إن تاريخ البشرية عبارة عن سلسلة من الحضارات المتواصلة، وكل حضارة لها أهمية فى تطور الفكر الإنسانى، وفى التأثير على أفكار وقيم الحضارات اللاحقة.
الترابط بين الحضارة المصرية القديمة والحضارة الإغريقية
للأسف تم قطع سلسلة الترابط بين الحضارة المصرية القديمة والحضارة الإغريقية، على الرغم من وجود العديد من التفاصيل التاريخية التى تمثل حلقة الوصل بين الحضارتين. وقد لعب أرسطو وجماعته دورًا كبيرًا فى قطع الصلة مع الجذور المصرية.
فى الواقع فإن العشرات من الفلاسفة اليونانيين مثل طاليس، وأفلاطون، وفيثاغورس، وبارمنيدس، وديمقريطس، وغيرهم تلقوا أعلى مستويات التعليم فى مصر. وكانت «جامعة أون» فى عين شمس قلعة المعرفة فى مصر القديمة، وكان لها الفضل الأكبر فى تخريج العديد من علماء اليونان، ومنهم أفلاطون الذى أمضى 12 عامًا من الدراسة فى حرمها الجامعى. ويعود تاريخ تأسيس جامعة أون إلى فترة ما قبل الأسرات، أى منذ أكثر من ثمانية آلاف عام، وازدهرت فى هذه الجامعة التى كانت أول جامعة فى العالم، مختلف العلوم الدينية والطبية والفلكية والهندسية والزراعية، بما فى ذلك التقويم الشمسى وعلم بناء الأهرامات.
كان علماء الجامعة وطلابها يكرسون حياتهم لخدمة العلم باعتباره عقيدة مقدسة، وكانوا ممنوعين من الاتصال بأحد من الخارج، أو إفشاء أى سر من أسرار العلوم التى تعلموها. وظلت الجامعة تؤدى رسالتها لآلاف السنين، وكل ما تبقى من الجامعة اليوم هو مسلة من الجرانيت الأحمر فى منطقتى عين شمس والمطرية شرق القاهرة.
كانت مكتبة الإسكندرية التى أنشأها بطليموس الثانى الذى حكم مصر من عام 283 ق.م إلى عام 246 ق.م، منارة للمعرفة والعلم فى العالم القديم، إذ احتوت على ما يقرب من نصف مليون مخطوطة بردية تحتوى على خلاصة علوم العالم القديم. واستطاع أرسطو الاستفادة من مكتبة الإسكندرية، وتم إرسال العديد من البرديات المصرية إلى أثينا ليستفاد منها حكماء وفلاسفة اليونان. ولكن للأسف تحول افتتان الفلاسفة اليونانيين بالثقافة المصرية إلى كوكتيل قاتل من الغيرة والازدراء، باستثناء أفلاطون العظيم الذى أكد بجرأة أن التعليم فى مصر يشحذ العقل ويصقل الروح، وحث طلابه على الاستفادة من العلوم المختلفة التى تدرس فى جامعة أون.
وللأسف الشديد تعرضت الحضارة المصرية لانتكاسات متكررة تم فيها تدمير المكتبات ومنابر المعرفة، وتبددت كنوزها من الحكمة والمعرفة، وتراجع دور مصر الريادى فى المعرفة والحكمة مع كل غزو للدولة المصرية.
فى مجال تواصل الحضارات، لا بد من الإشارة إلى نظرية «العصر المحورى» وكشف عيوبها فى إهمال مصادر هامة للحضارة البشرية.
العصر المحورى
العصر المحورى هو فترة تمتد بين 200 و800 عام قبل الميلاد، وخلالها ظهرت تعاليم كونفوشيوس فى الصين، وبوذا فى الهند، وزرادشت فى بلاد فارس، وحكماء اليهود فى فلسطين، وأفكار الفلاسفة اليونانيين، ولكن من المؤسف أن هذه النظرية أهملت تأثير الحضارتين المصرية والسومرية القديمتين على قيم وأفكار البشرية، وهذا خطأ أكاديمى فادح ارتكبه باحثون مهمون مثل «كارين أرمسترونج»، وعالم الاجتماع الكندى «تشارلز تايلور»، والفيلسوف الألمانى «كارل ياسبرز»، الذى صاغ مصطلح «العصر المحورى» وحدد فترته من القرن الثامن إلى القرن الثالث قبل الميلاد، والذى قال: «إن محور تاريخ العالم يمر فى القرن الخامس قبل الميلاد باستيقاظ الروح الإنسانية، وكانت اليونان فى تلك الفترة قد تحررت من العبودية الشرقية بعد طرد التحدى الفارسى وتحولها إلى مركز تجارى ناشط، فتحرر العقل من صدمة الطغيان فأنتج خيرة العقول ساهمت فى بناء الصرح الديمقراطى، وأنتجوا مفاهيم ومقولات من نوع القانون والضرورة أكثر من الفوضى والعبث واليقين، وبهذا نفهم لماذا وُلد العقل (اللوجوس) عند اليونانيين».
إن هذا الرأى يمثل جهلا تاما بتأثير الحضارة المصرية القديمة على الحضارة اليونانية التى بُنيت على أفكار حكماء مصر القدماء، كما أن اختيار تاريخ عشوائى لبداية الحضارة الإنسانية هو جهل بالتاريخ وإنكار للتسلسل الحقيقى لتطور الفكر الإنسانى ودور مصر القديمة كمهد للحضارة الإنسانية والقيم الأخلاقية. وهذا ليس دفاعًا مبنيًا على تحيزات قومية، بل هو دفاع عن الحقيقة التى لا يزال بعض المفكرين الغربيين ينكرونها، إما عمدًا أو عن جهل، وكلاهما مخزٍ لأى باحث أكاديمى ملتزم بالموضوعية وعرض الحقائق. والحقيقة أن حكمة وعمق معرفة المصريين القدماء دفعت العديد من العلماء والفلاسفة اليونانيين إلى الحج إلى مصر للدراسة والاستفادة من معرفتهم الواسعة فى الفلسفة والهندسة والطب. ونظرية فيثاغورس كانت فى الواقع أداة المصريين فى بناء أهراماتهم الضخمة قبل أكثر من ألف عام من حياة فيثاغورس.
فى الختام، فإن الحضارة الإنسانية هى تراكم لجهود العديد من الحكماء والفلاسفة عبر تاريخ البشرية، وكل مرحلة حضارية أثرت على الحضارات اللاحقة، وكانت مصر القديمة أول حضارة إنسانية استطاعت توثيق أفكارها وقيمها وتاريخها بشكل واضح، مما دفع عالم الآثار الكبير جيمس هنرى برستد إلى وصفها بفجر الضمير الإنسانى فى كتابه الشهير «فجر الضمير» عام 1923، ترجمه إلى العربية الدكتور سليم حسن عام 1956، وقد تمكنت الحضارة المصرية بسبب موقعها الجغرافى، من التأثير على المجتمعات المجاورة فى شرق البحر الأبيض المتوسط وشمال شبه الجزيرة العربية.
ونختم بالإشارة إلى أهمية معرفة دروس التاريخ والتعلم منها، فالجهل بالتاريخ كأنك ولدت بالأمس، ومن السهل خداعك بمعلومات كاذبة، ولن يكون لديك أى وسيلة للتحقق من صحة ما يقال. وكما قال الفيلسوف والكاتب البريطانى الدوس هكسلى «إن عدم تعلم الناس الكثير من دروس التاريخ هو أهم الدروس التى يجب أن يعلمها التاريخ».