ضاق كثير من المصريين ذرعا بحكومة الدكتور عصام شرف، وتعددت أسباب هذا الضيق، منه بطبيعة الحال قلة تواصل رئيس الحكومة بالرأى العام، ولكن السبب الأهم هو محدودية أدائها، والواقع أن محدودية الأداء هذه تعود إلى عوامل قد تستمر فى المستقبل إذا لم تتنبه لها القوى السياسية، وتضع فى الاعتبار ضرورة تلافيها. وتتمثل هذه العوامل فى معايير اختيار الوزراء، وخصوصا الميل إلى اختيارهم من داخل البيروقراطية الحكومية، دونما النظر إلى أى اعتبار آخر.
وسوف أضرب المثل بوزيرين أثار اختيارهما عدم ترحيب من جانب الرأى العام:
أولهما اللواء منصور العيسوى، وزير الداخلية، وثانيهما السيد محمد العرابى وزير الخارجية، فالأول لم يبد أى حماس للتخلص من ضباط الشرطة المسئولين عن قتل مواطنين أبرياء أثناء الثورة، ودافع عن انتهاكات الشرطة لحق المواطنين فى التجمع السلمى، كما أنه لم يبد نجاحا كبيرا فى إعادة الشرطة لتقوم بواجبها فى تأمين المواطنين.
أما الثانى وهو مازال حديث العهد فى منصبه، إلا أن تساؤل الرأى العام كان حول المعايير التى أدت إلى اختياره، فلا يبدو أنه تميز عن غيره من السفراء فى أى شىء، سوى قربه من زوجة رئيس الجمهورية المخلوع فى بعض الأوقات، وهو سبب يدعو إلى استبعاده من هذا المنصب، وليس جعله مسئولا عن تنفيذ، بل وفى هذه الظروف، المشاركة فى رسم السياسة الخارجية المصرية.
ولكن لماذا ضاق نطاق الاختيار إلى هذا الحد فى هذين المنصبين الخطيرين وفى هذا الظرف التاريخى. السبب فى ضيق الاختيار هو الاعتقاد الجازم لدى من أداروا شئون مصر منذ عقود، وخصوصا منذ عهد الرئيس أنور السادات أن أفضل من يدير أى وزارة هو بالضرورة واحد من العاملين فيها، حصرا لأهل الخبرة فى كبار الموظفين البيروقراطيين.
اختيار وزراء ليست لديهم رؤية
ولا شك أن السمة الغالبة التى تجمع بين الأغلبية الساحقة من وزراء حكومة شرف، ومن حكومات كثيرة أخرى سابقة هو أنهم وزراء لو شئت الإنصاف لقلت إن الرؤية الوحيدة التى يملكونها هى استمرار العمل بالتقاليد السابقة وعدم إجراء أى تغيير فيها، وتلك هى العقلية البيروقراطية بامتياز، فوظيفة البيروقراطى هى أن ينفذ الأوامر، وحتى عندما ينتقل من وضعه البيروقراطى ويصبح مسئولا عن صنع السياسة، فإنه يجد الأمان فى اتباع نفس السياسات السابقة التى كان مسئولا عن تنفيذها، ولا يغامر ليس باقتراح سياسات جديدة، ولكن حتى بالتفكير فى مثل هذه السياسات، لأن التجديد بالنسبة له بدعة، وكما يقال فكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار.
المعيار الأهم فى اختيار الوزراء هو أن تكون لهم رؤية واضحة فيما يجب أن تقوم به وزاراتهم بما يتفق مع السياسة العامة للحكومة، وذلك أيا كانت خلفياتهم الوظيفية، لا أن تكون هذه الخلفيات الوظيفية هى المحدد الأساسى لتوليهم هذه المناصب، وهنا يستوى أصحاب كل تلك الخلفيات سواء كانوا من الخبراء وأساتذة الجامعات، أو كانوا من كبار الموظفين أو كانوا من أجهزة مهمة فى الدولة، أو حتى لو كانوا جميعا من أهل الحظوة لسبب أو لآخر. ما تفتقده حكومة شرف هو ليس فقط غياب الرؤية العامة حتى على مستوى رئيس الوزراء، ولكن تناقض الرؤية البيروقراطية مع أوضاع مصر الثورة، وهو واضح كل الوضوح فى وزارات الداخلية والخارجية والإدارة المحلية والتعليم العالى ووزارات أخرى عديدة.
العدول عن المعايير البيروقراطية فى الوزارات السيادية
والواقع أننا يجب أن نستعد من الآن للعدول عن هذه المعايير، ونحن نقبل على مرحلة سوف تتشكل فيها الحكومة من شخصيات حزبية بعد الانتخابات التشريعية القادمة أيا كان موعدها وترتيبها بالنسبة لوضع دستور جديد. وحبذا لو بدأنا به من الآن. وخصوصا وأن مظاهرات جمعة الغضب كانت دليلا على أن أوضاع الحكومة الحالية لا تلقى تأييد كل القوى السياسية التى شاركت فى ثورة يناير. فليس من المحتمل أن يكون هناك تغيير جذرى لا فى أوضاع وزارة الداخلية ولا الخارجية طالما استمرت قياداتها الحالية، أو طالما استمر الأخذ بنفس المعايير البيروقراطية فى اختيار من يخلفها.
لماذا لا يتولى وزارة الداخلية سياسى مدنى لم يسبق له العمل ضابط!؟ ألم يكن هذا هو الوضع السائد فى مصر قبل الثورة، ولا ينكر أحد أن وزارات الداخلية فى العهد الملكى لم تكن تلجأ إلى استخدام البلطجية على النحو الذى تميزت به وزارة الداخلية.
ولكن هذا السياسى المدنى الذى سيتولى وزارة الداخلية سوف يكون من المشهود له اهتمامه بقضايا الأمن العام. قد يكون أستاذا جامعيا ممن يدرسون علم الإجرام، وقد يكون خبيرا مدنيا فى شئون الأمن، بل قد يكون معتقلا سابقا يريد على أساس التجربة أن يجنب المواطنين مأساة انتهاك الشرطة لحقوقهم الأساسية، وقد يكون من دعاة حقوق الإنسان. تولى شخصية مدنية وزارة الداخلية ليس أمرا فريدا لا فى مصر ولا فى عدد من الدول العربية منها تونس ولبنان، وبكل تأكيد هذا هو الوضع فى كل الديمقراطيات.
ولماذا يقتصر اختيار المرشحين لمنصب وزير الخارجية على السفراء السابقين. الوزير الوحيد الذى تميز بإنجازه فى وزارة الخارجية فى العقود الأخيرة هو الدكتور بطرس غالى والذى جاء إلى الخارجية من جامعة القاهرة وكانت له رؤية محددة بالنسبة لعلاقات مصر بدول أفريقيا ودول أمريكا اللاتينية، وهما قارتان مهمتان لم يشأ كل وزراء الخارجية الذين تقلدوا هذا المنصب من بعده أن يعيروها أى اهتمام. والأمثلة واضحة فى معظم دول العالم ذات النظم الديمقراطية على وجه الخصوص، أن وزراء الخارجية الناجحين لا يأتون بالضرورة من بين السفراء السابقين، وأزعم أن فى مصر من يحيط بالسياسة الخارجية من بين الخبراء والصحفيين بأفضل من كثيرين من بين سفرائنا المخضرمين.
بل إن منصب وزير الدفاع تتولاه شخصيات مدنية فى معظم دول العالم ذات النظم الديمقراطية، لقد تولت وزارة الدفاع فى فرنسا فى عهد كل من شيراك وساركوزى وإسبانيا فى حكومة ثاباتيرو الاشتراكية امرأة، شهد لها الرأى العام فى البلدين بالكفاءة إلى حد أن ساركوزى شاء أن يستفيد من خبرات ميشيل إليو مارى وزيرة الدفاع السابقة بتعيينها فى وزارة الداخلية التى تهمه لكسب تأييد الرأى العام لسياساته. بطبيعة الحال منصب وزير الدفاع فى هذه الدول الذى يتولاه مدنى يختلف عن منصب قائد الأركان والقائد العام للقوات المسلحة الذى لا يشغله سوى عسكريين ضمانا للحياد السياسى للقوات المسلحة.
اختيار الوزير من بين كبار موظفى وزارته يجعله أسيرا لمصالح فئوية، وحريصا على إبقاء الأمور على ما هى عليه، هذا لا يليق بمصر الثورة ولا بمصر فى أى حال من الأحوال.