عزيزى القارئ: ما الذى يمكن أن يجمع بين الكلمات التالية: بيولوجى وجيولوجى وتكنولوجى وثيولوجى وأيديولوجى؟ بالإضافة للسجع، فإنى أستخدمها لترمز لشروخ خمسة تحدث بشكل بطىء على مدى زمنى طويل لتنال من تماسك بنية الاستبداد فى المجتمع المصرى التى تمت إعادة إنتاجها فى مرحلة ما بعد الاستقلال.
فأولا هناك عملية إحلال وتجديد فى قمة هرم السلطة السياسية لأسباب طبيعية بيولوجية حيث تتداعى الأجساد ولا تقوى على أن تحمل أصحابها؛ فالقادة التاريخيون، آجلا أم عاجلا، سيتركون الساحة لمن هم دونهم سواء من الأبناء أو الشركاء.
وثانيا، فإن التحكم فى المصادر الجيولوجية (مثل النفط والغاز وقناة السويس ومياه النيل) وحده لم يعد كافيا لشراء الشرعية السياسية.
وثالثا، فإن التكنولوجيا خلقت فضاء عاما غير حكومى يزداد اتساعا من خلال مواقع الإنترنت والتليفونات والفضائيات بما يسهل نقل المعلومات والأفكار بل وحتى الشائعات بسرعة فائقة.
رابعا، فإن المراجعات الدينية التى قامت بها أسماء بارزة فى الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد توضح أن كفة الحركات الإسلامية غير العنيفة ترجح بما قد يعنى زيادة احتمالات حدوث مصالحة تاريخية بين هذه الجماعات والمؤسسات المدنية الديمقراطية وبعض قيمها. وهناك خامسا، تراجع الأيديولوجية غير الديمقراطية لاسيما القومية العربية فى صيغتها الناصرية التى كانت تعلى من قضية الوحدة على حساب قضية الديمقراطية، فلا حققت لا هذا ولا ذاك.
إنها تطورات خمسة على أصعدة خمسة تتفاعل لتحدث شروخا قد تزداد اتساعا بما ينال من بنية هذا الاستبداد التاريخى.
أولا: التداول البيولوجى للسلطة
لأسباب بيولوجية طبيعية يموت القادة التاريخيون ويحل محلهم قيادات أكثر شبابا «نسبيا»، ما قد يؤثر إيجابا على مستقبل النظم السياسية إذا ما كانت القيادات اللاحقة أكثر وعيا بطبيعة التحديات التى تواجه المجتمعات؛ فبقاء البعض لفترة طويلة فى السلطة، أدى إلى مركزية هذه الأخيرة وتراجع دور المؤسسات فى مواجهة دور القيادة السياسية «الأبوية»، فى الوقت الذى من المفترض أن تضع فيه المؤسسات القوية قيودا مختلقة على صانع القرار وتخضعه للمساءلة، وهو ما أبته، ولاتزال، معظم القيادات التاريخية التى عرفتها مصر فى مرحلة ما بعد الاستقلال، والتى اعتادت على أن تعتبر نفسها فوق القانون والمساءلة.. وعادة ما يرتبط بقيادات جديدة للبحث عن شرعية مستقلة من خلال الانفتاح السياسى المحدود أو التحول الديمقراطى الحقيقى، ومع بروز شخص بقامة الدكتور البرادعى على الساحة السياسية، فإن تداول السلطة لن يكون بالضرورة محجوزا فى اتجاه بعينه.
ثانيا: جيولوجيا الشرعية الريعية
لقد وجدت العديد من الدراسات أن اعتماد الدولة بشكل أساسى على تصدير سلع أولية مثل النفط والغاز والاعتماد على ريع ممرات مائية مثل قناة السويس والمعونات والمنح والقروض الخارجية له تأثير سلبى على احتمالات التحول الديمقراطى، نظرا لاحتكار الحكومات لهذه المداخيل الرأسمالية. وهذا التأثير السلبى له ثلاث آليات على الأقل. فهناك تأثير شراء النخب الحاكمة لشرعيتها عن طريق زيادة الإنفاق الاجتماعى ودعم الخدمات الأساسية من صحة وتعليم أو من أجل العلاوات الانتقائية لضرب أى تحالف محتمل للعمال أو الفلاحين أو الطلاب، وهو النمط الذى يطلق عليه اسم «دولة البقشيش».
وهناك ثانيا تأثير القمع الناتج عن توافر مداخيل اقتصادية ضخمة تسمح لحكومات الدول المعتمدة على السلع الأولية بأن تبنى آلة أمنية قوية لا تقوى قوى المعارضة على تجنبها أو الوقوف فى وجهها. وهناك ثالثا ضعف الطبقة الوسطى لأنها عادة تكون طبقة «موظفين» يعملون لدى الدولة أكثر من تشكيلهم طبقة مستقلة عنها تسعى لأن تقوم بدور جماعة ضغط ضخمة عليها.
بعبارة أخرى فإن هذه المداخيل توفر للحكومات إمكانية «الذهب» لشراء الشرعية و«العصا» لقهر قوى المعارضة. وفى الحالتين يكون هناك ما يشبه العقد الاجتماعى غير المكتوب يتحول بموجبه الأفراد إلى رعايا اقتصادية فوق العادة بلا حقوق سياسية تقريبا. فتضمن لهم الدولة السلع الرخيصة والوظيفة المناسبة والتعليم والعلاج المجانيين مقابل أن تتراجع جميع المطالب السياسية بالديمقراطية والحكم الرشيد. ويستمر العقد ما تراضى الطرفان عليه. بيد أن مصر تشهد منذ مطلع التسعينيات عجزا واضحا فى قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها الصحية والتعليمية والمرورية والإسكانية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وهو ما يعبر عن نفسه صراحة فى صورة وقفات احتجاجية واعتصامات شبه يومية.
ثالثا: ثيولوجيا الإسلام الديمقراطى
«فزاعة الجماعات الإسلامية» هو التوصيف الإعلامى لاستخدام النخبة الحاكمة فى مصر لخوف الغرب من وصول جماعات إسلامية إلى سدة الحكم فى الدول العربية. بيد أن تغيرا حادثا فى تعاطى التيار الإسلام غير العنيف، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين مع النظم السياسية ومع النخبة الإسلامية المثقفة جعلت منهم طرفا قابلا، على الأقل على المستوى اللفظى، بمؤسسات الديمقراطية وإجراءاتها وإن كانوا يتحفظون على واحدة من أهم ملامحها فى الغرب وهو العلمانية. فرغما عن أن كليهما غربى فإنهم قبلوا بآليات الديمقراطية ورفضوا العلمانية باعتبارها إطارا معرفيا وأخلاقيا يتناقض مع المرجعية الإسلامية.
وما يبعث على التفاؤل الحذر وجود تواتر فى أعداد المفكرين الإسلاميين الذين أعطوا لقيم الديمقراطية وآلياتها صك الغفران. كما أن تجربة حزب العدالة والتنمية فى تركيا تعطى مثالا قابلا للتعلم منه لدى بعض القوى المحافظة فى مصر وعلى رأسها حزب الوسط.
وإن صحت هذه الملاحظة، وأعتقد أنها صحيحة، فإن شرخا آخر فى بنية الاستبداد العربى يأخذ فى الاتساع بسبب اتجاه الفصيل الإسلامى الرئيسى نحو تبنى الإجراءات الديمقراطية، بحكم اضطرار الحركات الإسلامية للتعايش فى بيئة تعددية لا تستطيع أن تفرض إرادتها المنفردة عليها.
رابعا: تكنولوجيا الفضاء العام
إن مفهوم الفضاء العام يشير إلى تلك المساحة الذهنية الرحبة التى لا تسيطر عليها المؤسسات الحكومية فيتمكن فيها المرء من التأمل والتدبر والمداولة مع أقرانه. هى مساحة للتفكير فى اللامفكر فيه سياسيا ودينيا. إن مصر شهدت اتساعا لهذه المساحة من الفضاء العام، وهو ما لا شك أنه سيسجل بإيجابية للنظام القائم. والعامل الدافع لهذا الفضاء الآخذ فى الاتساع هو تكنولوجيا الاتصالات التى وفرت للمواطن العربى القنوات الفضائية والمواقع التفاعلية على الإنترنت. فقد بلغ عدد القنوات الفضائية العربية 700 قناة يتم بثها بواسطة عدد من الأقمار، و70% من هذه القنوات غير تابع رسميا لحكومات عربية.
كما وفرت شبكة الإنترنت فرصة ممتازة لخلق فضاء عام أرحب للتفاعل بين المواطنين لاسيما الشباب منهم. وبالعودة إلى مواقع الحوار التى يوفرها موقع مثل هيئة الإذاعة البريطانية على النت، كانت هناك جرأة شديدة فى نقد ممارسات الشرطة المصرية فى يوم 6 أبريل الماضى. ففى المساحة الخاصة بهذا الموضوع كان هناك نحو 209 مشاركات منشورة. كان معظمها شديد النقد للحزب الحاكم فى مصر ومحاولات الحزب للسيطرة على جميع جوانب الحياة السياسية إن مثل هذه المساحة من الفضاء العام تكشف عن نزعة نحو نقد الأوضاع الحالية والرغبة فى مجتمعات أكثر ديمقراطية.
إن الفضاء العام ولد واتسع وهو آخذ فى الاتساع ورغم أن فقط 43% من المواطنين المصريين (فوق سنة 18) يملكون القدرة على الوصول إلى الفضائيات وأن نصف هذه النسبة فقط لديها القدرة على الوصول إلى شبكة الإنترنت فإن المستقبل سيشهد زيادة كمية وكيفية ستشكل حتما شرخا جديدا فى بنية الاستبداد.
خامسا: تراجع الأيديولوجية الشعبوية
كل القوى السياسية فى مصر تدعى وصلا بالديمقراطية وتجعلها جزءا لا يتجزأ من برامجها الانتخابية، وهذا تطور كبير مقارنة بما كان عليه الحال فى أعقاب الثورة مباشرة. لقد كان المأزق الأكبر الذى واجه مجتمعنا هو أنه حكم من قبل قيادات كانت مستعدة دائما لتحقيق أهداف جذابة بشرط التضحية بالديمقراطية سواء انصرف هذا الحكم إلى القوميين العرب (وعلى رأسهم عبدالناصر) أو الإسلاميين. فقد كان دائما الطرح السائد فى ظل هذه الصيغة الأيديولوجية هو «إما/أو» فإما الحقوق المدنية والسياسية أو الوحدة والاستقلال والتنمية الاقتصادية. وكان يغلف هذا، مع الأسف الشديد، الممارسات القمعية والفساد وتهميش المعارضين وإقصائهم عن الحياة العامة.
ورغما عن كل المعوقات، هناك ما يدعو للتفاؤل حتى وإن بدا كضوء بعيد فى آخر نفق طويل.