على الرغم من نأى الرئيس الأسبق أبراهام لينكولن عنه إبان الحرب الأهلية الأمريكية عام 1864، معتبرا إياه مؤشرا لهزيمة الديمقراطية الأمريكية، ثم تجنب الرئيس فرانكلين روزفلت له أثناء الحرب العالمية الثانية عام 1942، مخافة أن يهوى بالأمريكيين فى غيابات الفاشية ليلحقوا بالنظم التى كانوا يناهضونها آنذاك، لم يتورع الرئيس ترامب عن التلويح بخيار تأجيل الانتخابات المزمع إجراؤها فى الثالث من نوفمبر المقبل، ليزلزل الأوساط الأمريكية بجدل سياسى ودستورى حامى الوطيس، أماط بدوره اللثام عن بعض الملامح الانتخابية العالم ثالثية التى طفقت تلقى بظلالها الكئيبة على التجربة الديمقراطية الأمريكية، المصنفة عالميا كإحدى أعرق الديمقراطيات وأكثرها رسوخا واستقرارا.
فبادئ ذى بدء، واجهت مدنية السياسة الأمريكية، التى نظر لها صمويل هنتنغتون فى كتابه «العسكرى والدولة» عام 1957، بإرسائه الركائز الفكرية لما يعرف بعلم «العلاقات المدنية العسكرية»، المعنى بدراسة العلاقة بين المجتمع المدنى ككل والمؤسسة العسكرية، كما أصَل لها فى ستينيات القرن الماضى كل من غبريال ألموند وسيدنى فريبا بمصطلح «الثقافة المدنية»، فى كتابهما الذى حمل ذات العنوان، واستبعدا خلاله إمكانية قيام نظام ديمقراطى مستقر ومزدهر من دون ترسيخ دعائم تلك الثقافة، منعطفا تاريخيا حينما أبى الرئيس ترامب إلا الاستعانة بالجيش لفض التظاهرات التى فجرها مقتل الشاب الأمريكى الأسود جورج فلويد اختناقا تحت ركبة شرطى أبيض بمينيابوليس فى 25 مايو الماضى. فبوصفه القائد العام للقوات المسلحة، ورئيس القانون والنظام على حد وصفه، جنح ترامب للاستعانة بالجيش لقمع الاحتجاجات، مرجعا مسعاه ذاك إلى اتساع رقعتها، واشتمالها على أعمال عنف وتخريب، فى الوقت الذى عجز حكام الولايات عن احتوائها، بينما تحتاج البلاد لرد فعل حكومى صارم داخليا يحفظ هيبتها أمام خصومها فى الخارج. وعلاوة على حقه فى استخدام «قانون التمرد» للعام 1807 الذى يخوله الاستعانة بالجيش للتصدى لأحداث الشغب، ارتكن الرئيس على إصدار الكونغرس عام 2006 قانونا يمنحه سلطة تعبئة قوات الحرس الوطنى، المحسوبة على المكونات الاحتياطية للجيش وسلاح الجو الأمريكيين كما تستخدم فى حالات الطوارئ العامة، داخل الولايات من دون موافقة حكامها.
كما المتوقع، قوبلت تحركات ترامب برفض عارم على المستويين الرسمى والشعبى، ما دفع مجلة «فورين بوليسى» لتسليط الضوء على مخاوف أمريكيين كثر من أن يكون نزوعه لعسكرة سياسة بلاده الخارجية بل والسياسة الدولية قاطبة، قد أغراه لإعادة تموضع الجيش بالمعادلة السياسية الأمريكية، توطئة لعسكرتها، محذرة من أن الجيش الأمريكى يستعد لخوض حرب على أرضه، معتبرة أن استمرار الاحتجاجات على عنف الشرطة وما يُعرف بالعنصرية الممنهجة فى شتى الولايات ينذر بردود أفعال أشد جنوحا للعسكرة من قبل إدارة ترامب. وفى 23 يوليو الفائت، هدّد رئيس بلدية نيويورك، بمقاضاة الرئيس إذا أرسل عناصر أمن فيدراليين إلى مدينته لإخماد تظاهرات مندّدة بالعنصرية. وعشيتها، حذرت الأمم المتحدة من استخدام القوة المفرطة ضدّ المتظاهرين والإعلاميين الأمريكيين، مشيرة إلى أن نشر رجال أمن غير معرَّفين، يفاقم انتهاكات حقوق الإنسان بالولايات المتحدة، فيما شدّدت المتحدثة باسم مفوضية حقوق الإنسان بالمنظمة الدولية على وجوب حماية حق التظاهر والتجمّع السلميين كما حق الإعلاميين فى التغطية دون التعرّض لأى انتهاكات من أى نوع.
مع نهاية الشهر الماضى، فجر ترامب قنبلة مدوية من العيار الثقيل حينما ألمح إلى إمكانية تأجيل الانتخابات المرتقبة، عازيا السبب إلى تفشى كورونا، فضلا عن مخاوفه مما أسماه بالتصويت «المزوّر»، الذى سيتأتى من التصويت العام الواسع النطاق عبر البريد ليفرز «نتائج احتيالية» تشكل بدورها كارثة تاريخية.
وبدم بارد، لم يتردد ترامب فى إقحام مصطلح «الانقلاب» بقاموس السياسة الأمريكية، حينما هدد بمقاضاة حاكم ولاية نيفادا الديمقراطى الذى وقع على قانون يسمح لناخبيها بالتصويت عبر البريد، فى خطوة وصفها بالانقلاب غير الشرعى للحيلولة دون فوز الجمهوريين بالولاية. الأمر الذى اعتبره خصومه الديمقراطيون محاولة منه لإذكاء الخوف، وإرهاب المصوتين، وتمهيد السبيل للتشكيك بنتائج الانتخابات ونزاهة العملية الديمقراطية برمتها، علاوة على اختلاق مبررات لعدم القبول بنتائج الاستحقاق الرئاسى، ومن ثم رفض تسليم منصبه حالة خسارة الماراثون الانتخابى.
وفى سابقة لم تعهدها السياسة الأمريكية، اندلع جدل بشأن إمكانية الاستعانة بالجيش لحماية الديمقراطية والانتخابات المقبلة من عبث الرئيس ترامب المحتمل بهما، حيث أعرب المرشح الديمقراطى جون بايدن (78 عاما) عن ثقته فى تدخل الجيش الأمريكى إذا رفض ترامب (74 عاما) الاعتراف بخسارته الانتخابات، وإخراجه من البيت الأبيض بسرعة وحسم. ولعل مخاوف الديمقراطيين بهذا الصدد تنبع من رفض ترامب تقديم إجابة قاطعة لسؤال طرحته عليه قناة «فوكس نيوز» مؤخرا بخصوص مدى تقبله لخسارة انتخابات الرئاسة المقبلة، مع غياب أى دليل على أن التصويت عبر البريد سيؤدى إلى الاحتيال، إذ تواصل إجراء الانتخابات منذ عام 1845 بانتظام وفى موعدها المقرر يوم الثلاثاء الأول من شهر نوفمبر دونما إرجاء، حتى فى أثناء الحروب، وخلال فترات الكساد الاقتصادى وإبان الجوائح الوبائية.
وعلى الرغم من أن ترامب لم يعلن صراحة نيته رفض نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة، حالة خسارتها، فيما ألمح ذات مرة إلى أنه سيترك البيت الأبيض حينئذ ويمضى قدما لمباشرة مهام أخرى، إلا أن مجرد انبعاث المخاوف وطرح الأمر بهذه الطريقة من جانب مرشح رئاسى بوزن جون بايدن، إنما ينطوى على دلالات بالغة الخطورة لجهة سلامة وصدقية النموذج الديمقراطى الأمريكى.
من جانبهم، أرجع مراقبون كثر تفكير ترامب فى تأجيل الانتخابات إلى تشبثه بآمال الفوز بولاية رئاسية ثانية والفكاك من فشل مخيف يلاحقه، بشرت به استطلاعات الرأى التى أجريت مؤخرا فى الولايات المتأرجحة التى عادة ما تحسم الانتخابات، كما تلك التى فاز فيها بسهولة عام 2016، والتى أظهرت مجىء الرئيس بعد خصمه الديمقراطى جو بايدن أو تعادله معه فى أحسن الأحوال، فيما أظهرت استطلاعات أخرى نشرتها شبكتا «إن بى سى» و«سى إن إن»، تقدم بايدن فى ثلاث ولايات فاز فيها ترامب فى انتخابات 2016، وهى فلوريدا وأريزونا وميشيغن. وبالتوازى، أظهرت استطلاعات ثالثة سخط الناخبين على نهج ترامب فى التعاطى مع جائحة كورونا، حيث دأب على التهوين من مخاطرها حتى تصدرت الولايات المتحدة قائمة الدول الأكثر تضررا على مستوى العالم، بعدما تجاوز تعداد الوفيات بها عتبة الـ 160 ألفا، بينما ناهز إجمالى المصابين خمسة ملايين مواطن. الأمر الذى أنعش آمال الديمقراطيين فى أن يفضى تشكيل لجنة تقصى ومتابعة داخل الكونجرس حول إدارة ترامب لأزمة كورونا، إلى اتهامه بالتقصير، بما يربك موقفه التنافسى خلال الانتخابات.
وبمقاربة اقتصادية بحتة، يخشى ترامب من أن تلتهم تداعيات الجائحة ورقته الانتخابية الرابحة المتمثلة فى الإنجازات الاقتصادية التى حققها قبل تفشى الوباء فى شهر يناير الماضى وكان يراهن عليها لانتزاع ولاية رئاسية ثانية، خصوصا بعدما تقلصت معدلات البطالة بنسب لم تشهدها الولايات المتحدة منذ نحو خمسين عاما، نتيجة لأطول فترة متصلة من النمو الاقتصادى منذ يونيو عام 2009 وحتى فبراير 2020. فلقد تزامن تلميح ترامب بتأجيل الانتخابات مع تراجع اقتصادى مروع، تمثل فى انكماش الاقتصاد الأمريكى بمعدل سنوى 32.9 %، فى أسوأ تراجع له على الإطلاق، خلال الربع الثانى من العام الجارى، مع دخول البلاد رسميا فى ركود اقتصادى بعد فصلين متتاليين من تقلص النمو، فى الوقت الذى أكد تقرير مجلة «بزينس إنسايدر» اتساع الفجوة بين الأمريكيين فى الدخل، حيث تقدم 40 مليون مواطن بطلبات للحصول على إعانة بطالة خلال الجائحة، فى حين زاد صافى ثروات أصحاب المليارات بمقدار نصف تريليون دولار.
وبينما يحسم الدستور الأمريكى الجدل ليؤكد كبير موظفى البيت الأبيض أن الانتخابات المقبلة ستجرى فى موعدها المقرر بالثالث من نوفمبر القادم بغير إرجاء، أطلت برأسها علامات الاستفهام بشأن مآلات النظام الانتخابى الأمريكى، الذى تتزاحم التحفظات على ميكانيزماته من اتجاهات ومشارب شتى، خصوصا بعدما حصلت الانتخابات الأمريكية على 62 نقطة فقط من مجموع 100 نقطة على مؤشر سلامة الانتخابات لجامعة سيدنى الأسترالية، والذى يصنف الانتخابات على مستوى العالم بناءً على مجمل مراحل العملية الانتخابية حتى إعلان النتائج، حيث حلت الولايات المتحدة فى المرتبة السابعة والأربعين عالميا، بجريرة آلياتها الانتخابية المتمثلة فى قواعد تقسيم الدوائر الانتخابية، وقوانين الانتخاب، ونمط تمويل الحملات الانتخابية، والتى اعتبرها المؤشر أبرز نقاط الضعف التى تعترى الانتخابات الأمريكية، كونها تشجع على الاستقطاب السياسى وتتيح التدخل الاحتيالى فى النتائج.
بطبيعة الحال، نال نظام «الكلية الانتخابية»، نصيب الأسد من الانتقادات، حيث لا يخول للمواطنين انتخاب الرئيس مباشرة وإنما ينتخبون المجمع الانتخابى، الذى يضم 538 ممن يسمون الناخبين الكبار الذين يمثلون مختلف الولايات. وبينما لم يتفق أغلبية المواطنين مع غالبية أعضاء المجمع الانتخابى لخمس مرات طيلة المسيرة الانتخابية الأمريكية، فقد ارتأى أكاديميون أمريكيون ديمقراطية بلادهم، ضربا من حكم أقلية فاحشة الثراء تتكالب لتعظيم نفوذها الذى تخطى دوائر الاقتصاد ليشمل عالم السياسة. لذلك، توالت المطالبات بإلغاء العمل بهذا النظام الانتخابى، لاسيما بعدما أسفر مرتين خلال العقدين الأخيرين عن اقتناص المرشح الذى لم يفز بالأصوات الشعبية لمنصب الرئيس، كانت أولاهما، فى عام 2000 عندما تولى بوش الابن الرئاسة رغم فوز منافسه آل جور بأعلى الأصوات الشعبية. وثانيتهما عام 2016، حينما انتزع ترامب الرئاسة رغم فوز هيلارى كلينتون بغالبية أصوات الناخبين.
لما كانت آلية التصحيح الذاتى، تمثل أبرز شيم العملية الديمقراطية، لا يفتأ الكثيرون فى داخل الولايات المتحدة وخارجها يراهنون على صحوة المعنيين بأمر السياسة الأمريكية ليضطلعوا بدورهم الوطنى والتاريخى فى هكذا منعطفات، بحيث يشرعوا فى إعمال النقد الذاتى ومراجعة التجربة بغية تعديل المسار، عسى أن يستعيد النموذج الديمقراطى الأمريكى ألقه وصدقيته وحيويته التى سلبتها شيخوخة مشهد انتخابى غدا إلى السوريالية أقرب بعدما مسه نزغ من عجائب السياسة فى العالم الثالث، فتجاوز 332 مليون أمريكى، يمثل الشباب 40% منهم، ليتنازع صدارته متنافسان ما برحا أسيرين للشطط حتى فى أرذل العمر.