تعجب بعض القراء مما ذكر فى مقال سابق من أن العرب «22 دولة» وإن كانوا يمثلون 10٪ من دول العالم «220 دولة» و5٪ من سكانه إلا أنهم يمثلون حوالى 50٪ من الدول غير الديمقراطية فى العالم.
والحقيقة أن هذه حقيقة، فقد حاول بعض الباحثين الغربيين الربط بين الإسلام وغياب الديمقراطية على اعتبار أن العلة تدور مع معلولها وجودا وعدما كما يقول المناطقة، فإن حضر الإسلام غابت الديمقراطية عند هؤلاء، لكن تبين من الدراسات الميدانية، انظر مثلا كتاب المسلمون والديمقراطية الصادر عن دار «الشروق»، أن المشكلة الحقيقة ليست فى كل الدول ذات الأغلبية المسلمة، بل هى ليست فى أحاد المسلمين بالضرورة، وإنما هى بالأساس فى الدول العربية.
لكن معظم الدول ذات الأغلبية المسلمة غير العربية حققت الكثير على صعيد التطور الديمقراطى بل إنها تفوقت على نظيراتها من الدول غير المسلمة ذات الظروف الاقتصادية والاجتماعية المشابهة، فهناك ديمقراطيات ناشئة وواعدة فى مالى والسنغال، وأخرى فى إندونيسيا وماليزيا وتركيا، وتظل بلداننا العربية تجمع بين معضلة الزواج الكاثوليكى بين التخلفين السياسى والاقتصادى وما يحفظ استمراريتهما من منطق «مستبد، لكن» فنجد دائما للمستبد عذرا أو أعذارا، فصدام حسين كان مستبدا لكنه حمى الأمة من الشيعة الفرس، وجمال عبدالناصر بطل الثورة والقومية العربية وتسلطه ثمن مقبول مقابل ما حققناه من انجازات فى عهده؛ وبعد التأمل نكتشف أن الاستبداد ثمن باهظ جدا يأكل أى انجاز آخر مهما بدا جذابا على المدى القصير.
وبنفس المنطق يرى معظم العرب أن الديمقراطية ليست ذات أولوية طالما أن هناك نهضة اقتصادية، فهذا يعوض ذاك. هذا منطق خاطئ حتى وفقا لأكثر الدراسات الاقتصادية ميدانية «أى بعدا عن الأيديولوجية»، فمن الثابت أن الدول ذات الحزب الواحد أو المسيطر «مثل الصين وسنغافورة» تحقق قفزات هائلة فى معدلات النمو خلال فترات قصيرة لكنها لا تستطيع أن تحافظ على هذا المعدل لفترة طويلة من الزمن، ولهذا تتساوى فى المتوسط المجتمعات التسلطية مع المجتمعات الديمقراطية وكأن الأداء الاقتصادى على المدى الطويل نسبيا «أكثر من عشر سنوات فى المتوسط» ليس مرتبطا بمدى ديمقراطية الحكم وإن كان يرتبط بمدى رشادة عملية صنع القرار ووجود قواعد مؤسسية مستقرة وشفافة.
ولهذا توضح دراسات الاقتصاد السياسى للتنمية أن الدول الأقل مؤسساتية «وهى عادة الأقل ديمقراطية»، تكون الأكثر محابة وفسادا والأقل رشادة فى قراراتها التنموية ومن ثم الأقل قدرة على تحقيق أهدافها المعلنة بما ينال من قدرتها على تحويل رأسمالها المادى «كبترول وأراض ومياه» إلى رأسمال «نقدى وتمويلى»، ومن ثم إلى رأسمال بشرى «فى صورة إنجازات تعليمية وصحية وإدارية»، وبالتالى إلى نهضة عامة.
وعليه فالدول العربية النفطية، مثلا، وإن كانت ذات موارد اقتصادية «ريعية» كبيرة لكنها غير قادرة على تحويلها إلى نهضة اجتماعية واقتصادية بنفس القدر الذى نجحت فيها دول أكثر ديمقراطية ومؤسساتية وأقل فى الموارد الطبيعية. ولتبسيط الصورة تخيل معى شخصا يملك ثروة تقدر بالملايين من الجنيهات نقدا وعدا ولكن يعيش وأسرته فى فقر يليق بمن لا دخل له وعلاقتهم بالعلم ضحلة ويعانون أمراضا يمكن علاجها لكنهم لا يعرفون كيف يحولون رأسمالهم النقدى إلى رأسمال تعليمى وصحى واجتماعى. هل تعرف من هذا الشخص؟ إنه أنا وأنت ومعظم المجتمعات العربية.
ولنستخدم لغة الأرقام وفقا لتقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة لعام 2008؛ فمتوسط دخل الفرد السعودى «محسوبا بقدرته الشرائية وليس كرقم مطلق فى أيدى المواطنين السعوديين» حوالى 14 ألف دولار فى السنة فى حين كان أداء المجتمع السعودى على مقياس التنمية البشرية «أى أداء المجتمع الصحى والتعليمى» حوالى 77 من مائة. فى حين أن متوسط دخل المواطن فى الإكوادور 4000 دولار فقط فى السنة لكن المجتمع الإكوادورى يقف فى نفس المستوى مع السعودية على مقياس التنمية البشرية. بل إن الصين ذات المليار وربع المليار نسمة تقف على نفس النقطة تقريبا مع المملكة السعودية فى الأداء التعليمى والصحى فى حين أن متوسط القوة الشرائية للصينيين أقل من نصف نظرائهم السعوديين؛ إذن هناك تسرب فى عملية تحويل رأس المال النقدى إلى رأس مال اجتماعى واقتصادى وبشرى، وهذا التسرب يعنى أن هناك هدرا فى طاقات المجتمع ورخاوة فى قدرة الدولة على الاستفادة من مواردها. ولنأخذ مصر مثالا آخر: فمتوسط قدرة المواطن المصرى الشرائية حوالى 4200 دولار فى السنة لكن مصر حققت فقط 70 نقطة من مائة على مقياس التنمية البشرية وهى تقريبا نفس ما حققته بوليفيا رغما عن أن متوسط دخل المواطن البوليفى حوالى 2800 دولار فقط.
والفارق بين مصر وبوليفيا كالفارق بين من بنى جامعة بـ100 مليون جنيه ومن بنى جامعتين على نفس المستوى وبنفس المبلغ.
هل هذا مستغرب؟ مع الأسف، لا. ألم نسمع عن المبانى السكانية التى تبنى ثم تغلق، وعن الجراج الذى يهدم أحد طوابقه بعد أن يتم بناؤه، أو عن الطريق الدائرى الذى يتوقف العمل فيه بسبب اكتشافنا فجأة أنه يخترق المنطقة الأثرية؟ بل هناك ما هو أعظم من ذلك فالساحل الشمالى بطول 1700 كم ومساحة تقدر بـ72 ألف كيلو متر مربعا «مع ملاحظة أن المصريين يقطنون الآن حوالى 40 ألف كيلو متر مربعا» كان يمكن أن يكون أشبه بنظيره فى دولة مثل تونس، حيث يكون نقلة كبيرة لأعداد مهولة من المصريين إلى مدن حقيقية شبيهة بالإسكندرية بدلا من منتجعات ترفيهية تستغل لمدة ثلاثة أشهر ثم تغلق بلا قيمة اقتصادية أو اجتماعية مضافة لبقية السنة.
وفى خلال أسبوع واحد علق الدكتوران رشدى سعيد وفاروق الباز على مشروع توشكى، وكل بمنطقه، انتهيا إلى أن المشروع «كله خطأ فى خطأ» وفقا للأول، و«يصعب إقامة حياة مستدامة فيه» وفقا للآخر مع أن المشروع تكلف حتى الآن حوالى 6 مليارات جنيه كان يمكن أن تنفق على ما هو أكثر نفعا وجدوى.
قصارى القول، أزمتنا فى عقولنا وفى إدارتنا لشئوننا وفى قدرتنا على وضع قياداتنا موضع المساءلة على ما فرطوا ويفرطون فيه من مواردنا. إن المتتبع لتحليل قيادات الدولة فى مصر لمشاكلنا يجدهم يؤكدون دائما أن تعثر التنمية فى مصر يعود إلى ثلاثية: الزيادة السكانية، والاضطرابات الإقليمية، والأصولية الإسلامية دون أن يعترفوا قط بالخطايا الحكومية نتيجة ضعف التخطيط ورخاوة الدولة فى تنفيذ ما تعد به. إن ثلاثية الأعذار التى طالما ساقها الحزب الوطنى لتبرير الخلل فى إدارة شئون الدولة، وإن كان فيها بعض الصدق، لكنها ليست كل الحقيقة. فالبيئة الإقليمية لإيران، بما فيها من حرب ثمانى سنوات وحصار اقتصادى أمريكى دائم لمدة 30 سنة، لا تقل اضطرابا عن بيئة مصر الإقليمية، وعدد سكانها يقارب عدد سكان مصر، بل هى محكومة بالأصولية الإسلامية فى أجل صورها، ومع ذلك فأداؤها العام أفضل كثيرا من أدائنا. تتجلى هذه الصورة أمامى وأنا أدرس مع طلابى تجارب التنمية فى دول كثيرة بدأت مع مصر وبعد مصر وحققت أفضل كثيرا مما حققته مصر، ويسألوننى ماذا حدث فأقول فتش عن القيادة.