تفاقمت اللامساواة - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 10:02 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تفاقمت اللامساواة

نشر فى : الخميس 10 سبتمبر 2015 - 8:05 ص | آخر تحديث : الخميس 10 سبتمبر 2015 - 8:05 ص

الظاهرة ليست مصرية فقط أو عربية ــ إسلامية فقط، الظاهرة توسعت وتعمقت وصارت تهدد الأمن والسلم الدوليين، انها الفجوة متزايدة الاتساع بين الأغنياء والفقراء من الدول والشعوب والجماعات أو الطبقات داخل هذه الشعوب. لم يكن الكاتب والباحث الاقتصادى الفرنسى بيكيتى أول من نبه إلى الظاهرة، ولكنه كان أهم من تعمق فى دراسة أسبابها وظروفها وخطورة ما آلت إليه. نجح فى دفع زملاء له فى كل الثقافات ليشاركوه فى حملة التنبيه وانضم إليه بحماسة علماء اقتصاد حاصلون على جوائز عالمية، وما هى إلا شهور وكانت قوى اللامساواة قد استعادت هيمنتها الفكرية والتطبيقية على الاقتصاد العالمى. كنا فى مصر، وفى العالم العربى، شهودا على تطور الظاهرة. كنا ولا نزال ضحايا حرب متوحشة يشنها كبار الأغنياء ومفكروهم لمنع الفقراء من تحشيد قواهم خشية مواجهات عنيفة، أو خشية أن يؤدى التحشيد إلى إنقاذ ثورات الربيع من سمعة الفشل أو التراجع.

* * *
عشنا نتابع سنة بعد سنة التقدم الذى أحرزته حركات وسياسات الانتقال بأمريكا الجنوبية من الاستبداد والقمع وهيمنة العسكريين على الحكم إلى حالة من الديمقراطية والتعددية واحترام الحريات السياسية وحقوق الإنسان. كانت المتابعة صعبة، وبخاصة على من خبر واختبر السياسة فى أمريكا الجنوبية. قيل لنا فى كتب علوم السياسة الأمريكية إن شعوب القارة اللاتينية والسياسيين فيها على حد سواء ورثوا هيمنة الأقلية الثرية على الحكم عن المرحلة الإسبانية والبرتغالية. قيل لنا أيضا ان المذهب الكاثوليكى مسئول إلى حد بعيد عن ترسيخ استبداد هذه الطبقة المدعومة دائما من العسكر، ولم يكن خافيا ان الحصار الأمريكى للقارة وعزلها عن تطورات أوروبا خلال القرن الأول من الاستقلال مسئول أيضا.

ثلاثون عاما أو أربعون عاشت خلالها معظم دول القارة فى تجارب جادة للانتقال من هذه الحال البائسة إلى حال أفضل. كمتابعين عن بعد لم نأمل فى نجاح مطلق وشامل لهذه التجارب فى كل مكان بالقارة، ولكننا انتظرنا بدايات مشجعة تعيد تشكيل الهياكل الاجتماعية وتتحكم تدريجيا فى توزيع الدخل والثروة، من أجل حماية الانجازات والتشريعات الدستورية والانتقالية. الآن لا نتردد فى الاعتراف بأننا صرنا نخشى ان يكون الاحباط نصيبنا بعد ان رأينا دولة بعد أخرى تعود بدرجة أو أخرى إلى أوضاع فساد سادت فى مراحل ما قبل الثورات الانتقالية. عادت الفجوات تتسع فى معظم أنحاء القارة. عاد الأغنياء يشكلون تحالفات غير صحية مع قوى معينة فى المجتمع، تماما كما كانوا يفعلون عندما تحالفوا مع المؤسسة العسكرية لعقود عديدة. عدنا نسمع عن انحيازات مختلفة للكنيسة. كانت الكنيسة كما هو معروف تقود انتفاضات الفقراء فى مرحلة الغضب، بل وكانت فى بعض مواقعها مؤسسة «ثورية» تدعو للإصلاح الاقتصادى والاجتماعى وتحمى وتأوى الشباب ضحايا القمع والمطاردة. خلاصة القول لعبت الكنيسة فى ذلك الوقت دورا مشهودا ليس فقط فى الارجنتين وشيلى والبرازيل والاوروجواى ولكن أيضا فى دول وسط أمريكا.

نسمع الآن عن كنيسة تغيرت، تعود كما يبدو إلى أصلها فى ظل الاستعمار الإسبانى، نصيرا للأغنياء والإقطاعيين على حساب الفقراء وبخاصة المنحدرون من أصول غير أوروبية. يقال إن كنائس عديدة صارت تعتمد على كنائس كبرى فى الولايات المتحدة واقامت علاقات معها. صارت، حسبما يتردد فى احاديث الغاضبين الجدد فى أمريكا الجنوبية، تدعو رعاياها إلى القبول بهيمنة الأغنياء والتخلى عن عضوية النقابات، تحثهم على الانضباط السياسى والتوقف عن ممارسة حق الاحتجاج. يحدث كل هذا فى وقت تدهورت فيه حالة الأمن، وازدادت بشكل مخيف قوة العصابات، أو بالأصح، الجيوش الخاصة التى تحمى مصالح صناعة المخدرات وتجارتها. تجاوز الأمر كولومبيا والمكسيك لتصبح هذه الجيوش مهيمنة ومتحكمة فى عدد كبير من دول القارة، بل صارت فى بعض الأحوال تهدد العلاقات بين الدول كما هو حادث فى أزمة العلاقات بين فنزويلا وكولومبيا والتوتر المتقطع بين الولايات المتحدة والمكسيك. يعود الفضل فى هذا التدهور المتسارع إلى التحالفات السياسية والحزبية التى يقودها أغنياء كبار وتساندها بعض الأجهزة الأمنية، كما اتضح من التطورات الأخيرة فى الأزمة المكسيكية.

* * *
لم يدر بأذهان كثيرين ناقشوا تطورات الأمور فى البلاد العربية خلال السنوات الأخيرة، إنه بعد اندلاع ثورات، كانت بحق جماهيرية بالمشاركين فيها والمتعاطفين معها، يمكن أن يحدث فى هذه الدول ما يحدث الآن أمام أعيننا، أو من خلف ظهورنا.. لم نتصور انه سيأتى يوم هكذا قريب نرى فيه دولا فى المنطقة وخارجها لم يسبق لها أن حركت جيوشها منذ حصولها على الاستقلال قررت فجأة أن تحركها وتدفع بها إلى مواقع خارجية فى قتال حقيقى وعنيف. لا أستطيع أن أرفض ببساطة الرأى القائل بأن ثورات الربيع العربى تقف بشكل من الأشكال وراء هذا التطور الجوهرى فى المنطقة. كذلك سيكون صعبا الاقتناع بأن تحالفات الأغنياء فى العالم العربى لا تساند هذا التطور إن لم تكن دفعت إليه. تطور مشابه يحدث فى أمريكا اللاتينية منذ أن بدأت تيارات وقوى دينية وسياسية وعسكرية وجماعات الأغنياء تتحالف لوضع أسس لهياكل إدارية وسياسية تمنع تكرار نشوب ثورات جماهيرية مدفوعة بقيم عدالة اجتماعية أو مشاركة سياسية. غير خافٍ علينا ما يحدث فى الهند واندونيسيا وتركيا حيث تتشكل على عجل تحالفات يقودها كبار الأغنياء، بالتعاون المتزايد مع قوى دينية رافضة لأفكار الإصلاح الاجتماعى والتعددية السياسية والاتجاهات «العلمانية» ولأنشطة منظمات المجتمع المدنى.

***
الجماهير فى بعض دول أمريكا اللاتينية ما زالت تخرج إلى الشارع وكذلك فى بورما وتايلاند واندونيسيا والهند وباكستان، خرجت أيضا فى دول عربية وإفريقية ولكن ليس إلى الشارع. خرجت إلى البحر. خرجت معلنة رفضها لحال الظلم الواقع على الشعوب، ظلم الفقر وظلم الاستبداد والقمع وظلم الارهاب، ولكن يبقى ظلم اللامساواة بمثابة القوة الضاربة التى يستخدمها المميزون والمهيمنون فى الحرب ضد المحرومين والأقل حظا. صرنا نسمع يوميا فى مصر أصداء قنابل صوتية شديدة الوقع والانفجار صادرة عن مسئولين وأغنياء كبار لا يخفون انحيازهم ضد المغبونين، بل ضد كل الطبقات المحرومة سياسيا واجتماعيا. تقول التصريحات الملغومة وبصراحة مذهلة ربما لم يأت التاريخ بمثلها منذ عصر لويس الرابع عشر، لا مستقبل لأولاد الفقراء، المستقبل لنا وحدنا نحن أبناء الطبقة السياسية الحاكمة، نحن أطراف التحالف المسئول عن منع صعود ابناء الريف والأحياء الفقيرة السلم الاجتماعى، لأنهم أى المحرومين، حسب الاجتهاد السائد فى خطابهم السياسى، كانوا بمثابة «اللحم والشحم» اللذين غطيا هيكل ثورات الربيع العربى، لولاهم لقضى فورا على الثورات، أو لظلت كما قيل وقتها فى وصفها» رحلة ترفيهية يتسلى فيها بعض الشباب». سمعنا أيضا من يردد حتى يومنا هذا القول بأن القليل الذى حصل عليه الفقراء من خلال التعليم والدعم المادى للحاجات الأساسية وهامش الديمقراطية وانتعاش المجتمع المدنى فى مصر، هذا القليل كان أحد الأسباب التى جعلت «النزهة الشبابية» فى تونس ومصر وسوريا وليبيا تتحول إلى ثورة. الخلاصة لا نزهة سوف يسمح بها بعد الآن ولا كثير أو قليل فوق الحد الأدنى من الامتيازات والحقوق للفقراء والطبقات المحرومة.

* * *
الأزمة كما يجب ان نتصورها، ليست مصرية صرفة وليست تونسية صرفة وليست تركية صرفة. الأزمة مثلها مثل أى تطور آخر، تعولمت تدريجيا لتصبح أحد سمات هذه المرحلة من مراحل التطور الاجتماعى والاقتصادى فى العالم. لا أبالغ حين أردد هنا اعتقاد بعض المتخصصين فى أن الصين، وبعلم رئيسها واعترافه، معرضة الآن أكثر من أى وقت مضى، لخطر انفلات اجتماعى بسبب اللامساواة فى الدخول والفجوة الاجتماعية، ولكن أيضا بسبب الفساد المصاحب لأزمة الرأسمالية العالمية التى اعتنقتها بتحفظات شكلية القيادة الصينية. أتصور أننا سوف نشهد إجراءات داخلية صينية، هدفها ابطاء سرعة النمو غير المخطط اجتماعيا، ولكن سنشهد فى الوقت نفسه التشغيل الأمثل لأجهزة البروباجاندا الموروثة عن النظام الشيوعى لنشر الوعى الوطنى وتضخيم الخطر الخارجى وتبرير اقامة جيش عظيم بأسطول جبار.

***
لم يكن صعبا على الرئيس مودى فى الهند، أن يخلص قوى الأمن من قيود الديمقراطية الهندية العتيدة، ليضيق بها الخناق على القوى السياسية التى لا تكف عن المطالبة بحريات أوسع وتضييق الفجوة الاجتماعية وكبح جماح أغنياء الهند. بل، كم كانت مثيرة وملهمة بدايات الحملة الانتخابية للرئاسة فى أمريكا حين تجاسر مرشحون كبار من نوع الملياردير ترامب، ليدعو إلى تجميع صفوف اليمين المتطرف الأمريكى ضد مطالب الملونين والنساء والمهاجرين والفقراء من جميع الألوان والعقائد وكذلك المسلمون، لم نسمع هذا الهراء من قبل حتى فى حملات ريجان وبوش الكبير والصغير أو فى أى حملة انتخابية سابقة. إنها الهجمة الشرسة من جانب أنصار اللامساواة ضد الفقراء والمحرومين.

لا استثنى أوروبا فأزمتها الداخلية تتفاقم باتساع الفجوة التى تفصل دول أوروبا الغنية عن دولها الفقيرة، وأزمة اليونان نموذجا. كذلك لا يمكن إغفال التطورات الأخيرة فى العلاقات بين القارة ككل وشعوب الاقاليم المحيطة بها فى القطاعات الوسطى من أوراسياو فى الشرق الأوسط وأفريقيا. هذه التطورات أقوى شاهد على خطورة المدى الذى وصل إليه تفاقم حالة اللامساواة بين الأغنياء والفقراء وبين طبقة الحكم وطبقات أخرى فى عالم اليوم.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي