يمثل التجديد ممارسة لأزمة لكل شيء، لعبة، أو فكرة، أو سلعة، أو عملية إنتاجية، أو تسيير لمؤسسة أو دولة... إلخ.
تتزايد الحاجة للتجديد كلما اقترب الواقع، بشأن التطوير أو معالجة الإشكاليات والمشكلات، إلى الانسداد. عندها تتكاثر النداءات المطالبة بالتجديد باعتباره المخرج والحل.
المعضلة الجوهرية بشأن التجديد فى حياتنا، مصريا وعربيا، تكمن فى سطحيته، مما يتسبب فى الجمود، ويُفاقم من التدهور.
تنوعات عديدة من وقائع حياتنا تشهد هذا التفاقم وتُجسده. منها ما ينشأ من المجريات الرسمية (المؤسسية) للأمور، ومنها ما يتمثل فى مجريات أهلية صرفة (بمعنى علاقات المواطنين ببعضهم)، ومنها أيضا ما يبزغ على الحدود بين هذا وذاك. إنه نهج تقليدي، بائس وخطير، فيما يلى إشارة لبعض نماذجه:
- مشكلة التعامل مع الآخر بعنف بتنصيب الذات، سواء فرد (أو كيان)، كمدعى، وكقاضى، وكمتخذ قرار، وكمُنفذ للقرار. من الأمثلة تَهَجُم مواطن على شقة جارته، بخلفية عدم رضاؤه عن سلوكها، وإلقائها من الشباك لتسقط فى الشارع ميته.
- مشكلة التنمر (و/ أو التحرش) بالإناث، بخلفية عدم الرضا عن شكلهن أو ملابسهن، مثلا.
- فضيحة انقضاء دورة برلمانية دون تنفيذ حكم محكمة النقض باستحقاق أحد المرشحين للعضوية بديلا لآخر ثبت نجاحه بالخطأ.
- إشكالية عدم اللجوء إلى المعرفة العلمية فى بعض المقاربات الحكومية، أو البرلمانية، لقضايا تنموية أو إدارية... إلخ. ذلك على غرار التخلص من كيانات مثل شركة الحديد والصلب، والهيئة القومية للرقابة والبحوث الدوائية، أو توليد توجهات مثل العزل من العمل بغير الطريق التأديبى، أو استقدام شركة أجنبية لتشغيل السكك الحديدية.
هذا، ومن الملاحظ، فى التعامل مع عموم الإشكاليات والمشكلات، لجوء الجميع تقريبا، مسؤولين ومفكرين وإعلاميين، فضلا عن نشطاء الوسائط الاجتماعية (مثل الفيسبوك)، إلى مطالبات تقليدية على غرار "تجديد الفكر الديني"، و"تغليظ القانون"، و"الاستعانة بالأجنبى".
ومع الهدر البالغ فى الطاقات والزمن، نتيجة هكذا اتجاهات، تتزايد حالة الوقوف فى المكان استفحالا.
وهكذا، تتعملق الإشكاليات والمشكلات فى غيبة علاجات حقيقية، الأمر الذى سيتواصل دوما فى غياب "التجديد الحقيقى للعقل"، والذى بدونه يستحيل التجديد فى أى مجال، دينى، أو تشريعى، أو سياسى، أو أمنى، أو تنفيذى... إلخ، مما يُغلق المستقبليات.
من هنا يجتهد الطرح الحالى فى الإشارة إلى معنى تجديد العقل، وأدوات تجديده، والمخرجات المتوقعة لهذا التجديد.
أولا- معنى تجديد العقل
يمكن الإشارة إلى العقل باعتباره مجموعة الإدراكات القائمة على (والناجمة عن) المعرفة، والتفكير، والقدرة على التخيل والتمييز والتذكر والتنبؤ واتخاذ القرارات. وعليه، يكون التجديد العقلى، عند الأفراد والمجتمعات، هو الأساس فى التجديد فى كافة أوجه الحياة، وبدونه تظل جهود التجديد، فى أى مجال، جامدة وقاصرة. ومع الزمن يبدو الماضى أكثر تقدما من الحاضر.
ثانيا- أدوات تجديد العقل
بالإضافة لكون التجديد العقلى أساس لكافة أنواع التجديد، فإن أهميته ترجع أيضا لبساطته، ووضوح جوهره، وشفافية أدواته، والتى يأتى على رأسها ما يلى:
1) المنهج العلمى فى التفكير.
إنه الأساس فى أى تناول لفهم الإشكاليات، ولاكتشاف وحل المشكلات، وقد عُرف باعتباره ثمرة التقدم الإنسانى العالمى، حيث لا أحد يحتكره أو يتحصل على إتاوة من استخدامه.
من الجواهر العظيمة فى هذا المنهج أنه يدعم القدرة على امتلاك جدلية تفكيك (وتحليل) المشكلات إلى أسباب وعوامل، ثم إعادة التعامل معها بالتركيب (والإبداع)، مما يجعله محور البناء السليم لأى رؤية، أو تغيير، أو تجديد.
ذلك يدفع إلى التساؤل بشأن مدى الالتزام بالمنهج العلمى فى التفكير عند متخذى القرارات فى الحكومة والبرلمان والمؤسسات... إلخ، فضلا عن عموم المواطنين.
2) البنية المعمارية للتجديد العقلى.
تكمن هذه البنية فى المنظومية، وفى متطلباتها ومخرجاتها. وعن المنظومة فهى تعنى مجموعة من الأجزاء التى لها فيما بينها روابط، بحيث تبدو هذه الأجزاء كوحدة واحدة، وذلك بفعل تنظيم لعلاقاتها ببعضها. وأما عن متطلبات المنظومية فهى تتعلق بخصائصها ووظائفها، والتى تُمَكّن من مجابهة التحديات واستشراف المستقبليات (ولمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع إلى "التقدم الأسى – إدارة العبور من التخلف الى التقدم"، المكتبة الأكاديمية - القاهرة).
هنا تدعو الحاجة للانتباه الى أن "الحرية" متطلب رئيسى للمنظومية، حيث فى غيابها تتحول المنظومية- بالتدريج- إلى الاتباعية للتوجه السلطوى. وفى المقابل تقود الحرية، فى غياب المنظومية الصحيحة، إلى الفوضى والعشوءة والتخلف.
وعليه، تنشأ ماكينة التجديد من التآلفية بين "المنظومية" و"الحرية". عندها تصل المنظومة إلى حالة "التنوع" في الرؤى والخبرات والإمكانات، مما يقود إلى "التجديد" والإبداع.
3) المعرفة العلمية "الجماعية" كأساس للتوصل الى القرارات الكبرى (أو المصيرية).
لأن هذه المعرفة تكون أقرب ما يمكن إلى الموضوعية (والنزاهة) فإن التوصل فى غيابها إلى قرارات كبرى، أو مصيرية، يقود إلى نتائج لا تُحمد عقباها. ذلك أن هذه المعرفة تحمى المنظومة (بجميع مكوناتها) من الإخفاق، والذى لا يمكن أن يتحمله (أو يعوضه) المتسبب فيه، صاحب الرأى الأوحد.
بمعنى أوضح، فى غياب المعرفة العلمية "الجماعية" يحدث تجاهل لما يمكن وصفه بالرؤى الذهبية عند الآخرين، فضلا عن التقزيم للإمكانات والفرص، مما يؤدى إلى إزمانية التخلف.
ثالثا- مخرجات تجديد العقل
تتمركز أهم المخرجات فيما يلى:
- التشارك المجتمعى فى التجديد المنظم للمعايير، والوسائل، والطرق، مما يعنى عقلنتها. وبالتالى، تجديد الوعى، وتطوير شكل الزمن، الأمر الذى نحس بأهميته عندما نتحسر على أوضاع قديمة كانت هى الأحسن مقارنة بالحاضر، كعموم أوضاع التعليم، والثقافة، والفن، والإنتاج، والمظهر المجتمعى العام.
- تقليص التطرفات الأيديولوجية. عندها، كمثال، يتحول تقييم الزعماء السابقين، مثل "ناصر"، من القبول الكلى، أو الرفض التام، إلى استكشاف الدروس للانتفاع بها فى الزمن القادم.
- زيادة مساحة "النافذة المجتمعية Societal window" السامحة بالنقد والتباين فى الرؤى، مما يعمق التشاركية ويُعظّم الاستفادة من التنوع.
- تجديد للحركيات الذهنية، الفردية والمؤسساتية. ومن ثم، التجديد العقلي لمكوناتها من القمة إلى القاع، والعكس.
- قفزات في الأداءات وتحمل المسؤوليات، على كافة المستويات.
وهكذا، تتطور مسارات مصر بتجدد عقول أبنائها ومؤسساتها، وبتعميق الوعى المجتمعى وتعظيم جساراته.
طبقا لهكذا مخرجات، ينقلنا التجديد العقلى إلى زمن أكثر منهجية (وجدية) فى رصد الإشكاليات والمشكلات وفى التعامل معها.
عندها لن يكون التجديد الدينى مناسبة للاستقطاب، وستتضاءل الحاجة لتغليظ القانون، كما سترتفع كفاءة الممارسات الخاصة ببناء مصر، بحيث ستختفى الحاجة إلى الأجنبي كقاطرة لمواجهة المشكلات.
والآن يبدأ التساؤل: كيف؟
نظن أن نقطة البدء فى التحول إلى التجديد العقلى تتجسد فى صناعة مسارين متوازيين. فى المسار الأول تنشأ فعاليات مفتوحة وموثقة تجمع بين القيادات التنفيذية فى الوزارات الأقرب فى مهامها لعمليات دعم التفكير (مثل وزارات التعليم والثقافة والإعلام) مع القيادات الشعبية المقابلة لها فى الجمعيات الأهلية والأحزاب.
وأما المسار الثانى (الموازى) فيختص بالتحولات، فى الرؤى والتطبيقات، داخل كافة مستويات العمل فى الدولة.
فى المسارين، وتحت مظلة الدولة ككل، يقع على رئيس الحكومة عبء القيام بدور "المايسترو"، فى التنسيق والتكاملية والمخرجات، بشأن مختلف الجهود والخبرات والطموحات.
وبالطبع، مع تواصل غياب التجديد العقلى لا يكون فى الرجوع إلى الخلف أية مفاجأة، حيث ينشأ- بالتدريج- تحول إلى "العبودية لعقول الآخرين".