فى مسألة البحث عن قائد - وائل جمال - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:50 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى مسألة البحث عن قائد

نشر فى : الإثنين 12 مارس 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الإثنين 12 مارس 2012 - 8:00 ص

وداد الدمرداش، عاملة فى شركة مصر للغزل والنسيج بغزل المحلة. إمرأة محجبة عمرها 44 سنة وأم لأربعة. هل يتماشى هذا «البروفايل» مع الصورة الذهنية المسيطرة لدينا فى مصر للقيادة؟ هل يمكن أن يكون تكون وداد الدمرداش مرشحة مقبولة وطبيعية لرئاسة الجمهورية؟

 

فى الأغلب ستكون الإجابة بلا. لكن دعونا أولا نعرف أكثر عنها ومما كتبته صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية فى تقرير لها فى 30 ديسمبر 2011 بعنوان «عمل شجاع أطلق ثورة». لعبت وداد دورا فى عملية اطلاق الإضراب الشهير فى المصنع فى 6 أبريل 2008 (الذى نتج عنه عصيان مدنى وأول تمزيق وتحطيم لصور مبارك فى بروفة مصغرة لما حدث فى ثورة يناير)  بتوزيع البيانات ومناقشة الأمر مع زميلاتها من العاملات اللاتى بدأن التحرك قبل الجميع محرضين باقى عمال المصنع بالهتاف: «الرجالة فين الستات أهم». وتفسر قائدتنا للجريدة ماحدث بأن لديها نزوع شخصى للمواجهة لكنها تضيف أن السبب الرئيسى فى تحركها كان ارتفاع أسعار الدواجن، وأنها صارت ترفا يحصل عليه بيتها مرة فى الشهر، خاصة مع تدنى الأجور التى يحصل عليها العمال فى المصنع. تقول وداد، فيما تنقله عنها الواشنطن بوست، إن الجذور الحقيقية للثورة المصرية عند العمال وليس فى الفيسبوك أو الأحزاب الإسلامية، التى لا تؤيدها. تمتلك وداد ما تتطلبه القيادة. الإلهام، والقدرة على المبادرة والتنظيم، الجرأة والعمل وسط الناس والتأثير فيهم والنضال معهم على الأرض لحد تحقيق أهدافهم. فلماذا ليست هى أو المئات بل الآلاف ممن قادوا بلادنا، شوارعها وميادينها، وأمنوا بيوتها وأحيانا مدنا كاملة كالسويس، بعد أن غاب السياسيون ورجال أمنهم، فى أروع وأصعب ١٨ يوما، نمطا مقبولا وسائدا لقيادات يقال إنها غائبة؟

 

 قيادات نحاول صنعها بلا فائدة

 

«من بنى طيبة ذات البوابات السبع؟

 

فى الكتب ستجد أسماء الملوك.

 

فهل حمل الملوك كتل الاحجار؟

 

وبابل، التى دمّرت مرات عديدة

 

من شيدها كل هذه المرات؟ فى أى من منازل

 

ليماالمتلألئة بالذهب كان يعيش البناؤون؟

 

أين ذهب البناة ليلة اكتمال

 

سور الصين؟ روما العظيمة

 

مليئة بأقواس النصر. فمن أقامها؟ على من

انتصر القياصرة؟

 

ألم يكن فى بيزنطة، التى لهجت بثنائها الأغنيات

سوى القصور لسكانها؟

 

 حتى فى أطلنطيس الأسطورية

 

ليلة أن ابتلعها المحيط

 

كان الغارقون ما زالوا ينادون عبيدهم.

 

الاسكندر الشاب غزا الهند.

 

هل كان وحده؟

 

كل صفحة انتصار.

 

فمن طبخ وليمة المنتصرين؟

 

كل عشر سنوات رجل عظيم

 

من دفع مرتّبه؟»

 

 

هذه الأبيات من قصيدة للشاعر الألمانى الثورى العظيم برتولد بريخت اسمها «أسئلة عامل يقرأ». والمغزى واضح: عادة ما يفضل التاريخ، أو تحديدا من يكتبونه ويحاولون توجيهه، تجاهل الاسهامات الهائلة التى يقدمها الناس «العاديون» مهما كانت استثنائية بل وأسطورية. وهكذا تتحول الثورة الروسية ١٩١٧ التى مات لأجلها ملايين لثورة لينين، وتختصر تجربة شعب جنوب أفريقيا لاسقاط الفصل العنصرى فى نضال نيلسون مانديلا، ونضالات العصيان السلمى الهندى فى شخص غاندى، وتصبح ثورة ملايين المصريين فى ١٩١٩ ثورة سعد زغلول.

 

وفى الثورة المصرية، غاب هذا القائد النمطى. بحث عنه أعداؤها أولا ليضربوها منه: لو كان من الاخوان المسلمين فهى مؤامرة حمسوية مغرضة، ولو كان من ٦ أبريل فهم «مدربون فى صربيا»...الخ. ضربوا واعتقلوا بعضا ممن تخيلوا أنهم القيادات واستمر الآلاف الآخرون. لكن التصور النمطى ظل سائدا حتى بعد انتصار الثورة فأصبحت تجد من يقول: كل ثورة لها قائد فأين القائد الملهم؟ وتم ربط أى تعثر بغياب القائد الذى يوجه ويُسيِّر.

 

وفى الحقيقة أن هؤلاء القادة الثوريين العظام لم يصنعوا ثورات بلادهم بقدر ما صنعتهم هى وبقدر ما صنعهم المؤرخون. كانوا قادة عظام لأنهم مثلوا وشاركوا وألهموا حركة شعبية منتصرة كان لها آلاف القادة الآخرين. صحيح أن بعضهم لعب دورا فى توجيه الدفة فى هذا الاتجاه أو ذاك وفى لحظات محورية لكن ذلك لم يكن ليصبح ذا جدوى دون أن يتبنى القادة على الأرض هذا التوجه لأنهم رأوه فى مصلحة من يمثلون، بل وربما دفعوا هم فى تبنيه من الأصل.

 

وفى مصر تسيطر رؤية نمطية للقيادة، لا تستوحى فقط طريقة كتابة التاريخ تلك، التى تحتقر الجماهير وتمجد الرجال العظام. ولا يخفى من أين ينبع هذا المنهج على أرض المصالح الاجتماعية: الابقاء غالبا على الوضع القائم بتصوير هذه الأحداث على أنها ملاحم استثنائية تتطلب قادة استثنائيين لا يجود بهم التاريخ كثيرا، وليس عمل ناس عاديين قادرين دوما على صنعه إذا أرادوا. الرؤية المسيطرة فى مصر هى رؤية الطبقة الوسطى (التى شاركت شرائح منها فى الثورة لكنها لا تمثل أغلبية بلادنا بأى حال من الأحوال) وبامتياز. نحن نبحث فى الأغلب عن ستينى أنيق يصلح مديرا فى شركة عابرة للقوميات أو دبلوماسيا. يرتدى بدلة وربطة عنق وربما يكون حاصلا على دكتوراه أو على جائزة عالمية ليثبت نجاحه وتفوقه كممثل للطبقة الوسطى التى شقت طريقها للنجاح المحلى والعالمى. وربما يكون مطلوبا أن يكون أيضا متخصصا فى أحد المجالات المهنية: محام أو طبيب شهير.باختصار طبقتنا الوسطى تبحث عن نفسها فى قائد. وبعد ثورتنا، التى تثبت الكثير من زيف رؤية التاريخ الذى تصنعه القلة الاستثنائية العظيمة، فإن مهمة إيجاد قائد كاريزمى ملهم تاريخى بالخصائص السابقة هى شبه مستحيلة.

 

 فقط نوع آخر من القيادة والقادة

 

عندما تفتح موقع وزارة المالية المصرية تطالعك فى صدارة الصفحة صورة كبيرة للسيد الوزير ممتاز السعيد، سبقتها فى نفس المكان بالضبط صور د. سمير رضوان ود. حازم الببلاوى، ومن قبلهما صورة يوسف بطرس غالى. هذا النمط من التماهى بين المدير والقائد وتجسيد عمل الوزارة فى شخص الوزير لم يعد مقبولا ولا ذا قيمة. لكن تعالوا نقارن هذا النمط (مع الفارق فى طبيعة عملية الاختيار وطبيعة الوظيفة بالطبع) مع النقابة المستقلة لعمال النقل العام. اختار آلاف العمال الذين شاركوا فى ثورة يناير، بل ويكاد إضرابهم فى التاسع والعاشر من فبراير ٢٠١١ يكون الضربة الحاسمة فى اجبار مبارك على التنحى، رئيسا للنقابة فور تأسيسها هو على فتوح. شارك فتوح فى قيادة تحرك العمال وفى تأسيس نقابتهم وحاز ثقتهم كرئيس بناء على درجة فعاليته وتمثيله لمصالح المجموعة التى ينتمى إليها بشكل مباشر بالمصلحة والانتماء الاجتماعى (وليس كخبير ناصح أوعى منهم يأتى من خارجهم). قاد فتوح مع آخرين المفاوضات مع الحكومة والنقاش الداخلى حول عروضها. وفى لحظة ما قرر العمال أنهم يحتاجون قائدا آخر. فتنحى فتوح وانتخبوا عادل الشاذلى. وعاد فتوح قائدا ميدانيا. قادتنا الحقيقيون موجودون وكثيرون وينتمون لهذا النمط المغاير غير الاعتيادى بالنسبة لطبقتنا الحاكمة وطبقتنا الوسطى، وهكذا يجب أن نحكم على رئيسنا المقبل.

 

هذه هى سمة الثورة بالضبط: عمل جماعى وفكر جمعى ديمقراطى جسد نفسه فى آلاف اللجان الشعبية، وفى ميادين اختارت ديمقراطيا بآلية لا مثيل لها عناوين جمع التظاهر. عمل يجسد نفسه فى مئات الإضرابات والاعتصامات والمبادرات الوطنية يقودها أصحابها. هى ثورة لان قادتها أى واحد وكل واحد. هى ثورة بلا ملوك فلا تتعبوا أنفسكم فى البحث عنهم.

وائل جمال كاتب صحفي
التعليقات