كانت العقول فى العصور القديمة تتوهج بأسئلة الكون الكبرى، تطرق أبواب الغموض بحثًا عن الحقيقة وكشف أسرار الطبيعة. كان سؤال خلق العالم ومصير الإنسان بعد الموت من أوائل الأسئلة التى خطرت فى ذهن العقل البشرى، والتى تناولها من خلال أساطير الخلق وأصل الأشياء.
حاليًا، استطاع العلم الحديث الإجابة عن هذه الأسئلة بشكل موضوعى، فحلت النظريات العلمية محل الأساطير والتأملات الفلسفية المجردة، ومنذ اكتشاف كوبرنيكوس فى عام 1514، أن الأرض ليست مركز الكون، انقلبت الموازين، وأصبح الإنسان قادرًا على القياس والتنبؤ معتمدًا على علوم الفيزياء التى حملت بين يديها مفتاحًا حقيقيًا لفهم العالم.
وقد كان جاليليو، وديكارت، وإسحق نيوتن، وغيرهم، أبناء هذا التحول، وتمكنوا من خلال التطبيقات الرياضية من إيجاد إجابات دقيقة حول طبيعة الكون، وتحولت السماء التى كانت يومًا مليئة بالأسرار الغامضة إلى معادلات تحسبها قوانين تفسر حركة الكواكب والنجوم، وأصبحت المعادلة الرياضية بمثابة الترجمة الدقيقة لهذه القوانين واللغة التى تكتب بها الطبيعة عن نفسها. وكان هذا هو التحول الأعظم فى تاريخ البشرية من وهم معرفة قوانين الكون إلى اليقين المعرفى المبنى على الأدلة الموضوعية.
يلقى هذا المقال نظرة عابرة على بعض فلاسفة التنوير منذ العصور الوسطى، عندما شهدت أوروبا سلسلة من التحولات جعلتها تتفوق على الشعوب فى العلوم والفنون والفكر والسياسة، ودفعت عجلة التطور إلى الأمام لبناء أنظمة اجتماعية ديمقراطية ليبرالية.
وفى مقال آخر سنعرض بشىء من التفصيل أفكار بعض الفلاسفة والأدباء الذين عززوا المعرفة البشرية بأفكارهم التنويرية التى أيقظت العقل البشرى من خمول وركود الفكر فى عصور ما قبل الحداثة.
• • •
سنبدأ فى هذا المقال مع فيلسوف ومؤرخ إنجليزى، اشتهر بفلسفته السياسية، وهو "توماس هوبز" (1588-1679). ومن أهم أعماله «ليفياثان» أو «المادة والشكل وقوة الكومنولث، الكنسية والمدنية» (1651). وفقًا لهوبز، يتم تبرير السلطة السياسية من خلال عقد اجتماعى افتراضى يمنح شخصًا أو كيانًا مسئولية سلامة ورفاهية الجميع. وقد أثر كتاب «ليفياثان» على خلفاء هوبز المشهورين الذين تبنوا فكرة العقد الاجتماعى، مثل جون لوك (1632-1704)، وجان جاك روسو (1712-1778). وكان هوبز ينظر إلى الحكومة باعتبارها أداة لضمان الأمن الجماعى، كما دافع عن المادية، وأن الأشياء المادية فقط هى الحقيقية.
اهتم الفيلسوف الفرنسى «مونتسكيو» 1689-1757 أيضًا بالسياسة ونادى بالفصل بين السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية. وقد أثرت أفكاره على مفكرى التنوير فى الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى «ديفيد هيوم 1776 - 1711» الفيلسوف الاسكتلندى الذى أشار إلى ضرورة الاعتماد على المعرفة العلمية الموضوعية من خلال التجربة والملاحظة، بعيدًا عن المفاهيم الميتافيزيقية والأفكار الفطرية. كما أثرت أفكار هيوم عن الطبيعة البشرية على العلوم الاجتماعية وعلم النفس.
الإنجليزى الأمريكى «توماس باين» 1737-1809 كان مفكرًا تنويريًا مهمًا، وتبنت أفكاره الثورة الأمريكية (1765-1783) والثورة الفرنسية (1789-1799). ومن أشهر أعماله كتاب «الحس السليم» (1776)، و«حقوق الإنسان» (1791)، و«عصر العقل» (1794 و1795). ورد باين أيضًا على كتاب الفيلسوف الآيرلندى إدموند بيرك «تأملات حول الثورة فى فرنسا» (نُشر عام 1790)، والذى دعم فيه دور الدين فى الحفاظ على النظام الاجتماعى ورفض الإطاحة المتحمسة بالمؤسسات التى اختبرها الزمن فى فرنسا، قائلًا: «السيد بيرك، من خلال إجلاله المفرط للماضى، يدافع عن سلطة الموتى على حقوق وحريات الأحياء».
وصدر فى عام 1792 الجزء الثانى من كتاب «حقوق الإنسان» هاجم فيه باين الملكية والأرستقراطية. وعارض جميع أشكال الامتيازات وأيد حق الأقل حظًا فى الحصول على المساعدة من الدولة من خلال التعليم المجانى، والمعاشات التقاعدية، وطالب بإلغاء الألقاب النبيلة والتخلص من مجلس اللوردات فى إنجلترا.
يعتبر الفيلسوف الاسكتلندى «آدم سميث» 1723-1790 من أهم منظرى قواعد الاقتصاد الليبرالى، حيث دعا فى كتابه «ثروة الأمم»، إلى التجارة الحرة والتدخل المحدود فى الأسواق من قبل الحكومات.
• • •
نختتم هذا المقال بطرح أفكار الفيلسوف العظيم باروخ سبينوزا (ولد فى 24 نوفمبر 1632 فى أمستردام- توفى فى 21 فبراير 1677 فى لاهاى) الذى كان له تأثير عميق فى تطور الفكر الإنسانى وترسيخ قيم ومبادئ الحداثة. وتظل أفكار سبينوزا من أعمق الجهود الفلسفية وأكثرها تأثيرًا على مستوى تنقية الروح الدينية من المعتقدات الخرافية والأفكار الأسطورية، وتحقيق الانسجام بين العلم والإيمان، من خلال رفض أسلوب التأييد الأعمى للنصوص الدينية. كما أوضح سبينوزا فى كتابه "رسالة فى اللاهوت والسياسة" ضرورة ﻓﺼﻞ السلطة الدينية ﻋﻦ السلطة السياسية، ودافع عن الحكم الديمقراطى وحرية الفكر والتعبير، وأكد أهمية المبادئ الديمقراطية ﻣﻦ أﺟﻞ إقامة مجتمع مدنى حر.
كان موقف سبينوزا حول الأخلاق متجذرًا فى فكرة النسبية الثقافية، وأن ما يعتبر صحيحًا أخلاقيًا فى ثقافة ما قد لا يكون صحيحًا فى ثقافة أخرى، وشكك فى وجود حقائق أخلاقية موضوعية بسبب الافتقار إلى الأدلة التجريبية، ما جعله يتحدى المفاهيم التقليدية للأخلاق، ومما مهد الطريق لفهم أكثر دقة للمبادئ الأخلاقية.
تأثر سبينوزا بثلاثة فلاسفة عظام، وهم: «الفارابى» (ولد عام 878 فى تركستان - توفى عام 950 فى دمشق)، الذى صنف المنطق إلى «الفكرة» و«الإثبات»، واهتم بدراسة الواقع، والوجود، والأشياء وخصائصها، والسببية، والعلاقة بين المادة والعقل؛ و«ابن رشد» (مواليد 1126، قرطبة، إسبانيا - توفى 1198، مراكش) الذى أنتج سلسلة من المقالات والتعليقات على معظم أعمال أرسطو، وعلى جمهورية أفلاطون، وطرق الإثبات المتعلقة بعقائد الدين، وعارض أفكار الغزالى (1058 - 1111) وأشاد بضرورة استخدام العقل والمنطق لفهم النص الدينى؛ وموسى ابن ميمون (ولد فى 30 مارس 1135 فى قرطبة، إسبانيا - توفى فى 13 ديسمبر 1204 فى مصر) الذى دافع عن العقلانية داخل الدين، وكان تعليقه على الكتب المقدسه اليهودية مساهمة كبيرة فى التوفيق بين العلم والفلسفة والدين.