غزيرة هى المياه التى انسابت فى مجرى تسليط الضوء على التضحيات الخالدة والبطولات المُضيئة، التى بذلتها قواتنا المسلحة الجسورة، بإسناد نوعى وعطاء فياض من لدن الاستخبارات الحربية، والاستخبارات العامة، وإسهام حيوى من قبل الوطنيين الشجعان من بدو سيناء، والتى تضافرت، جميعها، لتحقيق الإعجاز الاستراتيجى التاريخى إبان حرب أكتوبر 1973. غير أن نزرا يسيرا منها فقط، هو ما توقف عند الدور الوطنى المُبهر، الذى اضطلع به جهاز الشرطة المغوار، لترسيخ دعائم أول انتصار عسكرى للعرب على إسرائيل.
لما كانت الشرطة المدنية مسئولة، فى الأصل، عن تأمين الجبهة الداخلية، زمنى السلم والحرب، فقد سجل أبناؤها البررة، خلال ملحمة أكتوبر العظيمة، افعالا بطولية مدوية، تجلت فى تلاحمهم الفريد مع الشعب والجيش فى معركة الشرف والكرامة. ففى مايو 1971، عهد الرئيس الراحل أنور السادات، إلى ممدوح سالم، بمسئولية وزارة الداخلية. ودونما إبطاء، عكف سالم على وضع الخطط لتأمين الجبهة الداخلية، قبل، وأثناء، وعقب، معركة العبور. وبينما طفق المئات من ضباط وأفراد، يتسابقون للتطوع ضمن صفوف القوات المسلحة، كان سالم يجتمع بمساعديه، قبل أربعة أيام من بدء الحرب، لبحث تنفيذ التدابير الكفيلة بتحصين البلاد. وبمجرد رفع درجة الاستعداد، شرعت الشرطة فى تنفيذ برامجها، معطية الأولوية لمدن القناة الثلاث ومحيطها، كونها الأكثر تماسا مع الجبهة. كما وثقت تعاونها المثمر مع الاستخبارات العامة والحربية، لإجهاض مساعى العدو المستميتة لاختراق الجبهة الداخلية عبر أنشطته التجسسية.
ابتغاء تأدية مهامهم على أكمل وجه، تلقى أبطال الشرطة تدريبات مكثفة ومتخصصة، على أعمال التأمين، وسبل التعامل مع جميع التحديات والصعاب، والتصدى للملمات والطوارئ. ففى مايو 1973، انطلقت التدريبات القتالية لسرايا الأمن المركزى، متضمنة عمليات نصب الأكمنة، والإغارة، وتمييز طائرات العدو، ومقاومة وأسر العناصر المعادية، التى يمكن أن تهبط بالمظلات، كما أفراد الدوريات الجبلية والصحراوية. وقبيل أيام من التحرك صوب مدن القناة، انتقل رجال الشرطة إلى وادى النطرون، لتلقى دورات تدريبية نوعية، مدتها 48 ساعة، بغية تأهيلهم لتدمير الدبابات المعادية من طرازى «سينتوريون» البريطانية، و«باتون» الأمريكية، على مسافة لا تتجاوز خمسة إلى عشرة أمتار. فى غضون ذلك، جرى الارتقاء بمستوى تسليحهم، ليتسنى لهم مواجهة آليات العدو ومدرعاته ومجنزراته.
ولقد آتت تلك الجهود المضنية أكلها، حيث نجحت مجموعة ضباط الشرطة المسئولين عن تأمين جزيرة الفرسان، فى أسر عدد من المظليين الإسرائيليين وتسليمهم للقوات المسلحة، فضلًا عن تطهير المناطق التى تمركزت فيها، من الألغام التى زرعها العدو فى ربوعها، متوخيا إلحاق أكبر الخسائر فى صفوف المقاومين والمدنيين من قاطنى تلك البقاع. كذلك، شاركت الشرطة فى نقل الجرحى والمصابين إلى المستشفيات الميدانية، بالتعاون مع طواقم الخدمات الطبية المدنية والعسكرية.
تزامنا مع حماية ممتلكات المُهَجَرين من سكان محافظات القناة، انبرى رجال الشرطة فى تأمين الحدود الشرقية للقاهرة قبالتها، والعمل على إحباط عمليات الاختراق والتخريب والتدمير المتوقعة من جانب العدو. حيث قاموا بنشر الكمائن والنقاط الأمنية الثابتة، وتشديد الحراسة على مختلف المنشآت والأهداف والمرافق الحيوية، مع الالتزام التام بتوفير الأمان المطلق للجاليات الأجنبية الموجودة على أرض الكنانة، وتأمين ممتلكاتها، أثناء الحرب.
وبعدما تمكنت بعض عناصر العدو وآلياته من التسلل إلى الضفة الغربية لقناة السويس عشية السادس عشر من أكتوبر، نجحت الشرطة، بالتضامن مع محافظة السويس، فى توفير مأوى لعشرين ألف متطوع، تدفقوا من محافظات شتى للمشاركة فى المقاومة الشعبية وتقويض العدوان. وفى زمن قياسى، أتمت قيادات الشرطة مهام تدريب المتطوعين، وزودتهم بالسلاح والذخيرة من مخازن الشرطة، التى فتحت أبوابها للوطنيين القادرين والمدربين على حمل الأسلحة واستخدامها. وبعدما أغلق متسللو العدو الطريق البرى المؤدى إلى مدينة السويس من جهة الغرب، أظهرت قوات الشرطة المتمركزة داخل المدينة أعمالا بطولية فذة، تجسد أبرزها فى دائرة قسم شرطة الأربعين، حيث تصدى ضباط وأفراد القسم للقوات الإسرائيلية التى حاولت التغلغل والتموضع داخل المدينة، وحالت دون تقدمها، بعدما كبدتها خسائر موجعة.
إلى جهاز الأمن المركزى، الذى يعكف رجاله على تلقى تدريبات شبه عسكرية، أُسنِدت مسئولية حماية مؤخرة القوات المسلحة وتأمين خطوطها الخلفية ضد أية محاولات للتسلل أو الاختراق أو الاستهداف من طرف العدو. وقد قامت التشكيلات الشرطية بأداء المهام الجسيمة المنوطة بها بكل كفاءة واقتدار. حيث نجحت مجموعة من ضباط الصف والجنود فى تأمين منطقتى الاسماعيلية وبورسعيد، بعدما تم تقوية تسليحها تحسبا للتعامل مع تشكيلات العدو ودباباته. فعلاوة على البنادق الآلية، تم تزويد المقاتلين بعدد من الهاونات 60 مم، والرشاشات الخفيفة والبنادق ذات الوصلات المضادة للدبابات، والقنابل اليدوية، والقنابل المضادة للدبابات، وزجاجات المولوتوف. وتحت إشراف ضباط من القوات المسلحة، وبالتنسيق مع الجيش الثانى الميدانى، جرى تدريب ضباط وتشكيلات الأمن المركزى المنتشرة فى بورسعيد والاسماعيلية، على التعامل مع دبابات العدو عبر استخدام قنابل من طراز «حسام».
ببراعتها المعهودة، تمكنت قوات الأمن المركزى من دخول الاسماعيلية والتمركز فى بقاعها الحيوية، غير البعيدة عن نقاط التماس مع بؤر تموضع العدو المتاخمة لمدينة السويس. وبفضل عبقرية انتشار قوات الشرطة، وصلابة التحامها بالمقاومة الشعبية، أحجم العدو عن المقامرة باقتحام المدينة، مخافة الخسائر الفادحة جراء المواجهات الدامية مع المقاومة التى كانت تقف له بالمرصاد. وتولت قوات الأمن المركزى إزالة كل ما ألقاه العدو من مقذوفات ومواد متفجرة، كما أفشلت مخططاته لقطع خط إمداد قواتنا المسلحة الموجودة بالاسماعيلية وبورسعيد على طريق العباسة ــ الاسماعيلية.
وبفضل استئساد الأمن المركزى فى تأمين ذلك الطريق، أخفقت محاولات الإسرائيليين للاقتراب من المدينة، بعدما تم إمدادها بالبنادق الآلية والرشاشات والقنابل اليدوية والقذائف المضادة للدبابات والمدرعات، بغية رفع مستوى جهوزيتها للاشتباك مع قوات العدو، حال اجترائها على اجتياح الاسماعيلية. فقد أحكمت الشرطة رقابتها على مداخل المدينة، وانتشر ضباط البحث الجنائى يدعمون نقاط التفتيش، وتمركزت قوات الأمن فى مناطق محددة بالشوارع الواقعة على مشارف مركز الحركة للقطاع العسكرى. وفى الأثناء، أفشلت المقاومة كل حيل العدو الخداعية ومهاتراته العقيمة، حينما رفضت وزارة الداخلية إنذارا وجهه المتسللون الإسرائيليون عن طريق هاتف من شركة قناة السويس لتصنيع البترول، يهددون فيه المحافظ بالاستسلام وتسليم المدينة فى غضون نصف ساعة، وإلا سيتم قصفها بالطيران الحربى.حيث أبت وزارة الداخلية إلا توجيه المحافظ ومدير الأمن للانضمام إلى صفوف المقاومة الشعبية، ودحر الغزاة المتغطرسين.
فى مدينتى بورسعيد، وبورفؤاد، أبلت قوات الدفاع المدنى والإنقاذ، بلاءً حسنا، حينما أقدمت تشكيلات الأمن المركزى المتمركزة بمناطق حى المناخ والقبوطى والجميل، على نصب كمائن ليلية، من أجل إفساد أهداف غارات العدو اليومية المتعاقبة على الأعيان المدنية وقواعد الصواريخ المنتشرة هناك، والتى دأبت الطائرات الحربية الإسرائيلية على مهاجمتها عبر التحليق المنخفض من جهة البحر، حتى لا ترصدها الرادارات. وبينما تدفقت جموع غفيرة من رجالات الشرطة لمؤازرة أسود الصاعقة فى التنكيل بالغزاة، كان لقسم الدورية اللاسلكية الشرطية عطاءً ملموسا، نال إشادة القوات الخاصة بالجيش. إذ سجلت وثائق المعركة نجاحا لافتا لقوات الشرطة فى إجهاض محاولات العدو لتعطيل أجهزة الرادار العسكرية المصرية، عبر قيام طائراته الحربية بإلقاء كميات هائلة من الورق المفضض فى المجال الجوى بمنطقة القناة، بقصد التشويش على أجهزة الرادار. وبعدما تمكن العدو يوم 23 أكتوبر من قطع الاتصالات السلكية فى القاهرة، أصبحت الشبكة اللاسلكية الخاصة بشرطة النجدة هى حلقة الاتصال الوحيدة والفعالة بين السويس والعاصمة.
بين طيات سفره المعنون: «البحث عن الذات»، الصادرعام 1978، أشاد الرئيس السادات، بالدور الرائد لوزارة الداخلية خلال الحرب، خصوصا بعدما أصدر قراره، التاريخى، بانخراط رجالات الشرطة فى العمليات إلى جانب إخوانهم من أبناء القوات المسلحة. فحينئذ، ضرب أولئك الشجعان خلال المعارك، أروع الأمثلة فى الفداء والتضحية، حيث جاد كثيرون منهم بأرواحهم الطاهرة دفاعا عن وطنهم، وقدموا للعالمين أبلغ العبر فى التلاحم البنَاء مع الجيش والشعب. وبينما انبرى ثلاثتهم فى استنقاذ النصر المبين من كيد المعتدين ومناصريهم فى ساحات الوغى، لم تكن الجبهة الداخلية أقل تماسكا أو تراحما. ففى حين هُرع الوطنيون المخلصون للالتحاق بالمقاومة الشعبية، التى أبهرت العدو بصمودها، وسامته ألوان العذاب، فى دروب مدن القناة ومحيطها، لم يتم تسجيل جناية وحيدة، بعموم البلاد، طيلة مدة الحرب.
بملء وعيى ووجدانى، أؤيد ما أورده المؤرخ العسكرى، اللواء جمال حماد، فى كتاب أصدره سنة 1989، بعنوان: «المعارك الحربية على الجبهة المصرية»، لجهة اعتبار الإسهامات البطولية للشرطة المدنية إبان حرب أكتوبر المجيدة، امتدادا طبيعيا لعطائها الوطنى المتواصل، على مر التاريخ المصرى. لكنى أنتهز ذكرى العبور لأدعو بنى وطنى قاطبة، للاعتصام بروح أكتوبر المُلهِمة، التى تفوح بأريج النصر والفخار، وتنضح بإكسير تجاوز الأزمات وتخطى الصعاب، كما تجود بأسرار الحصانة المنيعة ضد المكائد والمؤامرات. تلكم الروح الكامنة فى تعزيز وشائج التلاحم الوطنى، الأبدى والخلاق، بين الثالوث العبقرى الضامن لبقاء أمتنا عزيزة أبية. ذلكم المتجسد فى شعب مناضل، وجيش مقاتل، وجهاز شرطة باسل.