لا تفتح جريدة أو تستمع إلى نشرة إخبارية إلا وتجد أمامك قائمة طويلة من الأخبار السيئة ترسم صورة قاتمة لمستقبل ملبد بالغيوم. فمنذ ظهرت الأزمة المالية العالمية على السطح فى النصف الثانى من العام الماضى (2008)، وأنت لا تسمع أو تقرأ إلا عن إفلاس أو خسائر المؤسسات المالية وانهيار أسواق المال وتبخر الثروات. لقد فقدت معظم الأسواق المالية أكثر من نصف قيمتها خلال الأشهر الأخيرة، وبعضها جاوز ذلك بكثير. ولم يتوقف الأمر على الجوانب المالية، فالأزمة بدأت تهدد الاقتصاد الحقيقى أو العينى. ولم يعد شبح الكساد الاقتصادى احتمالا بل أصبح حقيقة واقعة. فانجلترا تعلن أنها دخلت رسميا فى مرحلة الكساد، والاقتصاد الأمريكى بدأ يفقد توازنه، والرئيس الأمريكى الجديد يؤكد أن التحديات التى تواجه الاقتصاد الأمريكى عميقة، وأن الخروج من هذه الأزمة يحتاج إلى جهد وعمل وخيال. والمؤسسات المالية الدولية (مثل صندوق النقد الدولى) تعدل كل يوم توقعاتها عن مستقبل الاقتصاد العالمى بمزيد من التشاؤم. والشركات الكبرى تسرح آلاف العمال، وتوقف أو تلغى مشروعاتها للتوسع، ومعدلات البطالة ترتفع، والمؤشرات تنبئ أنها سوف تكون أكثر سوءا، وأن الأمر لن يكون سهلا، وأن معظم الدول سوف تعرف الأسوأ قبل أن تتحسن الأمور.
وفى هذه الصورة القاتمة، أين يقع الاقتصاد العربى؟
الانطباع العام السائد هو أن الاقتصاد العربى سوف يتأثر سلبا بهذه التطورات العالمية. فالنفط والغاز ــ وهما يمثلان أهم الصادرات العربية ــ انخفضت أسعارهما إلى أقل من الثلث، ومع انغماس الاقتصاد العالمى فى الكساد ــ إن لم يكن الركود ــ فلا يتوقع أن يتحسن الأمر كثيرا فى المستقبل. وحتى بالنسبة للدول العربية، التى لا تصدر بترولا أو غازا أو لا تصدرها بكميات كافية، فإنها سوف تتأثر سلبا هى الأخرى، نتيجة لانخفاض تحويلات العاملين إليها من دول الخليج، والتى تمثل مصدرا رئيسيا للدخل لعدد غير قليل منها. كذلك فمع شيوع الركود الاقتصادى العالمى وفى ظل ما أصاب الأسواق المالية من صدمة، فليس من المتوقع أن تزداد الاستثمارات الخارجية، والأكثر احتمالا هو اتجاهها بالعكس للانخفاض. كذلك لا يتوقع أن تزدهر السياحة، بل الطبيعى أن تعرف بدورها ركودا غير قليل بدأت بالفعل بعض مظاهره مما يؤثر على عدد الدول العربية المستقبلة للسياحة مثل مصر ولبنان وتونس والغرب وأيضا دبى. وحتى المنافسة فى أسواق التصدير فإنها لن تكون سهلة،إذ أن العديد من دول العالم الثالث والاقتصادات الناشئة سوف تندفع بقوة فى سياسات أكثر شراسة للاحتفاظ بأسواقها. وهكذا يبدو أن الركود الاقتصادى العالمى لابد وأن يلقى بظلاله على معظم اقتصادات الدول العربية. هذه بشكل عام النظرة الغالبة وهى ما يمثل الحكمة السائدة Conventional Wisdom.
ولكن هل كل هذا صحيحا؟ وهل هو حتمى؟
ولنبدأ باستعادة التاريخ. لعل الأزمة العالمية فى الثلاثينيات هى المثال الأقرب لما يتعرض له العالم الآن من أزمة مالية واقتصادية. ورغم أن تلك الأزمة قد عمت معظم دول المعمورة، فإن الصحيح أيضا هو أن هذه الفترة والتى عرفت باسم الكساد العظيم، طوق النجاة لعدد محدود من الاقتصادات التى استغلت هذه الأزمة لتحقيق اختراق اقتصادى هائل، مثل ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتى. حقا لقد انتهت هاتان التجربتان على شكل شبه مأساوى. ولكن وبصرف النظر عن التوجهات الأيديولوجية لكل من ألمانيا والاتحاد السوفييتى، وما أصابهما من كوارث فى العقود التالية، فانه من الصحيح أيضا أن البلدين قد حققا أثناء الأزمة ــ وربما بسببها ــ انجازا اقتصاديا مبهرا استغلالا لظروف الأزمة العالمية. كيف؟
مصائب قوم
خرجت ألمانيا مهزومة من الحرب العالمية الأولى وفرض الحلفاء عليها ــ بمقتضى معاهدة فرساى ــ أعباء وقيودا قاسية بدفع تعويضات هائلة للمنتصرين (226 بليون مارك أو 11.3 بليون استرلينى) كما قيدت صناعاتها الوطنية واقتطعت بعض أراضيها لمصلحة المنتصرين. وقد ترتب على ذلك أن عجزت ألمانيا عن الوفاء بدفع التعويضات، فى نفس الوقت الذى عرف فيه الاقتصاد الألمانى تدهورا اقتصاديا شديدا فى ظل أشد أنواع التضخم hyper inflation ضراوة. وقد يكفى أن نتذكر أن الدولار الأمريكى كان يعادل 4.2 مارك قبل قيام الحرب فى 1914 وبلغ 4.2 تريليون مارك فى نهاية 1923 بزيادة قدرها ألف مليون مرة. كذلك تعددت إضرابات العمال بل وأعمال الشغب أيضا، كما عجزت الحكومة الألمانية عن سداد أقساط التعويضات. وبذلك عرفت الجبهة الداخلية تمزقا سياسيا واجتماعيا مما أعطى للنازى فرصة لكسب تعاطف الجماهير الساخطة. وبلغت سخرية العلاقات الدولية ذروتها عندما تلاقت مصالح البنوك الأمريكية مع حاجة الحكومة الألمانية إلى التمويل. فالبنوك الأمريكية تبحث عن أسواق خارجية بعد أن جفت السوق المحلية. وهكذا حصلت ألمانيا على قروض كبيرة من الأسواق المالية الأمريكية مما مكنها من دفع التعويضات لدول الحلفاء وإعادة انتعاش الصناعة الألمانية.
التجربة الروسية
وكان ستالين ــ وهو أيضا طاغية من نوع مختلف ــ نجح فى تعزيز مركزه فى السلطة البلشفية، حيث تخلص من معظم خصومه السياسيين. ومع فرض نظام المزارع الجماعية، وجد ستالين ضرورة للانطلاق الصناعى للدولة الثورية الجديدة لتثبيت أقدامها فى الداخل والخارج. ولم تكن مصادفة كلية أن تبدأ برامج السنوات الخمس للتصنيع فى الاتحاد السوفييتى فى عام 1929، أى مع بدء الأزمة المالية العالمية. وكما ستفعل ألمانيا الهتلرية بعد ذلك، انتهز ستالين وقوع هذه الأزمة للحصول على تسهيلات ائتمانية هائلة من الموردين الصناعيين فى الولايات المتحدة الذين ضاقت أمامهم فرص التسويق المحلى مع ازدياد حدة الأزمة الاقتصادية المحلية. فوقعت شركة أوستن Austin والتى بنت مصانع مع جنرال موترز، عقدا مع السوفييت فى أُغسطس 1929 وذلك لإنشاء مجمع صناعى على نهر الفولجا، كما وقعت شركة فورد عقدا مماثلا فى نفس السنة مع الحكومة السوفييتية، واتفق مع المقاولين آرثر ماكى Arthur McKee & Co. على إنشاء مجمع صناعى ثالث فى منطقة الأُورال. وهكذا تعددت المشروعات الصناعية الكبرى بدعم من الصناعات الغربية. وكان الوزير ميخائيل كالينين ثم الأرمنى ماكويان هما أدوات ستالين فى عقد الصفقات التجارية مع الموردين فى الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها.
وهكذا يبدو أن الحساب النهائى للأزمة المالية العالمية فى الثلاثينيات من القرن الماضى لم يكن كله خسائر لجميع اللاعبين، بل كانت هناك أيضا مكاسب لبعض الفائزين. لقد كانت فترة الأزمة هى فترة بناء أو إعادة بناء الاقتصاد لكل من ألمانيا والاتحاد السوفييتى قبل قيام الحرب العالمية الثانية.
فما الدرس المستفاد من تجربة العالم مع تلك الأزمة المالية السابقة؟
الدرس واضح. ليس من الضرورى أن يعم البلاء على الجميع. ومن الممكن أن تكون «الأزمة» فرصة للبناء أيضا. فماذا عن الاقتصاد العربى. وهل يستطيع هذا الاقتصاد تحويل الأزمة إلى فرصة؟
سبق أن ناقشت من أكثر من مكان مؤكدا أن أزمة المنطقة العربية فى مجموعها، ترجع إلى أنها تحقق من خلال الدول النفطية فوائض مالية هائلة فى شكل أصول مالية مستثمرة فى الأسواق المالية العالمية؛ نظرا للاعتقاد بأنها غير قابلة للاستيعاب فى المنطقة العربية. وكان الاعتقاد أن الاستثمار فى هذه الأصول المالية فى الأسواق المالية العالمية هو استثمار مالى مستقر وآمن. وجاءت الأزمة المالية العالمية الحالية فأصابت هذه العقيدة فى مقتل.
ورغم أن «الاقتصاد العربى يتمتع حاليا ببعض مظاهر الوفرة المالية ــ خاصة فى دول النفط ــ غير أنه يعانى من ضعف جوهرى نتيجة أنه لا يزال اقتصادا متخلفا وغير صناعى. والسبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق ودخول العصر، هو «التصنيع» بكل ما يتطلبه ذلك من الحاجة لإعادة نظر فى النظم والمؤسسات القائمة؛ التعليمية والإدارية والاقتصادية. فالمنطقة العربية لم تعرف بعد «ثورتها الصناعية».
ومن هنا فقد تكون الأزمة العالمية مناسبة لإعادة النظر فى إستراتيجياتنا، واستغلال هذه «الأزمة» أو بالأصح «الفرصة» للقيام بتطوير حقيقى للاقتصاد العربى فى مجموعه. فالحماية الحقيقية للثروة العربية هى القيام بمشروع حضارى (أشبه بمشروع مارشال عربى وبأموال عربية) جبار للاستثمار الكثيف فى تصنيع الوطن العربى وتحويل هذه الفوائض المالية المستثمرة فى الأسواق المالية إلى أصول إنتاجية مستثمرة فى الوطن العربى. فالاستثمارات المالية بها من «الوهم» أكثر مما بها من الحقيقة، والصناعة والتكنولوجيا هى طريق التقدم الأساسى.
المطلوب هو رؤية إستراتيجية بعيدة الأُفق وتوافقا عربيا بين دول الفائض ودول العجز على توفير الضمانات الحقيقية للمستثمرين العرب وتحسين مناخ الاستثمار بشكل جاد وحقيقى، الأمر الذى يتطلب مزيدا من الحريات فى ظل حكم القانون. ومثل هذه الرؤية لن تحقق فقط النهضة الاقتصادية والسياسية للأُمة العربية، بل يمكن أن تمثل إسهاما جادا لإنقاذ الاقتصاد العالمى نفسه من خطر الكساد. فالاقتصاد العالمى مهدد الآن بنقص الطلب فى كل مكان، وقيام المنطقة العربية بمشروع واسع لتصنيع المنطقة من شأنه يمكن أن يمثل دفعة مهمة لإنعاش الاقتصاد العالمى. وبمثل هذه الإستراتيجية الجريئة يمكن تصبح الأزمة المالية العالمية مبعثا للأمل والتفاؤل ليس لأبناء الأمة العربية وحدهم بل للعالم أجمع.
هل بالغت فى التفاؤل؟ ربما، ولكن الفرص لا تنتهى حتى مع قتامة الظلام. والله أعلم.
كوتيشن:
المطلوب هو رؤية إستراتيجية بعيدة الأُفق وتوافقا عربيا بين دول الفائض ودول العجز على توفير الضمانات الحقيقية للمستثمرين العرب وتحسين مناخ الاستثمار بشكل جاد وحقيقى، الأمر الذى يتطلب مزيدا من الحريات فى ظل حكم القانون
كوتيشن:
أزمة المنطقة العربية فى مجموعها، ترجع إلى أنها تحقق من خلال الدول النفطية فوائض مالية هائلة فى شكل أصول مالية مستثمرة فى الأسواق المالية العالمية؛ نظرا للاعتقاد بأنها غير قابلة للاستيعاب فى المنطقة العربية
كوتيشن:
الاقتصاد العربى يتمتع حاليا ببعض مظاهر الوفرة المالية ــ خاصة فى دول النفط ــ غير أنه يعانى من ضعف جوهرى نتيجة أنه لا يزال اقتصادا متخلفا وغير صناعى