ليست الليلة كالبارحة، ففى ليلة ١١ فبراير ٢٠١١ كانت مصر على قلب رجل واحد تنتظر جلاء المخلوع عن حكم مصر، أما اليوم فمعسكر الثوار مقسوم لفريقين يتصارعان على كعكة.. أحدهما يريدها كلها أو معظمها، والآخر يريد قطعة.
نعم مصر تعيش الآن صراعا على السلطة، وليس صراعا على الثورة أو من أجلها، غير أن المفارقة أن الذين كانوا يذرفون الدمع ساخنا رافضين المطالبة بخلع المخلوع، جالسين فى فضائيات المساخر السياسية ينهرون الشعب ويوبخونه لأنه اقترب من قصر الرئيس، أصبحوا اليوم من المصفقين لحرق القصر الرئاسى بالمولوتوف.
وحتى لا ننسى أعيد عليكم مشاهد من مساء ١١ فبراير ٢٠١١ كما سجلتها فى هذا المكان:
كان كل شىء يمضى أمس الأول الجمعة وكأن مبارك فهم أخيرا وبدأ يسمع بأذنيه ويشم بأنفه ويدرك حجم الرفض الشعبى لبقائه، ويرحل محتفظا بالحد الأدنى من الكرامة الإنسانية، بعد أن أهدر كل فرص الخروج بكرامة، وقاده عناده وتشبثه بالسلطة إلى مصير بائس رفع منسوب كراهية الناس له.
انتظر الملايين أن يرحل فى ظل تسريبات عديدة شبه رسمية بأنه انتهى وغادر السلطة، وربما غادر البلد أيضا، بعد الإعلان عن البيان الأول للجيش، والتنويه بأنه سيلقى خطبة الوداع ويمضى إلى حال سبيله.
كانت كل الوقائع تقول إن أحدا استجاب لإرادة الشعب، ونجح فى دفع الرئيس دفعا للتنحى بشىء من الكرامة، واحتشد الملايين فى ميادين مصر ينتظرون خطابه الذى أعلنوا أنه سيلقيه منذ عصر أمس، ومضت الساعات ثقيلة والخطاب لم يظهر، وكالعادة تسلل مبارك إلى شاشة التليفزيون عند منتصف الليل.
كانت دقائق من الملل والسخط والضيق والقرف، حيث بدا وكأن المتحدث أمامهم على الشاشة فقد كل وسائل الإدراك والإحساس، إذ طغت «الأنا» و«تاء الفاعل» على معظم كلمات الخطاب، فبسلامته «قرر» و«رأى» و«أمر» و«طلب» و«وجه» وتحدث عن أشياء مستقبلية وكأنه لا يزال موجودا، ولا تزال له شرعية.
ويبدو أن ما أشيع عن تغيير فى اللحظات الاخيرة فى خطابه، واستبدال خطاب آخر به، صحيح وحقيقى، خصوصا إذا وضعنا فى الاعتبار ذلك الذى جرى فى العاصمة الأمريكية بين باراك أوباما وإيهود باراك وزير الدفاع الصهيونى.
ففى اللحظة التى كان فيها المجلس العسكرى منعقدا فى مصر، كان باراك مجتمعا مع أوباما، وكان الموضوع الأساسى فى الاجتماعين هو حسنى مبارك.
وزير الدفاع الإسرائيلى ايهود باراك خرج من لقاء أوباما بتصريح يحذر من سيطرة جماعة الاخوان المسلمين على الحكم فى مصر، معلنا أنه «يتفهم مخاوف مبارك من سيطرة المتطرفين على الحكم فى البلاد إذا تنحى او إن سمح بإجراء انتخابات فى وقت قريب».
بعد هذا التصريح مباشرة تغيرت اللهجة الرسمية فى مصر، وبدلا من أن يعلنوا على الشعب الخبر السعيد الذى بشر به الجيش، جاءوا بمبارك وكأنه تلقى قبلة الحياة من واشنطن ليخرج لسانه مرة أخرى لإغاظة ملايين الثوار، ويستفز غضب الشعب المصرى إلى حدوده القصوى، ويدفع الأمور إلى صدام بين الشعب والجيش، بما يذكر بمشهد جميل راتب فى فيلم البداية وهو يغرق الواحة بكميات من الكيروسين ويشعل فيها النار بعد أن رفض سكانها حكمه الديكتاتورى الكئيب.
وبعدها انطلقت الخلايا النائمة على الفضائيات تفسر تحديه لمشاعر الناس بأنه لا يريد التنحى، وتلوك كلاما سخيفا وساقطا عن سيطرة الإخوان المسلمين، وتردد عبارات محنطة ومنحطة عن أن الرجل فعل ما عليه، ولا داعى للتوجه لإعلان الغضب عند القصر الجمهورى