ما يدعونى لكتابة هذا المقال هو الاستعداد لمرحلة ثانية من الحوار الوطنى، ويبدو من تصريحات الدكتور ضياء رشوان ــ المنسق العام للحوار ــ أن هذه المرحلة سوف تبدأ بالتركيز على الأوضاع الاقتصادية، وربما تقتصر على لجان المحور الاقتصادى فى مرحلته الأولى، ولكن نبه الأستاذ دكتور على الدين هلال ــ مقرر عام المحور السياسى ــ فى لقاء تلفزيونى له مع الدكتور رشوان بأن القضايا الاقتصادية لها أبعاد سياسية، ولذلك يجب ألا يقتصر الحوار القادم فقط على خبراء الاقتصاد، وضرب مثلا على ذلك بما كتبه الأستاذ عبدالفتاح الجبالى ــ المقرر العام المساعد للمحور الاقتصادى ــ عن جوانب سياسية للسياسة الاقتصادية، وهذه بالفعل قضية على درجة عالية من الأهمية تستحق الوقوف عندها، فالواقع أن بعض القادة السياسيين يميلون إلى قصر شئون الاقتصاد على العاملين فيه من أصحاب المشروعات، ومنهم مثلا الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب الذى يحمل نفس الأفكار، وإن كان واقع الحياة الاقتصادية يدفع الساسة المنادين بهذه الأفكار إلى العودة لاستخدام موارد الدولة للتخفيف من أثر الأزمات الاقتصادية على مستويات معيشة المواطنين والمواطنات، كما فعل ترامب فى أثناء جائحة كوفيد التى أطاحت بعمالة الملايين، ثم أمر بصرف شيكات لهم تحمل توقيعه شخصيا. بل إن بعض المدارس الاقتصادية، كالمدرسة النيوكلاسيكية والمدرسة النيوليبرالية، يدعو إلى الفصل بين السياسة والاقتصاد.
والواقع أن مثل هذا القول بوقف تدخل الدولة فى شئون الاقتصاد لا يصمد أمام التمحيص لا علميا ولا واقعيا. فأكثر الدول الرأسمالية بعدا عن تدخل الدولة يقطع بأن دور الدولة فى الاقتصاد هو أمر لا غنى عنه.
أبعاد تدخل الدولة فى الاقتصاد
الأمر واضح تماما فى الاقتصادات الرأسمالية التى تقوم على أساس الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج وتترك مجالا واسعا لقوى السوق. ومع ذلك، فالدولة من خلال أدواتها النقدية والمالية تحدد توجه الاقتصاد انتعاشا أو انكماشا. سعر الفائدة يحدده البنك المركزى فى هذه الدول، فإذا كانت الدولة، بالتوافق بين مؤسساتها التنفيذية والتشريعية ترى الحاجة إلى توسع الاقتصاد، فإن البنك المركزى، والذى يتمتع بالاستقلال عن الحكومة، يقوم بخفض معدل الفائدة لتقل نفقة الاقتراض من البنوك، وتعزز الحكومة ذلك بخفض الضرائب حتى يتاح للمشروعات فائض أعلى توجهه للاستثمار. وعندما ترى مؤسسات الدولة أن الظرف الاقتصادى يستدعى خفض معدل نمو النشاط الاقتصادى حرصا على كبح التضخم، يقوم البنك المركزى فى هذه الحالة برفع معدل الفائدة، فتصبح القروض التى تقدمها البنوك أعلى نفقة، كما ترفع الحكومة ممثلة فى وزارة ماليتها من معدلات الضرائب، فيقل الفائض المتاح لأصحاب المشروعات والمواطنين للاستثمار والإنفاق، فتهبط بالتالى فرص التوظيف، وتنخفض الأسعار.
ولكن دور الدولة فى الاقتصادات الرأسمالية لا يقتصر فقط على التحكم فى اتجاهات الاقتصاد الكلى بالتوسع أو الانكماش، ولكنه يمتد أيضا إلى التأثير على تخصيص الموارد على نحو يتفق مع اتجاهات سياساتها العامة. إدارة الرئيس بايدن فى الولايات المتحدة تتحدث عن سياسة صناعية تمكن الولايات المتحدة من الوقوف أمام منافسة الصين لها فى فروع صناعة المعلوماتية المتقدمة، ليس فقط من خلال وقف تعاقد الشركات الصينية مع شركات أمريكية بل وحكومات غربية فى مجال الاتصالات بل بالدخول فى تعاقدات مع كبرى الشركات الأمريكية دفعا لأنشطتها البحثية والتطبيقية فى هذا المجال. ولا يغيب عن فطنة القراء هنا أن الحكومة الأمريكية ليس لها مصانع توفر احتياجاتها من أجهزة الحاسب الآلى المتقدمة أو شبكات الاتصال، أو حتى الصواريخ ومركبات الفضاء، فهى تحصل عليها بالتعاقد مع الشركات الأمريكية الكبرى، وليست إدارة الرئيس بايدن فريدة فى هذا المجال، لكن لا تتسع مساحة الصفحة لتفصيل ذلك.
تأثير الدولة على تخصيص الموارد فى الاقتصاد أوسع بكثير فى الدول التى لا تأخذ بقواعد الاقتصاد الرأسمالى، وخصوصا فى الدول ذات الاقتصادات الاشتراكية أو دول الجنوب الأخرى التى يتسع فيها دور الدولة ليضم قطاعا واسعا من الاقتصاد. وإذا كان حجم المالية العامة فى الاقتصاد الكلى لا يقل فى الاقتصادات الرأسمالية عادة عن ربع الناتج المحلى فيه فإنه أوسع بكثير فى الدول الاشتراكية السابقة التى عدلت عن القواعد المألوفة للاقتصاد الاشتراكى أو تلك التى مازالت المؤسسات المملوكة للدولة فيها تقوم بدور واسع فى الإنتاج والخدمات. هذا هو حال الصين مثلا وهو حال مصر أيضا فى الوقت الحاضر. سياسة الإصلاح الاقتصادى فى الصين التى بدأت فى عهد رجلها القوى، دنج هشياو بينج، فى أواخر سبعينيات القرن الماضى كانت تدعو لنهوض الاقتصاد الصينى بتحديث قطاعات أربع هى العلم والتكنولوجيا والصناعة والزراعة والدفاع الوطنى. طبعا اقتضى ذلك توجيه موارد واسعة من الاستثمارات والسلع والخدمات والأيدى العاملة والخبرات العلمية والإدارية لتحقيق البرامج الطموحة فى هذه القطاعات، وأدى النجاح فى ذلك ليس فقط لخفض معدلات الفقر التى كادت أن تختفى، ورفع مستوى معيشة الشعب، بل إلى القفز بالصين لكى تصبح ثانى اقتصاد فى العالم. طبعا التدخل الواسع من جانب الدولة فى تخصيص الموارد فى الاقتصاد لم يقتصر على الصين، ولكنه كان أمرا شائعا فى دول أخرى كثيرة (مستعمرات سابقة، و/أو عرفت إلى جانب ذلك تجربة نمو قادها القطاع العام).
هناك من ناحية كوريا الشمالية وإيران. وهناك من ناحية أخرى فيتنام وكوريا الجنوبية والهند، الأولى أخفقت فى أن تتحول إلى أن تصبح دولا صناعية جديدة تنافس الدول الصناعية المتقدمة داخل أسواقها وتوفر لشعبها ظروف حياة كريمة، والثانية أصبحت اقتصادات صاعدة على مستوى العالم. ولذلك لا يمكن القول بأن الخطأ والفارق بين هاتين المجموعتين من الدول هو فى مدى تدخل الدولة فى الاقتصاد أو فى تخصيص الموارد، ولكنه فى كيفية قيام الدولة بهذا الدور. هل يكون تدخلها رشيدا أم يفتقد الرشادة؟ هل كانت أولويات الاستثمار من جانب الدولة ومن جانب القطاع الخاص الذى يسترشد بالإشارات الواردة له من جانب الدولة متفقة مع الغايات الصحيحة للتنمية، أم أن فقه الأولويات غاب عنها؟ ولماذا حضرت الرشادة فى بعض الحالات وغابت الرشادة فى حالات أخرى؟
دليل الشعوب الذكية لإدارة الاقتصاد
لابد أن القراء لاحظوا أن عنوان هذا القسم الأخير يشير إلى دور الشعوب وليس لدور الرجل الذكى، فالإدارة الذكية للاقتصاد لا يمكن أن تقع على كاهل شخص واحد مهما كان عبقريا ومهما كانت سلطته، ولكنها عمل مؤسسات فعالة ووليدة فكر جماعى يسترشد بأحوال اقتصاد بلاد هذه المؤسسات وخبرات الماضى وتجارب الشعوب الأخرى، ولذلك عندما تتواجد مثل هذه المؤسسات، وتكون إطارا للحوار المفتوح حول أولويات الاقتصاد، ودروس التجارب الماضية كلما كان ذلك داعيا لخروجها باختيارات رشيدة حول إدارة اقتصاد بلادها.
صحيح أن سياسات الإصلاح التى نقلت الاقتصاد الصينى إلى أن يكون ثانى اقتصاد فى العالم ارتبطت باسم دينج هشياو بينج الذى كان رجل الصين القوى وزعيم حزبها الشيوعى ورئيس لجنته العسكرية بعد رحيل ماو تسى تونج، لكن لا يمكن القول بأن دعوته للتحديثات الأربع فى مجالات العلم والتكنولوجيا والصناعة والزراعة والدفاع كانت فكرة تخمرت فى ذهنه وفرضها على الحزب الشيوعى الحاكم وعلى الشعب الصينى، وإنما كانت القراءة الصحيحة التى وصل لها رجال الدولة والخبراء الصينيون وهم يتأملون حال الصين والتى كانت أغلبية مواطنيها فى ذلك الوقت تشتغل بالزراعة، وكانت صناعتها حتى ولو كانت تكفى حاجات الشعب إلا أن تكنولوجياتها كانت متخلفة بالمقارنة بضعف تنافسيتها فى السوق العالمية، فضلا عن أن الصين رغم العلاقات الودية التى كانت تربطها فى ذلك الوقت بالولايات المتحدة، لم تكن تأمن جانبها، وخصوصا أن جمهورية الصين الشعبية كانت ولاتزال تتطلع لوحدة كل أراضى الصين التاريخية سواء فى تايوان أو هونج كونج، ولذلك فتطوير قدراتها الدفاعية هو أمر ذو أولوية كبرى، ولاشك أن رجال الدولة والخبراء الصينيين توصلوا إلى أن الطريق للنهوض بالزراعة والصناعة وقدرات الصين الدفاعية هو من خلال النهوض بقدرات الصين العلمية والتكنولوجية، والانفتاح على الخارج والتعلم من الدول الأكثر تقدما، ولكن بشرط أن تبقى قدرات الصين ومواردها ومرافقها الأساسية ملكا للشعب الصينى. هذه هى الأفكار التى توصل لها رجال الدولة بين زعامات الحزب الشيوعى الصينى فى لجنته المركزية والتى تولى دينج هشياو بينج صياغتها فى برنامج التحديثات الكبرى.
لم يختلف الأمر كثيرا فى جمهورية كوريا الجنوبية بعد الانقلاب العسكرى الذى قاده الجنرال «بارك شونج هى» فى ١٩٦١، فلم يكن التوصل إلى أن استراتيجية التنمية يجب أن تستند إلى التصنيع اختراعا من عنده، بل لم يكن هناك سبيل للخروج من مأزق الفقر والتبعية الاقتصادية فى بلد يعانى من فقر الموارد الطبيعية وبمستوى غير متواضع من التعليم سوى بالتصنيع اعتمادا على قوة البشر، وكانت ترجمة استراتيجية التنمية إلى خطط متتالية هى الدور الأساسى الذى لعبه مجلس التخطيط الاقتصادى فى كوريا الجنوبية، وكما كانت اللجنة المركزية للشئون المالية والاقتصادية التى يتولاها رئيس الدولة فى الصين هى مصنع الأفكار وجهاز المتابعة لتقدم الصين الاقتصادى، كان هذا المجلس يضطلع بدور مشابه فى جمهورية كوريا، وكانت وسيلة تحقيق استراتيجية التنمية الطموح هى من خلال التخطيط الذى تحول من تخطيط مركزى إلى تخطيط تأشيرى وإلى التحول أخيرا إلى اعتماد أدوات السياسة النقدية والمالية فى كل من الدولتين.
لا تصنف لا جمهورية الصين الشعبية ولا كوريا الجنوبية فى ستينيات القرن الماضى وحتى أواخر الثمانينيات على أنهما من النظم السياسية الموصوفة بالديمقراطية، ولكنهما امتلكتا مؤسسات يدور فيها الحوار، وتناقش فيها البدائل وتخرج منها السياسات التى تحظى فى وقتها على الأقل بقدر واسع من الرشادة ومن التوافق بين أقسام النخب الحاكمة، وهى المؤسسات التى خرجت منها أنجح تجارب التنمية فى مجتمعات الجنوب. أما الحالات الأخرى التى تعثرت تنميتها ولم تقفز حتى الآن إلى مصاف الدول الصناعية الجديدة فهى تلك التى خضعت سياساتها الاقتصادية لتحكم فريق حاكم استبعد التيارات الأخرى من دوائر صنع السياسات.