القضايا التى تعرض لها النظام السياسى المصرى عديدة وصعبة ومعقدة. النظام السياسى بالمعنى الواسع له أكبر من الدولة. هو ليس السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وحدها التى أوكلها الشعب معا فى إدارة شئونه، بما فى ذلك ممارسة العنف المشروع تجاهه، ولكن فى إطار القواعد التى وضعها لها وقيدها بها، وإنما هو يشمل أيضا الأحزاب السياسية والمؤسسات التى تمارس وظائف تتصل بإدارة شئون الجماعة الوطنية.
القضايا المذكورة منها الاقتصادى، ومنها السياسى والاجتماعى والثقافى. عدد هذه القضايا يزداد كل يوم وكذلك صعوبتها وتعقدها، وهى صارت متداخلة. بعضٌ من مكونات الدولة منشغلٌ، ولا شك فى ذلك، بهذه القضايا، أو ببعض منها، ولكن لا حلول تبدو فى الأفق. أفق مسدود يعنى نظاما سياسيا متعثرا على أفضل تقدير، فإن امتد تعثر أى نظام سياسى فإنه لا يمكن أن يستمر على قيد الحياة.
•••
أولى القضايا التى تواجه النظام السياسى المصرى حاليا هى القضية الاقتصادية، مختزلة فى الاتفاق المنعقد مع صندوق الدولى وفى تنفيذه. الاتفاق مع الصندوق، المفترض تنفيذه خلال ثلاث سنوات، وتجلياته فى تخفيض الإنفاق العام، وتدهور قيمة الجنيه المصرى، والارتفاع الحاد فى الأسعار وتكاليف المعيشة، وازدياد معدلات الفقر قضيةٌ هى بمثابة المأساة الإغريقية حيث لكل من الدولة والشعب منطقه المتماسك وحججه القوية. مع الزيادة المستمرة فى تكاليف دعم السلع الغذائية والوقود، والارتفاع المطرد فى تكاليف خدمة الدين العام، بالإضافة إلى الإنفاق شبه الثابت المتمثل فى أجور العاملين بالدولة، فما تبقى فى الميزانية العامة أصبح شحيحا يتعدى العشرين بالمائة من النفقات العامة بقليل، وهى نسبة لا تمكن الدولة من الاضطلاع بكل وظائفها الأخرى. الدولة اعتبرت أن الاستمرار فى تحمل العجز المتزايد فى ميزانية الدولة والإبقاء على نفس بنية الإنفاق العام وبذات النمط والايقاع أصبحا مستحيلين. تسرب الإيرادات المتناقصة من العملات الأجنبية، المرموز لها بالدولار، لتسديد فواتير الواردات غير الضرورية صار غير مقبول بدوره خاصة أن التعويل على استعادة النمو الاقتصادى بمعدلات مرتفعة وعلى تعافى السياحة ليس ثمة ما يطمئن إلى سلامته فى المستقبل القريب.
فى المقابل، فإن متوسط معدل الفقر تعدى ربع المواطنين، والمعدل ثابت فى اتجاهه إلى الارتفاع. فالفقر يسارع سقوط المواطنين تباعا نتيجة لتدهور قيمة الجنيه وارتفاع الدولار، فإن نجح انخفاض الجنيه أو ارتفاع الدولار، فليختر كلٌ المنظور الذى يشاء، فى تخفيض جانب من الواردات غير الضرورية، فإنه لم يكن متصورا ولا مقبولا أن ينجح فى تخفيض الواردات من السلع الغذائية، مثل القمح خصوصا، ومدخلات الإنتاج، ومنه الدواء وكل الأنشطة التى تشغل ملايين العمال. النتيجة بالنسبة للمواطنين ارتفاع فى تكاليف المعيشة وانخفاض فى الاستهلاك. تضافر انخفاض كل من الإنفاق العام وقيمة الجنيه ــ أو ارتفاع قيمة الدولارــ فانكمشت تلبية الاحتياجات المعيشية للمواطنين. منطق المواطنين، وهو منطقٌ وجيهٌ تماما لا يمكن أن يعترض عليه أحدٌ، هو أن توفير احتياجاتهم هو أولى أولوياتهم وأنه بالنسبة إليهم الوظيفة الرئيسية للدولة. ولنسرع بالقول بأن المفترض هو أن السوق هى التى تلبى احتياجات المواطنين، ولكن هذا قد ينطبق عندما يستطيع المواطنون أن يعتركوا السوق، مشترين وبائعين فى عمليات أطرافها متكافئة، غير أن هذا يتطلب توزيعا عادلا ومتقاربا للثروة وللدخول وهو غير المتحقق مطلقا فى مصر. منطقٌ فى مواجهة آخر، البنية الداخلية لكل منهما سليمة لا غبار عليها. أليس من توفيقٍ بينهما إذن؟
التوفيق ممكن بين هذين المنطقين المتصادمين إذا ما وضعا معا فى السياق العام للإيرادات التى تحققت للبلاد فى السنوات الأخيرة والنفقات العامة التى بذلتها وما زالت تبذلها. التقديرات تذهب إلى أن ما يربو على العشرين مليار دولار قد دخلت البلاد منذ سنة 2013 على سبيل المساعدات من بلدان الخليج أساسا. ألم يكن ممكنا استخدام هذه المليارات أو جزء منها فى تمديد فترة تطبيق نفس البرنامج المتفق عليه مع الصندوق؟ المليارات الهائلة منفقة على حفر فرع جزئى لقناة السويس لا ضرورة له، وعلى تشييد عاصمة جديدة لا حاجة إليها، وعلى مشروعات غير معروفة الجدوى كان يمكن استخدامها هى الأخرى فى تطبيق البرنامج على فترة أطول دون إخضاع المواطنين لعلاج بصدمة لا يستطيعون تحملها ولا طاقة بالبلاد على امتصاص آثارها.
•••
إن أسباب إثارة موضوع برنامج «الإصلاح الاقتصادى» من جديد متعددة. تظاهر مواطنين من أجل الخبز فى الأسبوع الماضى والإعلان عن أن التضخم قد فاق الثلاثين بالمائة من بين هذه الأسباب. ومن بينها أيضا الإعلان عن تأجيل فحص صندوق النقد الدولى للتقدم المحرز فى تطبيق برنامج «الإصلاح» من شهر مارس الحالى ولفترة ثلاثة شهور. السؤال يثور عن تسديد الدفعة الثانية من القرض، وهل يتأخر هو كذلك؟. ولكن تساؤلا آخر ينطرح أيضا بشأن تطبيق البرنامج وتسديد الدفعة الثانية من القرض. فى الأسبوع الماضى، أعلنت الصحافة فى خبر موجز الصياغة أن الدولة عدلت سعر الدولار الجمركى إلى ما دون الستة عشر جنيها بقليل. الهدف من تحديد سعر للدولار تحسب الجمارك على أساسه، وتعديل هذا السعر، هو التحكم فى الأسعار النهائية للسلع الاستهلاكية المستوردة ولتلك المصنعة فى مصر التى تدخل فى إنتاجها مدخلاتٌ مستوردة.
جلى أن التحكم فى الأسعار النهائية غرضه هو التخفيف على المواطنين، وهذا مسعى محمود. ولكن ماذا سيكون رد فعل صندوق النقد الدولى الذى يٌعتبرٌ توحيدٌ سعر الصرف من دعائم منهجه الاقتصادى؟ هل كان تحديد سعر الدولار الجمركى بالاتفاق مع الصندوق أم أنه عندما يراجع هذا الأخير التقدم المحرز فى تطبيق البرنامج، سيعتبر أن شروطه لم تحترم وبالتالى يثير مشكلات فى تسديد الدفعة الثانية من القرض؟ من المؤكد أن لا أحد يريد ذلك، ولكن التساؤل يفرض نفسه لأنه إن حدث وتباطأ الصندوق فى تسديد الدفعة الثانية، فلن يكون قد نال المواطنين غير العنف المالى الذى مورس بحقهم.
سيسرع البعض عندها بمهاجمة صندوق النقد الدولى على الشروط المجحفة التى يفرضها على الدول المقترضة منه. منهج الصندوق فى إدارة الاقتصاد العالمى والاقتصادات الوطنية المكونة له يستحق التفنيد والتنديد لأنه يركز الثروة والدخل، ومن ثم القوة السياسية، فى أيدى القلة ويوسع من التفاوت بين الناس فى كل البلدان، النامى منها والمتقدم، وفى العالم عموما، ولكن هذه مسألة أخرى. لقد كان بوسعنا أن نخفف من آثار الانعتاق من الحلقة المفرغة للاستدانة والعجز فى المالية العامة باستخدام رشيد لموارد خارجية أتيحت لنا وبترتيب عاقل للأولويات. العيب المباشر فى حالتنا ليس فى الصندوق وإنما فى القرارات المتخذة عندنا وفى من يتخذونها.
•••
لا يقولن أحدٌ انتظروا ثمار القناة والعاصمة وغيرهما من المشروعات أو الاستثمارات التى ستدب فى عروق الاقتصاد الوطنى أوكسجينا ينعشه. عندما يرفع الستار عن ثمار النشاط الاقتصادى الذى يعتمل حاليا وراءه ستجدون عجبا عجابا! النشاط الاقتصادى ليس «بروفة» تجرى على خشبة مسرح وراء ستار بل هو حياة تفرز نتائجها تباعا فتتحسن شروط هذه الحياة تدريجيا حتى تزدهر، إن ازدهرت. ألمانيا أو السويد أو كوريا أو ماليزيا لم تنتقل دفعة واحدة من فقر وفاقة إلى ثراء ورفاهية، بل هى ارتقت تدريجيا على سلم الرخاء. بلاد الريع النفطى التى هبطت عليها الثروة دفعة واحدة ليست أمثلة يقاس عليها.
وحذارِ، ألف حذارِ، من تعليق الأمل على هذا الحقل أو ذاك من حقول الغاز الطبيعى لحل مشكلات الاقتصاد. فى البلاد ذات أحجام السكان المعتبرة الثروات الطبيعية من نفط وغاز وغيرهما لا تحل المشكلات، بل ربما زادتها تفاقما. لنا عبرة فى نيجيريا وفنزويلا والمكسيك بل وفى المملكة العربية السعودية نفسها.
المشكلة الكبرى فى اقتصاد مصر هى فى نظامها السياسى، وذلك منذ عشرات السنين. الآفة فى قرارات تتخذ وفى غيرها لا تتخذ. الموارد الاقتصادية معطيات لا فكاك منها. لا يوجد بلد فقير بل يوجد بلد ذو اقتصاد متخلف لا يضيف قيمة لما ينتجه. أما إن كان الفقر فقر موارد فهذا مما لا معنى له. اليابان وسويسرا وهما من «أغنى» بلدان العالم لا توجد فيهما أى موارد طبيعية. أما الكونجو الديمقراطية فهى من «أغنى» بلاد العالم من حيث الموارد الطبيعية! التخلف يعالج بسياسات تنبنى على قرارات سليمة تستخدم الموارد، ومنها الموارد البشرية المتعلمة والمؤهلة والمدربة، أفضل استخدام أو لا تستخدمها.
القرارات السليمة يشترك فى اتخاذها وفى مراقبة تنفيذها كل أطراف النظام السياسى. قصر اتخاذ القرار الاقتصادى على جزء من مؤسسات الدولة وبدون أى رقابة عليه فيهما إهدار لإمكانيات موجودة فى مصر، وهما تلاعب بحياة المواطنين.