أغلب المراقبين والمهتمين بالشأن السياسى اعتبروا أن الحكومة الجديدة هى حكومة قصيرة العمر إذ تشكلت قبل أسابيع قليلة من عقد الانتخابات التشريعية. مبررهم فى ذلك هو أن أى انتخابات فى أى مكان يعقبها تشكيل حكومة جديدة. مراقبون آخرون اعتقدوا أن ذلك لن يحدث بالضرورة ورجع اعتقادهم هذا إلى ما سار عليه الرئيس الأسبق حسنى مبارك فى الفترة الأخيرة من حكمه المديد حيث لم يكن يكلف أحدا بتشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات التشريعية بل كان يبقى على التشكيل الحكومى على ما كان عليه.
لأن تغيير الحكومة مرة أخرى بعد أسابيع أو شهور قليلة من تشكيها ينمّ عن عدم استقرار أو يؤدى إليه، فلقد نقل عن رئيس الجمهورية فى هذه الصحيفة الغراء أنه أعلن أن «الحكومة الجديدة مستمرة وليست مؤقتة كما يعتقد الجميع مادامت قادرة على نيل ثقة البرلمان المقبل»، وأضيف إلى ذلك أنه بما أن التقديرات تقول إن غالبية أعضاء البرلمان سيكونون من المؤيدين لسياسات الرئيس فأغلب الظن أن الحكومة المشكلة أخيرا مستمرة، ووردت فى أماكن أخرى إشارات إلى أنه «ليس هناك ارتباط بين انتخاب البرلمان الجديد وتقديم الحكومة لاستقالتها» وإلى أنه لا علاقة بين الانتخابات وتشكيل البرلمان وتغيير الحكومة.
***
هذا الموقف من الإبقاء على الحكومة أو تغييرها، فضلا عن أنه اهتداء بما سنّه الرئيس الأسبق بشأن العلاقة بين الانتخابات وتشكيل الحكومة، فهو ولا شك يستند إلى تفسير للمادة ذات الصلة فى الدستور المعدّل لسنة 2014، كما كان سلوك الرئيس الأسبق نفسه تفسيرا للنص الدستورى لسنة 1971. لا جدوى من النظر فى هذا التفسير الأخير ويكفى فقط التعليق بأنه كان بدعة فى ممارسة الأنظمة السياسية ابتكرها له مستشاروه الذين خرّبوا الأنظمة الدستورية والقانونية المصرية ومعها السياسة والنظام السياسى فى مصر.
أما دستور 2014 فيما يخصّ العلاقة بين الانتخابات وتشكيل الحكومة فهو مما يستحق التعليق. المادة 146 من الدستور تنص على أن «يكلف رئيس الجمهورية رئيسا لمجلس الوزراء، بتشكيل الحكومة وعرض برنامجه على مجلس النواب، فإذا لم تحصل حكومته على ثقة أغلبية أعضاء مجلس النواب خلال ثلاثين يوما على الأكثر، يكلف رئيس الجمهورية رئيسا لمجلس الوزراء بترشيح من الحزب أو الائتلاف الحائز على أكثرية مقاعد مجلس النواب، فإذا لم تحصل حكومته على ثقة أغلبية أعضاء مجلس النواب خلال ثلاثين يوما، عُدًّ المجلس منحلا». لا تنصّ المادة على أن أول تكليف من رئيس الجمهورية لرئيس لمجلس الوزراء يكون فى أعقاب الانتخابات التشريعية، وبذلك يمكن بالفعل استنتاج أن هذا التكليف قد يكون سابقا على الانتخابات وأنه يكفى بالتالى لاحترام الدستور أن تنال الحكومة الموجودة ثقة أغلبية أعضاء مجلس النوّاب الجديد. غير أن هذا الاستنتاج قاصر فهو، من جانب، يتجاهل المبادئ الدستورية المعمول بها فى كل مكان، ومن جانب آخر، وبما لا يقلّ عن ذلك أهمية بل يزيد، يلتفت عن كامل نصِ المادة 146 المذكورة. الفقرة التالية من هذه المادة تنصّ على أنه «وفى جميع الأحوال يجب ألا يزيد مجموع مدد الاختيار المنصوص عليها فى هذه المادة على ستين يوما». هذه الفقرة تعنى أن عملية تشكيل الحكومة، سواء بناء على من يختاره رئيس الجمهورية وحده رئيسا لها، أو بعد ذلك استنادا إلى الإرادة المشتركة له وللحزب أو الائتلاف الحائز على أكثرية مقاعد مجلس النوّاب بشأن اختيار رئيسها، يجب ألا تتعدّى مدتها الستين يوما. الارتباط بين الانتخابات وعملية تشكيل الحكومة كان موجودا إذن فى أذهان من صاغوا الدستور ومن اعتمدوه، فلا بدّ أن ثمة لحظة بداية تحسب من عندها فترة الستين يوما. وليس معقولا اعتبار أن الستين يوما تبدأ مثلا فى الأسبوع الثانى من سبتمبر الماضى الذى كلف فيه رئيس الوزراء الحالى بتشكيل حكومته، وحتى إن اعتبرت فهى ستنتهى قبل انعقاد البرلمان القادم. الرجاء هو أن يكون مستشارو رئيس الجمهورية متنبهين إلى ذلك.
***
«بما أن التقديرات تقول بأن معظم أعضاء مجلس النواب سيكونون من مؤيدى سياسات رئيس الجمهورية»، فيمكن تماما لرئيس مجلس الوزراء أن يقدم استقالة حكومته بعد الانتخابات فيكلفه رئيس الجمهورية، بناء على الرخصة التى أعطته إياها المادة 146 بتشكيل حكومة جديدة بقطع النظر عن نتيجة الانتخابات، ويستطيع رئيس مجلس الوزراء الجديد/القديم أن يبقى فيها على كل وزرائه إن شاء ذلك ووافق رئيس الجمهورية. الشكل ليس عديم الأهمية بل إن الشكل يحفظ الروح. احترام روح الدستور، كاملا وكل حكم فيه، واجب، وكذلك الالتزام بنصوص مواده فضلا عن ضرورة النزول على المبادئ والتقاليد الدستورية المعمول بها. مصر لا بدّ أن تكون حريصة على الاندراج شكلا وموضوعا فى عداد الدول الدستورية. لا يوجد استثناء مصرى أو خصوصية مصرية فى هذا الشأن ولا مصلحة لمصر ولا للمصريين فى مثل هذا الاستثناء أو الخصوصية.
أما الحكومة فهى فى الفترة الحالية مطالبة بحكم البلاد وليس الانشغال لفترة الشهور الثلاثة المقبلة «لحين تشكيل وانعقاد البرلمان» فى الاجتماع على شكل «مجموعات وزارية اقتصادية وخدمية وسياسية وأمنية لإعداد برنامج ورؤية للإصلاح على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والإدارية والأمنية». المفترض أن مرتكزات هذه الرؤية موجودة وإلا فما الذى دعا إلى تكليف شخص بعينه رئيسا للوزراء ثم ما الذى جعله ومن وراءه ومعه يختارون أشخاصا معينين للحقائب الوزارية المختلفة؟ وبرنامج أى حكومة هو برنامج سياسى يرسم الخطوط العريضة لمقاربتها فى سياسة البلاد المعنية ولا يدخل فى تفاصيل كل من سياساتها من شاكلة «تطوير الأداء الحكومى من خلال التركيز على المحاور البينية». الحكومة هى الهيئة التنفيذية والإدارية العليا بالدولة كما تنص على ذلك المادة 163 من الدستور؛ وهى تشترك مع رئيس الجمهورية فى وضع السياسة العامة للدولة، وتعدّ مشروعات القوانين والقرارت، وتعقد القروض وتمنحها، ضمن وظائف أخرى، بمقتضى المادة 167 من الدستور. الحكومة هى الهيئة الإدارية العليا ولكنها كذلك الهيئة التنفيذية العليا، والتنفيذ وظيفة تفترض اختيارات بين بدائل وقرارات سياسية حتى تكون الحكومة ورئيسها وأعضاؤها قد اضطلعوا بأدوارهم التى يفرضها عليهم الدستور. من بين قضايا عديدة، وبعيدا عن مسألة الحريات والمناخ السياسى العام، توجد قضيتان أساسيتان يجدر بالحكومة أن توليهما أولوية قصوى فى اهتماماتها فى الأسابيع والشهور القادمة التى تفصلها عن انعقاد البرلمان، وبصرف النظر عمّا إذا كانت ستبقى فى موقعها أم لا.
أولى هاتين القضيتين هى توفر العملات الأجنبية لأثرها على مجمل النشاط الاقتصادى وعلى تلبية الاحتياجات المعيشية للمواطنين، وهى تلبية لا يمكن فصمها عن إيقاع النشاط الاقتصادى، فهذا النشاط يحدد مستوى التشغيل وينعكس بذلك على معدلات البطالة والفقر ومستوى الأجور والقوة الشرائية للمواطنين. لا يجدى فى هذا الصدد التلويح برفع أسعار الرسوم الجمركية بغية تقليص واردات غير محددة، ولا طائل من مجرد اتخاذ موقف أخلاقى بإلقاء اللوم على جشع التجار. المسئولية الحقيقية هى مسئولية السياسات أو انعدامها. بافتراض الاستقلال الحقيقى للبنك المركزى فى شأن السياسة النقدية المتبعة لمواجهة استنفاذ احتياطى العملات الأجنبية والعجز المتزايد فى الوارد منها مقابل المنصرف، فهل تتدخل الحكومة بسياسات أخرى، متماسكة ومتكاملة، قصيرة وطويلة الأجل لعلاج هذه القضية؟ هل تعطيها الحكومة الأولوية فى انشغالاتها؟
القضية الثانية هى قضية «العاصمة الإدارية الجديدة» التى لا تكاد تنزوى حتى تعود تطلّ برأسها على المواطنين. أصوات بحّت مطالبة بالتريث فى شأن مشروع هذه العاصمة وأشارت ضمن ما أشارت إليه من أسباب للتريث إلى أن الدستور ينص على أن عاصمة البلاد هى القاهرة. أصحاب المشروع ظنّوا أنهم قد تغلبوا على هذا السبب بجعله مشروعا لعاصمة «إدارية» وليست سياسية، ولكنهم لم يتساءلوا كيف يمثل الوزراء الذين سيمارسون أعمالهم من «العاصمة الإدارية» أمام مجلس النواب الذى تنص المادة 114 أن مقره فى مدينة القاهرة. القرب المكانى بين السلطتين التنفيذية والتشريعية من البديهيات. لهذه القضية أهمية إضافية حاليا لارتباطها بالقضية الأولى. فى الوقت الذى شحت فيه موارد العملات الأجنبية بما يهدد تلبية احتياجات المواطنين والإبقاء على عجلة النشاط الاقتصادى دائرة، هل من ضرورة ملحة للخوض فى مشروع سيبتلع العملات الأجنبية ابتلاعا؟ هل تعير الحكومة اهتماما لهذه القضية؟
لا بدّ من احترام الدستور فى شأن تشكيل الحكومة بعد الانتخابات التشريعية، وعلى الحكومة القائمة أن تحدد اختياراتها السياسية وأن تحكم، ولكل حادث حديث بعد الانتخابات.