراء الدفاع ورؤساء الأركان العرب لمناقشة الفراغ الاستراتيجى فى المنطقة وتهديدات دول الجوار والإرهاب الدينى، والتوصل إلى صيغ تعاون وتنسيق عسكرى عربى يحفظ للأمة كيانها وبقاءها، هكذا، ينتقل الحوار من جدل سياسى إلى عمل تنتظره بشغف الشعوب العربية.