الثورة المصرية كانت نتاجا لتخطيط أمريكى حمساوى بولندى، جنّد لحسابه مئات النشطاء لإشعالها بعد تدريبهم، ثم استخدم كتائب عز الدين القسام (الجناح العسكرى لحركة حماس) فى الوقت نفسه لشن الهجوم على أقسام الشرطة والسجون. ثم قتل المتظاهرين بالقناصة وفى الشوارع. هذا ما تخبرنا به جريدة الأهرام على صفحة كاملة فى عددها الصادر أمس الأول، فى تزامن ملفت مع حملة بدأت ثم توقفت جزئيا عن الجاسوس الأشقر الذى يخترق بنفسه قهاوى وسط البلد واضعا على فمه ابتسامة بليدة، ويستدرج العاطلين إلكترونيا ليجمع المعلومات مستغلا حاجتهم للعمل. كما تتزامن الحملة أيضا مع حملة صحفية إعلامية واسعة النطاق ضد جماعة الاخوان المسلمين، والبرلمان الذى تسيطر عليه أكثرية منهم، لدرجة وصلت لاتهامهم علنا بترتيب وتنفيذ موقعة الجمل.
كل مرة كان يتم فيها تمهيد الأرض للثورة المضادة أو قبيل مواجهة سياسية مهمة، تستدعى وسائل الإعلام التى تسيطر عليها نخبة الحكم العسكرى والمالى القديمة، سيناريو المؤامرة الخارجية لتشويه الثورة. هذه المرة الهدف هو تبرئة النظام القديم وداخليته وقياداته من تهمة قتل المتظاهرين، ووضعهم فى خانة الوطنيين الذين يواجهون ترتيبا عالميا شيطانيا مصنوعا. وربما أيضا التجهيز لحملة أمنية واسعة بعد إيصالهم المأمول لمرشح استقرار الفساد لكرسى الرئاسة.
ومن اللافت أن القوة الأساسية التى تعترف علانية بعلاقات وثيقة (سياسية وعسكرية وأمنية) مع كافة الأطراف المتهمة بإشعال الثورة المصرية (بما فيها صربيا فى وقت سابق وحماس أيضا) هى الأجهزة الأمنية والمجلس العسكرى. ومن المدهش أن النظام المخلوع هو الذى وقع اتفاقات الكويز وتصدير الغاز لإسرائيل على حساب المصلحة الوطنية وهو الذى تعاون مع تل أبيب لافساد المصالحة الفلسطينية المرة تلو المرة، وهو نفسه بامتداداته التى مازالت تحكم الذى يتوجه لقطر طالبا منها الاقتراض لدعم الموازنة، وهو نفسه الذى يستورد الغاز المسيل للدموع من الولايات المتحدة استعدادا لضرب المزيد من المظاهرات. وهو نفس النظام الذى أصرت إدارة أوباما على استمرار المعونة العسكرية (غير الخاضعة لأى رقابة تمثيلية أو سياسية) لمجلسه العسكرى. وهو نفس النظام الذى خاضت إسرائيل ومازالت حملة عالمية رعبا من سقوطه فى يد قوة ذات أرضية شعبية ستغير حتما من نمط العلاقات الحالية.
نعم الثورة ليست محلية الصنع بشكل كامل غير أن الثورة المضادة ليست هى الأخرى محلية خالصة. كما يختلف دور الخارج كثيرا عن النمط الذى نراه فى إعلانات الجاسوس وبرامج مصطفى بكرى. علاقة الثورة مع الخارج هيكلية تختلف جذريا عن حواديت النفوس المريضة المأجورة والعلاقات السرية التى تصدق أكثر على الأطراف التى توصم الثوار بها.
المكون الأجنبى فى الثورة
فى الثورة الروسية 1917 اتهم النظام القيصرى القائد العمالى لينين (الذى كان خارج البلاد وقت نشوبها) بأنه جاسوس ألمانى (فى ظل أن روسيا كانت تخوض حربا ضد ألمانيا حينها)، وبعد انتصار الثورة الروسية فى أكتوبر قامت ثورة فى ألمانيا ذاتها، كان محورها ايقاف الحرب. هذا حال الثورات: تأتى فى موجات واسعة. فى 1917 امتدت الموجة لبريطانيا بإضراب عام 1919 وإلى المجر بثورة شعبية (1918)، وبعدها كانت موجة ثورات التحرر الوطنى فى العالم الثالث، ثم موجة الحركات الطلابية العمالية فى الستينيات، والتى امتدت من أمريكا إلى فرنسا إلى العالم بأسره. ولا ننسى هنا أن الثورة التونسية سبقت ثورة مصر وبعدها اشتعلت الثورة فى اليمن وليبيا والبحرين وسوريا.
هناك سبب لأن تكون الثورات ظاهرة غير محلية هو أن النظام الذى يحكم العالم اقتصاديا وسياسيا وطبقيا ليس نظاما محليا. ومن ثم كلما دخل فى أزمة حكم (تقترن أحيانا بأزمة اقتصادية عالمية وأحيانا لا)، جيَّش ضده الجماهير الواسعة المتطلعة للسيطرة على مصيرها فى السياسة ولقمة العيش، إذ تدرك أن بمقدورها صياغة بديل آخر. من هنا تجيء أهمية الإلهام الذى تعطيه ثورة شعب لشعب آخر كما حدث فى تونس أولا ثم فى مصر.
تحدثنا ورقة سياسات صادرة عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية والتجارة (الأونكتاد) قبل أيام بعنوان «كسر حلقة الاقصاء والأزمة» عما تسببت به حركة رءوس الأموال التى لا يقف فى وجهها أحد وعن فتح الأسواق وعن الضرائب التى تزيد كلما انخفض مستوى الدخل وتقليص البرامج الاجتماعية، كسمات أساسية فى نظام العولمة الذى تقوده المؤسسات المالية « فى «إنتاج عدم مساواة متصاعدة فى العالمين الغنى والفقير على مدى الـ30 عاما الماضية». تقول الاونكتاد إنه حتى قبل الأزمة الاقتصادية العالمية الطاحنة، والممتدة معنا منذ 2008، فإن النمط الذى تم تسييده للنمو الاقتصادى أنتج وضعا «يحصل فيه أغنى 20% فى العالم على 70% من الدخل بينما يحصل الـ20% الأفقر على 2% منه». وتؤكد المنظمة الدولية التابعة للأمم المتحدة أن الحل هو كسر «الحلقة الشريرة» التى تتسبب فيها هذه الصلة بين عدم المساواة والأزمة الاقتصادية بتعديل جذرى فى نظام العولمة.
هذا ما يوحد المصريين مع المكسيكيين مع البولنديين وقبلهم مع التونسيين. شعوب العالم تواجه نظاما أنتج مصالح وترتيبات اقتصادية وسياسية، لم تعد قادرة على تقديم الحد الأدنى لها. كما كشفت الأزمة الاقتصادية الطاحنة عن قروح متمكنة فى نظام الديمقراطية الليبرالية، حتى فى أعتى تجاربها، بعد أن بانت سيطرة الـ1% على مصير الباقى.
فى الأيام الماضية تطورت الأزمة المالية فى إسبانيا لتكشف عن فساد نخبة البنوك وعالم المال وسوء إدارتهم بينما حصلوا لأنفسهم على أعلى الرواتب ليصلوا بالاقتصاد وبأوضاع البلاد لحافة الافلاس والانهيار. وماذا كانت ردة الفعل؟ أعلنت إسبانيا أنها ستضخ أموالا لدعم البنوك من جيوب دافعى الضرائب بينما تطبق أكثر البرامج الاجتماعية تقشفا لتنزع الفتات من الفقراء والعاطلين لتنقذ بها المتسببين فى الأزمة. هذا وضع لا يمكن أن يستمر.
مدد عالمى أم تصدير للثورة؟
ثورتنا نتاج لسياسات اقتصادية واجتماعية مأزومة عالمية وجدت من يستفيد منها محليا ويدافع عنها بأيديه وأسنانه وإعلامه وخرطوشه. وتسير انتفاضة المصريين فى خطوط متوازية مع قدور تغلى فى دول عدة أبرزها ما رأيناه فى المواجهات مع المهمشين العاطلين فى المدن البريطانية وحركات احتلوا وول ستريت واحتلوا الأرض فى الولايات المتحدة. وهى قدور المصريون متهمون بإلهامها بنجاحهم فى اسقاط مبارك. وعلى الطرف الآخر هناك نظام مصالح يتداعى لبعضه بعضا لأنه يعلم أن وهن جزء منه يضعف الجسد كله.
فى فيلم «الحُمر»، الذى أخرجه ومثل دور البطولة فيه الممثل الأمريكى الكبير وارن بيتى، يقف عامل ألمانى على المنصة فى اجتماع عمالى فى موسكو قبيل انتصار الثورة فى أكتوبر، متحدثا عن ارتباط مصير بلاده بما يحدث فى روسيا وأن مصيره مرتبط بما يصنعه الروس. بالفعل قامت الثورة فى ألمانيا بعدها بأشهر قليلة، ليرتبط مصير ثورة روسيا نفسها بنجاح الثورة الألمانية من عدمه. وكان على روسيا أن تحارب بالسلاح جيشين متحالفين: أحدهما محلى بقيادة الثورة المضادة ونبلاء القيصر وآخر يضم عددا من الدول الأوروبية التى تدافع عن النظام فى جبهة خارجية. ولما سقطت ثورة ألمانيا أمام هجمة قمعية، قُتل فيها قادتها، سقطت معها ثورة الروس إلى غياهب نظام الستالينية القمعى.
هل يمكن إذا عزل مصير ثورتنا عن المعركة العالمية بين من هم يقفون مثلنا دفاعاعن لقمة عيشهم، وسعيا لحرية تفرد فيها إرادة الأغلبية مظلتها على الكل، فى مواجهة نظام سياسى واقتصادى وطبقى يمثل مصالح قلة المحتكرين من جنرالات وشركات كبرى ورجال مال، لا تأبه بحق ولا حرية؟ هل يمكن الفصل بين نجاحنا وفشلنا وبين نجاح السوريين واليمنيين والليبيين والتوانسة والبحرينيين أو فشلهم؟ نعم.. ثورتنا ليست محلية.