لا يستطيع المصريون الاكتفاء بمصمصة الشفاه وهم يتابعون مشاهد الدراما اليونانية التى شغلت العالم فى الأيام الماضية، فها هى تضرب عندنا. وكالعادة بدأت آثار المرحلة الجديدة من الأزمة العالمية، التى اندلعت من الولايات المتحدة فى 2008، المرحلة الأوروبية بالبورصة المصرية، التى خسرت يوم الأحد ما يزيد على 5% من قيمة مؤشرها الرئيسى. لكن ما هو قادم أعظم وأخطر.
ويتلخص حجم الخطر الذى يمثله شبح إفلاس دولة اليونان على الاتحاد الأوروبى برمته، وعلى العالم بأسره، فى الاستجابة الهائلة التى أقرتها القارة مع صندوق النقد العالمى والبنوك المركزية بحزمة الإنقاذ التى اقرت مساء أمس الأول بحجم تسهيلات وصل إلى ما قيمته 930 مليار دولار، بدلا من 145 مليارا كانت فى الخطة الأولية.
جاء اهتزاز الأسواق العالمية بشدة نهاية الاسبوع الماضى، لتسجل وول ستريت أعلى انخفاض فى تاريخها خلال جلسة واحدة يوم الخميس، ليؤكد أن الأزمة العالمية لم تنته وإنما دخلت مرحلة جديدة.
وتتمثل خطورة هذه المرحلة فى أن مشكلات اليونان مع ديونها (قد تتفاقم إلى 140% من ناتجها المحلى الإجمالى) قابلة للامتداد إلى 3 دول أخرى فى المدى القريب هى إسبانيا وأيرلندا والبرتغال، وهو إذا ما حدث سيعنى انهيارا لاقتصاد اليورو، الذى يشكل ربع الاقتصاد العالمى.
«معظم الدول فى العالم ستحس صدمة التراجيديا اليونانية. وستتضمن القنوات التى ستنتقل عبرها الأزمة التدفقات الرأسمالية (الاستثمار الأجنبى المباشر)، وأداء السوق نفسها. ومن المؤكد أن الأزمة اليونانية ستقلل الطلب العالمى ومن ثم التدفقات التجارية بشكل مباشر ومن منظور عالمى وهو الأهم. وتتراوح التبعات ما بين المؤكد والمتوازن والذى لا يمكن التنبؤ به». هكذا كتب محمد العريان، الاقتصادى المصرى البارز، والرئيس التنفيذى لبيمكو، أحد أكبر صناديق الاستثمار فى العالم فى جريدة الفاينانشيال تايمز يوم الجمعة الماضى متحدثا عن المخاطر «السيادية» أو باختصار إفلاس الدول.
ويطالب العريان الحكومات بألا تكتفى بمجرد الملاحظة والمشاهدة، وأن تحاول استيعاب ما يحدث فى الدين الحكومى العالمى وأن تسارع باتخاذ الإجراءات المتناسبة مع أعباء الدين الخاص بها.
فى أكتوبر الماضى، حضرت مؤتمرا عقده المركز المصرى للدراسات الاقتصادية فى العين السخنة. كان الاتفاق العام وقتها هو أن الأزمة العالمية انتهت. بل إن وزير التنمية الاقتصادية عثمان محمد عثمان ذهب فى كلمته التى تجاوزت الوقت المحدد بساعة إلى المقارنة بغرابة بين وضع اقتصاد مصر الصغير واستجابة الصين للأزمة العالمية، للتأكيد على محدودية التأثر بها. وهذا بالضبط هو نوع التفكير الذى لا نحتاجه الآن فى مصر.
لا نحتاج من يقول لنا إننا بعيدون عن الأزمة لأننا لسنا كذلك، ولأن الفقراء هم من سيدفعون الثمن فى النهاية.
فمعنى ما قاله العريان واضح. ما يحدث فى العالم عبر اليونان سيؤثر على الاستثمار الأجنبى المباشر فى مصر وسيقلل من شهية الأجانب لدخول البورصة لا محالة. كما أن الاتحاد الأوروبى هو شريكنا التجارى الأساسى. وما يحدث هناك يقلل من قيمة اليورو بشدة. ويعنى ذلك أن الخضراوات والمنسوجات المصرية ستصبح أغلى بالنسبة للمواطن الأوروبى، الذى سيتراجع دخله. ببساطة صادراتنا للاتحاد الأوروبى، التى تبلغ حاليا 22.8 مليار جنيه ستتراجع وبشدة. أيضا فإن السياح الأوروبيين سيصبحون اقل قدرة على قضاء إجازاتهم فى الخارج وبالتالى فى مصر، مما سيؤثر على السياحة. كما انه اذا تراجعت حركة التجارة العالمية، كما هو متوقع، فستتراجع ايرادات قناة السويس أيضا.
هذا التراجع فى إيرادات الدولة الخارجية والتدفقات الرأسمالى يجىء على خلفية تراجع إيرادات الدولة فى مصر بـ20% خلال الـ9 أشهر الأولى من العام المالى الحالى، بحسب أرقام آخر تقارير وزارة المالية. يعنى ذلك بوضوح أن الضغط على عجز الموازنة وعلى الدين العام فى بلادنا سيكون عظيما.
وفى بلادنا، لا أجد سوى البنك المركزى الذى بدأ على الاقل فى متابعة تطورات أزمة ديون اليونان بشكل لحظى على 3 محاور هى سوق الصرف وسعر الجنيه وأثر ذلك على الاحتياطى، وخروج المستثمرين الأجانب الذى بدأ يوم الأحد، والاثر على الاقتصاد الكلى. بينما الحكومة صامتة تماما. بل نسمع تصريحات وزارية تتحدث عن استهداف معدلات نمو ما قبل الأزمة عند أو فوق الـ7%!
يقول محمد العريان فى مقال آخر نشره فى مارس الماضى، أيضا فى الفاينانشال تايمز إنه «كل حين وآخر، يواجه العالم بتطور اقتصادى ضخم، يساء فهمه فى البداية، ويتم التقليل من شأنه على أنه ذو دلالة محدودة، ثم تجد الحكومات والشركات ومن بعدها العمال تحت هجوم يأخذهم على غير استعداد».
فى اليونان.. فإن تطبيق حزمة تقشف هائلة فى الأجور والإنفاق العام كان أول ما فكرت فيه الحكومة تحت ضغط الأحداث. وستعنى هذه الخطة تقليص عبء على الموازنة يصل إلى 11% من الناتج المحلى، ضاربا الفقراء والعمال بل حتى الموظفين من الطبقة الوسطى فى مقتل. ولأن فى اليونان نقابات وحركات اجتماعية شهدنا الاحتجاجات الجماهيرية، التى أخذت منحى عنيفا. وفى مصر إجراء كهذا، بنفس النسبة من الناتج المحلى المصرى، سيعنى تقليص ما يوازى ضعف دعم المنتجات البترولية من ميزانية الدولة فى خطوة واحدة وفى لحظة كساد. ولتتخيلوا معى تبعات إجراء كهذا، لو حدث فى مصر، على حياتنا جميعا.