ملاحظات فى موضوع التمويل الأجنبى للجمعيات ظهرت بعد الثورة تنظيمات أهليـة تمـول مـن أمريگا لإشـاعة الفوضـى والعشـوائية لتفگيك مصـر
السؤال: أليس النشاط غير القانونى الممول من الخارج لإسقاط الدولة المصرية ضد الأمن القومى؟
هل يمكن أن يتم سفر المتهمين الأمريكيين فى القضية دون علم المجلس الأعلى للقوات المسلحة؟
الدولة التى لا يعلم حاكمها بواقعة كهذه يمكن أن تُحتل أراضيها دون علمه
إذا كانت رئاسة الجمهورية لم تعلم بسفر المتهمين وسكتت بعد علمها فهذا تهاون فى حماية أمن مصر القومى
(1)
لم يُطح الشعب المصرى وقواته المسلحة بحسنى مبارك وينهوا نظامه وجماعته الفاسدة، لمجرد أنه كان حاكما فردا مستبدا، بل كان السبب الأهم لفساده واستبداده هو ومن معه أنه كان ينفذ المشيئة الأمريكية والإسرائيلية فى الشئون المصرية، ويعلو بموجبات هذه المشيئة على الصالح الوطنى العام للشعب المصرية وبلاده. لم يكن الاستبداد فقط هو سبب الإطاحة به وبنظامه، ولا كانت فرديته فى الحكم وإثراؤه غير المشروع هما فقط السبب لهذه الكراهية العميقة التى تجمعت لدى المصريين جميعا ضده، ولا كان ذلك وحده هو السبب لهوانه عندهم،، إنما كان السبب العمقيق لاجتماع المصريين جميعا ضده فى حراك شبه تلقائى شهد أكبر تجمع شعبى للمصريين فى عصرهم الحديث، كان السبب هو أنه لم يكن أمينا على مصالح الشعب المصرى ولا كان أمينا فى رعاية ما يوجبه أمنهم الجماعى من سياسات. بل لقد كان عاملا على إفساد الصالح المصرى العام وعلى إفناء موجبات الأمن القومى لمصر، استجابة للمشيئة الأمريكية وتحقيقا للصالح الإسرائيلى المتلبس بهذه المشيئة الأمريكية على مدى السنوات السبعين السابقة.
قامت ثورة 25 يناير 2011، ليس ضد حاكم فرد مستبد فاسد فقط، ولكنها قامت لأن سياساته تورث الدمار لمصر بحسبانها جماعة سياسية وشعبا ودولة، ولكى أوضح هذه المسألة، فإن حسنى مبارك يكاد يكون أول حاكم لمصر الحديثة يسعى بسياساته إلى تدمير الهياكل الأساسية التى تقوم عليها مصر حضارة وشعبا ومصالح جماعية. وقد سعى إلى تدمير الرقعة الزراعية لمصر التى لا حياة لمصر بغيرها وأشاع الاضطراب فى السياسة المائية وقيد مصر فى ثرواتها الطبيعية بالكثير من الاتفاقيات مع القوى الخارجية ومع إسرائيل وغيرها. ودمر معاهد التعليم العامة لإفقاد المصريين ما يتميزون به من كفاءة تعليمية وتدريبية تجعلهم من ذوى الطاقات المهنية والحرفية التى تمكنهم من أن يكونوا الثروة الأساسية لبلدهم.
وكل ذلك قام به بتفكيك الدولة المصرية بحسبانها المؤسسة الأم المشرفة والمديرة لجميع تنظيمات المجتمع المصرى وهيئاته وتشكيلاته التنظيمية، وهى التى تدير المجتمع المصرى والجماعة المصرية فى عمومها وتحفظ لها استمراريتها ونموها، وهذه الدولة وجدت مصر عندما وجدت هذه الدولة من عصر مينا أول الأسر الفرعونية القديمة، وكانت مصر تعظم بنموها وتخبو باضمحلالها عبر التاريخ كله، وهى فى شكلها الحديث ونظمها الحديثة وجدت مع حكم محمد على فى الربع الأول من القرن التاسع عشر.
ونمت وتقدمت نظم وأساليب إدارة مع النمو الحضارى لمصر عبر القرنين الأخيرين وعبر ثورات مصر المتعاقبة من محمد على إلى اليوم. وليس فى مصر طوائف ولا قبائل ولا انتماءات إقليمية قادرة على إدارة الشئون الحضارية لجماعاتها، ليس فيها من ذلك إلا دولتها المركزية وما يوازيها ويساعدها من مؤسسات المجتمع الأهلى. هذه الدولة أجهزتها ومؤسساتها وهيئاتها عمل حكم حسنى مبارك على تفكيكها وتقويضها، وكان هذا من أقبح وأضل وأسوأ ما فعل. وهو صنيع لا يحقق إلا الصالح الإسرائيلى فى المنطقة العربية، لينتهى دور مصر تماما ويقضى على قدراتها الحضارية والتنموية والثقافية وتحل إسرائيل محلها فى ذلك مستفيدة من ذات الموقع الجغرافى ومساندة للأطماع الأمريكية. وأن الفارق بين الاستعمار الإنجليزى لمصر منذ 1882، والاستعمار الأمريكى على عهد حسنى مبارك، أن الإنجليز كانوا يستعمرون لمصر ليديروها لصالحهم، أما الأمريكيون فهم يريدون إفناء مصر كدولة وجماعة سياسية ومركز حضارى ليحل محلها الكيان الإسرائيلى التابع لهم. وكانت طلبتهم تدمير مصر وإنهاء وجودها السياسى بإفقادها كل مقومات الوجود السياسى. وكان تفكيك الدولة جزء لا يتجزأ من هذا التوجه.
من أجل ذلك كرهنا حسنى مبارك وعاديناه وتطاولنا على حكمه ونظامه حتى سقط تحت ضربات ثورة 25 يناير التى قام الشعب المصرى واجتمع عليها بملايينه الكثيفة، فى معركة سياسية كانت من أنبل المعارك وأكثرها تحضرا ووعيا، وأتمها الجيش المصرى بانحيازه للشعب فى حسم المعركة الأساسية للثورة ولكل الثورات وهى معركة الإطاحة بالقائمين على السلطة ونقلها إلى تشكيلات جديدة ونحو بناء نظام جديد للسلطة وللدولة، وهذا ما جرى فى 10 و11 فبراير سنة 2011.
(2)
لم يكن سقوط حسنى مبارك سقوطا لحاكم مستبد فقط، إنما كان يتعين أن يكون سقوطا لسياسات غير وطنية مفسدة لمصر أرضا وثروات طبيعية وشعبا وثروات بشرية، وكان كما يتعين أن يكون سقوطا لسياسات تستهدف تفكيك دولتها وأجهزة إدارة المجتمع بها وأجهزة حفظ أمنها القومى وأمنها الداخلى. وهذا الذى يتعين أن يكون هو ما من شأنه أن يحقق نصرا للصالح الوطنى العام، ليسترد المصريون شعبا ودولة وسلطة الهيمنة على شأنهم الوطنى وليتبعوا سياسات تحقق الصالح الوطنى العام لمصر والمصريين، من خلال دولتها وتنظيماتها الشعبية والموازية. وإذا كنا نبغى الديمقراطية طبعا، فإن الديمقراطية نظام حكم وأسلوب عمل عام، وهى يتعين أن تكون مقترنة بالصالح الوطنى العام للشعب وإنهاء كل سيطرة أجنبية على مفردات هذه الدولة وشعبها. ويستحيل قيام نظام ديمقراطى حقيقى بغير أن يكون مضمون سياساته بما يحقق الصالح الوطنى العام ويزيح الهيمنة الأجنبية عن مقدرات الوطن.
فى الشهور التى أعقبت حسم نقل السلطة السياسية والإطاحة بحسنى مبارك فى فبراير 2011، وجد زخم سياسى صاخب، كانت هناك قوى سياسية نظامية ذات تنظيمات شعبية وذات انضباط، وكانت هناك قوى سياسية جديدة لم تنشأ بعد تنظيماتها السياسية ذات الانضباط الحركى فاعتمدت على التجييش والحماس والصوت العالى لتحرك بذلك جمهورا نشوانا بالنصر ولا يملك روابط تنظيمية تضبطه، واختزلت الأهداف السياسية فى شعارات بالغة العموم لا تفرق بين تشكيل وآخر ولا بين سياسات عينية ملموسة وأخرى، وكان هناك إعلام اعتمد على الصخب والتجييش بغير سياسات محددة، ثم كانت هناك مجموعات وجمعيات ممولة من الخارج تتدخل فى هذا الزحام وتستغل عدم وجود الحراك الشعبى المنضبط المنظم فى القيادات المحددة.
وجدت قوى سياسية تظهر بمظهر تنظيمات أهلية وتمول من الأمريكيين باعتراف الأمريكيين أنفسهم وهى فى نشاطها تستبقى الفوضى وتشيع عدم الانضباط والعشوائية فى الحركة الشعبية. نحن نعرف أن القوى الشبابية الثورية الجديدة تعد تنظيمات لها وتشكيلات وتعمل على أن تستفيد من الحراك الشعبى القائم فى الانتشار وتوسيع قاعدة شعبية لها ما تلبث أن تنتظم تنظيميا فى تشكيلات مؤسسية شعبية. ولكن هذا الأمر يختلف كلية عن تنظيمات أخرى ترغب فى استبقاء العشوائية والتلقائية ليهتز بنيان المجتمع ومؤسساته ودولته. وهذه التنظيمات الأخيرة ممولة من الولايات المتحدة الأمريكية، وأول ما سمعنا بذلك كان من حديث لسفيرة الولايات المتحدة الجديدة الآتية إلى القاهرة، ذكرت فى لقائها مع لجنة من الكونجرس الأمريكى إن الولايات المتحدة أنفقت بمصر 40 مليون دولار فى الأسابيع الأخيرة منذ قيام الثورة المصرية، وذكرت مصادر أمريكية أخرى أن الإنفاق كان بلغ 65 مليون دولار، وذكرت مصادر أخرى أنه بلغ 200 مليون دولار.
ووجدنا أنه مع كل حراك شعبى سياسى تنادى به الجماعات الشبابية الوليدة، تظهر ممارسات تفضى إلى الوقيعة بين قوى الدولة وبين الحراك الشعبى، ثم تضيع الأهداف الأصلية التى كانت مرسومة للحراك الأول، وتظهر مشاكل ما وقع من اضطراب وفتن وسوء تدبير سواء من قوى الدولة أو من الممارسات الحركية الحاصلة. وانزرعت الوقيعة بين قوى الدولة النظامية وبين الحراك الشعبى التلقائى، وبعد أن شاهدنا مثالا للتعاون والتآزر بين هذه القوى أثناء عملية الإطاحة بحسنى مبارك ونظامه، حصلت النفرة والوقيعة.
(3)
كانت العملية تسير فى طريق تحويل الأحداث من طريق بناء نظام ديمقراطى يرعى المصالح العليا للشعب المصرى، إلى طريق إشاعة العشوائية والتلقائية وزرع الوقيعة بين الشعب وأجهزة الدولة إسقاطا لها على المدى السريع. وهذا ما لم يكن عليه المسار الشعبى والثورة منذ قامت ثورة 25 يناير وأحد شعاراتها «سلمية سلمية» وبركوب الدبابات فى الشوارع والكتابة عليها الشعارات الثورية. بل انه لم يكن قط مسار الشعب المصرى فى كل تاريخه الحديث وفى ثوراته الأربع السابقة على 25 يناير، كان دائما فى ثوراته يستهدف إسقاط نظام حكم قائم وسياسات قائمة، ولكنه لم يكن أبدا يهدف إلى تحطيم أجهزة إدارة الدولة، لا عسكرية ولا أمنية ولا مدنية. بل إن هذه الأجهزة عند درجة معينة من تصاعد الحراك الشعبى الثورى، كانت تنضم إلى الشعب فى حركته الثورية، وجدنا ذلك فى ثورة المصريين التى أفضت إلى حكم محمد على فى 1805، ووجدناه فى ثورة عرابى فى توحد حركة الجيش والشعب سنة 1882، ووجدناه فى ثورة 1919 عندما أضرب موظفو الدولة جميعا تأييدا للثورة وصارت «الحكومة مستحيلة» حسبما عبر الإنجليز وقتها، ثم وجدناه فى ثورة 23 يوليو 1952 بما لا يخفى، إذ قام بها نفر من الجيش أيده الشعب. وذلك لم يحدث أبدا للشعب المصرى وهو فى قمة صعوده الثورى للإطاحة بنظام حكم ظالم قائم، أن سعى أو عمل على تفكيك أجهزة الدولة، بل إنه كان على المدى الطويل فى تاريخه الحديث كله يسعى إلى تماسكها ونموها التنظيمى وكفاءتها فى الأداء.
لذلك كان غريبا على التجربة التاريخية السياسية المصرية فى عصرها الحديث، أن يعمل عاملون فى حراك شعبى على إثارة الوقيعة بين أجهزة الدولة والحركة الشعبية وأن يعملوا على إسقاط هذه الأجهزة بالتفكيك وإهدار الشرعية.
لقد وجدنا سعيا لإسقاط جهاز إدارة الدولة المصرية، وشاهدنا من يتوجهون إلى مبان حكومية وإدارية لتحطيمها، وجدنا من يتجهون بإلحاح إلى مبنى وزارة الداخلية لتحطيمه ويكررون المحاولة مرات ومرات، ووجدنا من يحرقون مبنى الطرق والكبارى ويفقدون البلاد كنزا من الخرائط والملفات الخاصة بهذه المرافق الحيوية، ووجدنا من يحرقون مبنى الضرائب العقارية، ومن يعتصمون أمام مبنى رئاسة الوزراء لمنع استخدامه ولإثارة المعارك حوله وهم لا يزيدون عن عشرات من العناصر غير معروفة الهوية السياسية ومع كل ذلك وغيره تجرى أحداث عنف ويسقط الضحايا وتشيع الفرقة بين عمال الدولة والحركة الحادثة فى الشوارع، وعمال الدولة فيهم من فيهم من عناصر النظام السابق الساقط، وحراك الشوارع فيه هذه التوجهات الغريبة تتلبس لبوس الثورة وشبابها، وشباب الثورة الحقيقيون لا يملكون القدرات التنظيمية التى تمكنهم من ضبط الحراك الشعبى الذى يجمعونه بالشعارات والنداءات، ويحشدون شبابا كثيفا محبا للثورة ولبلده ولكنهم لا يملكون وسائل ضبط حركته وتنظيمها، ولا إمكانية فرزهم عن غيرهم.
ووجدنا سعيا لإسقاط القوات المسلحة وإسقاط هيبتها، مع المناداة ضدها وضد أجهزتها وقادتها بأبشع العبارات وأقذعها التى تسقط الهيبة وتهدم الوقار فى عيون العامة. كما وجدنا نوعا من ذلك يتعلق بالسلطة القضائية واتهامات تثار على مدى الشهور الماضية وعدوانا على قاعات جلسات محاكم حكمت فى دعاوى غير سياسية، وتحطيم قاعات وحشود أمام محاكم بما يهدر الاحترام الواجب. وبدأ يشيع فى «الثقافة السياسية» الدارجة أن ليس للدولة قط أن تستخدم أى وسيلة مقاومة عنيفة فى مواجهة هذا «النشاط الثورى» ومع حركة إعلامية واسعة بدأ الشلل يصيب أجهزة الدولة فى مواجهة أى حراك ولو كان استفزازيا ويستخدم العنف «كقنابل المولوتوف والشماريخ» شلل يصيب فاعلية الشرطة والجيش فى حفظ الأمن وتأمين المرافق ومبانى وأجهزة إدارة الدولة، كما يصيب القضاء فى نظره المتأنى والمنضبط فى قضاياه. والدولة فى نهاية التحليل لماهيتها هى من يقوم بحفظ أمن الجماعة وإدارة شئون المجتمع ومرافقه، وهى جهاز من أشخاص مهما كان عددهم فهو محدود إزاء جماهير المحكومين الحاشدة. لذلك تعتمد فى حكومتها للناس على ثلاثة عناصر، أولها التقبل العام للجماهير لها مما يكسبها شرعية حكومتهم، وثانيها هيبتها لدى الناس مما يكسبهم الطواعية لها ولقراراتها، وثالثها العنف تواجه به القليل الخارج عليها، وهى فى ذلك نحتاج إلى كثير من التقبل العام والهيبة وقليل من استخدام العنف، فإذا غاب الشعور بالتقبل العام وأهدرت الهيبة وشل العنف، فقد سقطت الدولة أى شلت فاعليتها.
(4)
نحن إذن أمام نوع نشاط منظم ويستند إلى فهم لأوضاع المجتمعات والدول والنظم. ويظهر من ذلك أن هذه الممارسات وإن كانت مختلفة تماما عما كان يصنع حسنى مبارك فى تفكيك الدولة المصرية والمجتمع المصرى، إلا أنها تفضى إلى ذات النتيجة التى كان يستهدفها نظام حكمه المدفوع فى قراراته من الخارج. وإن هذه الممارسات ظهرت كما أشير فيما سبق أنها ممولة من الولايات المتحدة الأمريكية ــ ذات الجهة التى كانت توجه قرارات النظام المخلوع ــ وأنه تمويل كان يجرى من جمعيات أمريكية غير معترف بها رسميا طبقا للقانون المصرى، إلى جميعات مصرية تسهم فى هذه الممارسات.
وإن السؤال الذى يثور الآن هو أن هذا النشاط غير القانونى الممول من الخارج، ألا يعتبر ضد الأمن القومى المصرى، أليس السعى لإسقاط الدولة المصرية بأجهزتها العسكرية والقضائية والمدنية، أليس ذلك يعتبر نشاطا ضد الأمن القومى المصرى؟ لذلك حقق الموضوع بواسطة قضاة تحقيق أجلاء مارسوه من داخل السلطة القضائية، وقدموا اتهاماتهم لجمعيات معينة أجنبية ومصرية ولأشخاص معينين أجانب ومصريين، وأنيط بالمحاكم العادية ممثلة فى محكمة الجنايات التى هى جزء من محكمة استئناف القاهرة نظر الدعوى فى ضوء أحكام القانون المصرى السارية من قبل، وحبس احتياطيا من حبس ومنع من السفر إلى الخارج من منع من المتهمين حتى تقضى المحكمة فى الأمر، وذلك طبقا لقوانين الإجراءات الجائية المتبعة مع الكافة.
ثم فجأة عرفنا ما عرفناه من سعى رئيس محكمة استئناف القاهرة لدى الدائرة التى تنظر الدعوى لأن تلغى منع سفر المتهمين الأمريكيين ورفض الدائرة التى تنظر الدعوى هذا السعى وتنحيها عن نظرها، ثم إنشاء رئيس محكمة الاستئناف دائرة أخرى نظرت فى طلب إلغاء منع السفر وألغته فى ذات اليوم الذى فيه جاءت طائرة عسكرية أمريكية إلى مصر وهبطت فى مطارها بغير تصريح يصدر لها من السلطات المصرية، وحملت المتهمين الأمريكيين إلى خارج مصر. وذلك كله وسط تصريحات من وزيرة الخارجية الأمريكية وطاقم وزارتها بأن الأزمة مع مصر قد حلت وأن الأمريكيين المتهمين سيعودون إلى بلادهم. ولم ينس المسئولون الأمريكيmن فى تصويرهم للأزمة وحلها وعودة الأمريكيين إلى بلدهم، أن يعبروا عن استهانتهم بمصر ودولتها بقول هيلارى كلنتون أن مصر «بلا حكومة». وهو ما عملوا من أجله ويعملون دائما منذ حكومة حسنى مبارك إلى اليوم، وهو أن تصير مصر بلا دولة.
●●●
هذا التنسيق بين رئيس محكمة الاستئناف بشأن قرار قضائى يصدر من إحدى دوائر المحكمة التى يرأسها، وبين تصريحات وزيرة خارجية الولايات المتحدة بأن أزمة بلدها مع مصر فى طريق الانتهاء، وبين طائرة أمريكية تهبط بغير ترخيص فى الأراضى المصرية، وكل ذلك بشأن دعوى قضائية فيها متهمون أمريكيون فى قضية تمس أمن مصر الداخلى والقومى. هل يمكن أن يتم كل ذلك بغير علم المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى يقف على رأس السلطة السياسية فى مصر الآن ويمثل الدولة فى علاقتها مع الخارج ويمارس اختصاصات رئيس الجمهورية. وهل يجوز القول بأن من يمارس السلطة التنفيذية ويرأس الدولة كلها من الغفلة بحيث لم يعرف ولا كان له شأن بما جرى.
لقد قالها وخرج بها إلينا فى تصريح نشرته صحف 6 مارس أحد أعضاء المجلس الأعلى. وهذا القول منه إن صح يكون أفدح من علم المجلس وموافقته لأنه إذا كانت احتلت إرادة الدولة المصرية بمشيئة أجنبية أنفذت رغبتها بغير علم رئاسة جمهورية مصر، فإنه من المحتمل أن تحتل أراضى مصرية قوى أجنبية بغير حصول هذا العلم. وإذا كان ذلك كذلك ولم يعلم، فلا شك أنه عند صدور هذا التصريح يكون قد «علم»، ويبقى السؤال: ماذا صنعتم بهذا العلم وكيف واجهتموه؟
وهو أمر يتعلق بالتهاون فى أهم وظيفة من وظائف الدولة وهو حمايتها مما يمس الأمن القومى. لأنه خرق للإرادة الوطنية للدولة واحتلال لقراراتها، ولأن النشاط المقدم به المتهمون من سلطات التحقيق القضائى ومن وقائع الحال هو نشاط يستهدف إسقاط الدولة المصرية، وهى مصيبة المصائب بالنسبة للأمن القومى لأى بلد ولأى شعب.
وقد يرد بعض العارفين السابقين بالقوات المسلحة، يرد هذا الصنيع بأن الولايات المتحدة هى من يمدنا بالسلاح فلا نملك التمادى فى إغضابها، لأننا نستورد منها السلاح وقطع غياره، وتتحمل هى نفقته بالمنحة المؤداة منها بحسبانها صدقة جارية، ولأننا لا نستطيع أن نغير مصدر السلاح لاعتبار القوات المسلحة عليه تخطيطا وتدريبا واستخداما وثقافة قتالية، ولذلك فنحن لو استغنينا عن المنحة المالية المؤداة، وحتى ولو اتصلنا بمصدر آخر لتوريد السلاح فلن نستطيع تغيير النظم العسكرية عندنا إلا عبر سنوات. وهم يضربون لذلك مثلا بأن مصر عندما عدلت عن السلاح البريطانى والأمريكى إلى السلاح الروسى سنة 1955 فى عهد عبدالناصر، لم يستطع الجيش أن يعتاد السلاح الجديد ويملك استخدامه حتى هزمنا فى سنة 1967 أمام إسرائيل.
ولم نستطع أن نملكه بعد ذلك إلا فى حرب 1973. وهذا الحديث الذى يقال، يعنى أننا لا نستطيع تغيير السلاح الأمريكى فى أحسن الظروف المواتية لتغييره إلا بعد ثمانى عشرة سنة من هذا التغيير، فهو يحكم علينا بالتبعية للإرادة الأمريكية وتفادى غضبها مدة لا تقل فى أحسن الظروف السياسية والاقتصادية المواتية عن ثمانى عشرة سنة. كما يعنى أن مدة 12 سنة كانت غير كافية لتغيير السلاح من 1955 إلى 1967 ولكنها صارت كافية بعد ست سنوات من هزيمة «1967 حتى سنة 1973» ثم إن من يمدنا بهذا السلاح هو الحليف الاستراتيجى لإسرائيل، والتهديد الآتى على مصر من الناحية العسكرية هو من إسرائيل على سبيل التحديد والتعيين، والسلاح الأمريكى المعطى لمصر هو ضمانة لإسرائيل أكثر من مشاركة فى الدفاع عن مصر، لأن إسرائيل تعرفه ولأن نوعيته لابد أن تكون نوعية مرجوحة فى الموازين العسكرية بين مصر وإسرائيل وأمريكا تعطى مصر هذا السلاح كما لو كانت إسرائيل هى المعطية له، فكيف يكون هذا السلاح عينه هو ما نستطيع أن نستغنى عنه، ومن المستفيد من ذلك؟
ثم إذا كانت الحاجة للسلاح الآتى من الولايات المتحدة تستدعى الخضوع للإرادة الأمريكية، والإرادة الأمريكية تمول مصر فيما تموله بجميعات وعناصر تشيع الفوضى والعشوائية فيها وتعمل على إسقاط دولتها أو شل فاعليتها، فكيف نفهم هذه المعضلة، من يزعم أنه يحميك بما يمدك به من سلاح ثم يعمل فى الظاهر المرئى الجهد على أن يقوض بنيان مؤسساتك، وكيف نفهم أن نتلقى منه السلاح الذى يدافع عن تحرير إرادتنا الوطنية، وأن هذا التلقى يقتضى منا الخضوع لإرادة من يعتدى على إرادتنا الوطنية، وكيف نفهم أن من يمدك بسلاح تمسك به وتوجهه فى الدفاع عنك، يشترط عليك ليبقى ممدا لك السلاح أن تشل يدك الممسكة بالسلاح أو تفقد بصرك الموجه للسلاح، كيف تكسب السلاح وتخسر المحارب به؟
إن ممارسات جرت فى الشوارع لتفكيك الدولة المصرية، وظهر من التحقيقات أن ثمة نشاطا ممولا من الخارج ومن الولايات المتحدة وراء هذا الأمر، وكشفت التحقيقات عن أن ثمة خرائط لتقسيم مصر إلى دويلات وجرت لدى الجمعيات الأمريكية غير الشرعية الموجودة بمصر والمقدم رجالها إلى المحاكمة. فكيف يقابل ذلك بالخضوع أو بالطواعية والرضاء أو بغض البصر أو حتى بنفى العلم بالأمر أو نفى المساعدة فيه.
هذا موقف يتصف بعدم الحرص وعدم الحذر فى شأن السيادة المصرية وحفظ أمنها القومى. وأن من يهون عليه ذلك يهون عليه طبعا التفريط فى استقلال القضاء المصرى.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.