هذا المقال يناقش قضية حق المسلمين فى أن يبنوا مسجدا على بعد 200 متر من مقر برجى التجارة اللذين تم تدميرهما فى مثل هذا اليوم من تسع سنوات؟
نبدأ ببعض المعلومات، نحو سبعين بالمائة من الأمريكيين يرون أن بناء هذا المسجد فى هذا المكان خطأ لأنه لا يحترم مشاعر أسر أولئك الذين ماتوا فى هذا المكان فى أحداث سبتمبر. والحل هو أن يتم استبدال قطعة الأرض هذه بقطعة أرض أخرى فى أى مكان آخر من مدينة نيويورك. ويدعم هذا التوجه معظم المتدينين الأمريكيين سواء من المسيحيين البروتستانت أو اليهود. وهؤلاء يرفعون شعارات من قبيل «المسلمون رقصوا فرحا فى أحداث سبتمبر» و«لا للمستعمرات الإسلامية فى أمريكا» وهو ما يأتى فى ظل موجة عامة من الفوبيا (أى الخوف المبالغ فيه) ضد الإسلام والمسلمين.
ويعارض هذا المنطق بوضوح نسبة من القيادات السياسية (المسيحية واليهودية والملحدة) التى ترى أن هذا المسجد يعبر عن حقيقة الفصل بين الدين والدولة فى المجتمع الأمريكى. فلا يوجد قانون يمنع أتباع أى ديانة من ممارسة عقائدهم وبناء معابدهم طالما أن هذا يتم فى إطار القانون.
والحقيقة أن هناك ما يستحق التأمل.
تعيش الولايات المتحدة حالة من الصراع الفكرى والفلسفى والسياسى بشأن هذا الموضوع بين تيارين كبيرين، الأول هو التيار المتعاطف مع فكرة بناء المسجد فى هذا الموقع (وليس فى أى موقع آخر). وهؤلاء أقرب إلى أفكار الفيلسوف الألمانى الشهير إيمانيول كانط والذين يرون أن أخلاق المجتمع الأمريكى (داخل أمريكا وليس بالضرورة فى سياستهم الخارجية) قائمة على مبادىء العمومية، والإطلاق، والإنسانية.
فأنصار بناء المسجد من غير المسلمين يرون أنه لو نجح المعترضون (وهم الأغلبية) فى منع المسلمين حقا مقررا قانونا لهم، فإن هذا يتناقض مع عمومية المبدأ وحتمية تطبيقه بغض النظر عن صاحبه. أو كما يقول كانط، لمعرفة صحة أو خطأ أى موقف نتبناه أو بديل نختاره فعلينا أن نمرره عبر اختبار العمومية أو الـUniversality Test الذى يتطلّب منا تخيل شيوع نفس الموقف أو البديل بين الجميع؛ فمثلا لو أنا كذبت على صديق، فهذا عمل غير أخلاقى لأن لو كل الناس يكذبون لما عُرفت الحقيقة ولم يعد للكلام معنى، إذن: الكذب خطأ أخلاقى ولابد أن يقف القانون والعرف والأخلاق منه موقف الرفض ولابد أن تطور مؤسسات الدولة آليات محددة لتربية الناس على الصدق ولجعل الكذب جريمة يعاقب عليها القانون إن لزم الأمر. وبهذا المنطق فإنه لو سمح لمعارضى المسجد أن يغيروا موقعه، فإن هذا سيعنى ضمنا أن من حق أتباع كل ديانة فى أن يمنعوا الآخرين حقوقهم التى لا يرضون عنها.
المبدأ الثانى الذى يتبناه كانط يقوم على فكرة «الإطلاق» ـ حيث يرى كانط أن القيم الأخلاقيّة هى أوامر مُطلقة Categorical
وغير مشروطة، فلا استثناءات فى أوامر مثل: لا تكذب، لا تضطهد، لا تنتحر. إن كانط لا يعتد كثيرا بالملابسات المُحيطة بالفعل، ولن يستمع إلى أى مرافعات تتعلّق بتبريره. والأمر الُمطلق هو قانون «يجب» الالتزام به سواء اتفق مع رغباتنا أم لم يتفق، إن كانط يعتقد بوضوح أن الأخلاق هى الانصياع لهذه الأوامر الأخلاقية وما تمليه من واجبات، بغض النظر عن النتائج.
والحقيقة أن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة كانوا أوفياء لهذا المبدأ إجمالا حتى وإن شاب الإطار القانونى الحاكم للدولة آنذاك عيوب بشأن غير البيض والمرأة. وقد تجلى ذلك فى التعديلات الدستورية العشرة الأولى والتى سميت بوثيقة الحقوق المدنية والتى من ضمنها كفالة حرية الرأى والتعبير والعبادة والتقاضى وغيرها. وعليه فإن حق المسلمين فى العبادة هو قيمة مطلقة ليست موضع نقاش أو حسابات سياسية من أى نوع.
المبدأ الثالث هو أنه لا ينبغى معاملة الآخرين كوسائل لتلبية حاجاتنا أو رغباتنا، بل هم غايات بذواتهم، حتى المُنتحر، من وجهة نظر كانط، ليس من حقه أن يستخدم ذاته كوسيلة لإرضاء حاجاته (التخلّص من آلامه)، لذلك الإنسان هو الغاية وحقوقه ليست موضع استخدام أو استغلال أو حتى اعتراض. وعليه فليس من حق أى إنسان أن يتدخل فى أى قرار يتخذه آخر طالما أن الأول عاقل رشيد يعى مسئولياته تجاه مجتمعه فى حدود المبدأين السابقين.
وعلى هذا، يرى هؤلاء أن هناك واجبا على الإدارة الأمريكية أن تحمى مبادئ الدستور الأمريكى وحقوق المواطنين المسلمين مهما كلفها ذلك من تكلفة سياسية فى عام انتخابات ليس من المتوقع أن يأتى بأخبار سارة للديمقراطيين.
وهو ما جسده اقتباس هيلارى كلينتون لعبارة وردت فى خطاب أرسله جورج واشنطن لحاخام يهودى فى عام 1790 (أى بعد 3 سنوات من تأسيس الولايات المتحدة) يقول فيها: «(الدولة) لا تقر أى تعصب ولا تتسامح مع أى اضطهاد (لأى ديانة)».
ولكن هناك مدرسة أخرى فى التفكير تنبع من حسابات نفعية براجماتية بحتة بمنطق الفيلسوف البريطانى جيرمى بنثام الذى يرى أن أخلاقية أى فعل تأتى من حجم النفع الذى يسببه القرار لأكبر عدد ممكن من الناس مقارنة بحجم التكلفة. وعليه، فهذا المسجد له آثار مختلطة بين السلب والإيجاب داخل أمريكا وخارجها.
فالمعارضون يرون أنه سيوجد، بل أوجد بالفعل، حالة من العداء للمسلمين فى الولايات المتحدة لأن القائمين عليه لا يعيرون مشاعر ضحايا العمل الإرهابى ولا الرأى العام الأمريكى ما يستحقه من اعتبار.
أما المؤيدون فيرون أن هذا المسجد فى هذا الموقع يرسل رسالة قوية للأمريكيين بأن حقوق الآخرين لها الأولوية على مشاعرهم ومصالحهم من ناحية ورسالة للعالم الخارجى بشأن التسامح والليبرالية الحقيقية التى يعيشها المجتمع الأمريكى حتى فى مواجهة أكثر قضاياه جدلية وحساسية.
وفى حوار للإمام فيصل عبدالرءوف (صاحب فكرة بناء ما يسميه مركز قرطبة للحوار) على إحدى الشبكات الأمريكية، تتجلى واحدة من خصائص العقلية الأمريكية وهو فكرة البحث عن حلول وسط، وهى فكرة لها تاريخ طويل فى السياسة والاقتصاد والقانون الأمريكى، حيث طرح الإمام رؤيته القائمة على أن ما يعتزمه فعلا أن يكون مركزا للعبادة المشتركة؛ فيكون فيه ساحة لليهود وأخرى للمسيحيين وثالثة للمسلمين للعبادة، حتى يكون هذا المركز ساحة للتآلف بين أتباع الديانات المختلفة.
رغما عن سخونة النقاشات وحجم الجدل المثار بشأنها لكن عقلاء القوم يتصدرون المسرح ويحذرون من مضار الرصاصات الكلامية الطائشة مثل ذلك القس فى فلوريدا الذى أراد أن يحرق القرآن الكريم اليوم (11 سبتمبر)، فتصدى له كثيرون سواء من المؤسسة العسكرية (الجنرال بيترايوس متبنيا منطق المنفعة والخوف على أرواح جنوده فى العراق وأفغانستان، وهيلارى كلينتون وزيرة الخارجية، ومعهما سارا بالين المحافظة المعروفة بمواقفها غير المؤيدة للمسلمين). فضلا عن بعض قادة الرأى العام الذين دافعوا عن حقوق المسلمين من منطق الأخلاق المطلقة التى قال بها كانط (فريد زكريا، المثقف والإعلامى البارز، وجون بول عضو مجلس النواب كانوا من أبرز هؤلاء).
هذه النقاشات هى التى جعلت مارجريت تاتشر تقول: «إن التاريخ بصراعاته الدموية هو المسئول الأول عن شكل أوروبا الحالى، والفلسفة بنقاشاتها ومناظراتها هى المسئولة الأولى عن شكل أمريكا الحالى».