نشرت صحيفة «المصرى اليوم» الغراء تحقيقا مميزا يوم الثلاثاء الماضى 8 يناير عن المراكز التعليمية التى أنشأتها المجموعات الوطنية المختلفة من اللاجئين فى القاهرة لتلبية احتياجات أطفالها للتعليم. ليس موضوع هذا المقال تناول تلبية احتياج الأطفال اللاجئين للتعليم ولا هو السياسات الضرورية فى مجالى حماية اللاجئين وتوفير سبل الحياة لهم، مع ما لهذا الاحتياج ولهذه السياسات من أهمية. هذا موضوع يستحق الاهتمام وقد نرجع إليه قريبا. موضوع هذا المقال هو ما ورد فى تحقيق «المصرى اليوم» عن وجود تمييز يعانى منه الأطفال اللاجئون من السودان وجنوب السودان وغيرهما من البلدان الإفريقية بسبب لون بشرتهم. ليس فيما ورد فى التحقيق مفاجأة إلا لمن لا يريد رؤية الواقع، وهو واقع مؤسف من جانب، وضار بمصلحة مصر والمصريين، من جانب آخر. الأعمال الفنية وقنوات التواصل الاجتماعى مليئة بمواقف عنصرية. وزلات اللسان، بل والتصريحات المتعمدة أحيانا، الكاشفة عن هذه العنصرية ليست قليلة.
***
يمكن التصدى لضرورة مكافحة التمييز العنصرى من مدخل الالتزامات الدولية التى قبلتها مصر على نفسها بالانضمام إلى المواثيق الدولية والإفريقية لحقوق الإنسان، خاصة الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصرى المعتمدة فى سنة 1965، والتى دخلت حيز النفاذ منذ خمسين عاما بالتمام والكمال، فى يناير 1969. أحترام أحكام الاتفاقية ضرورى، ومن بين هذه الأحكام انتهاج سياسة للقضاء على التمييز العنصرى بكافة أشكاله ولتحقيق المساواة بين البشر، وليس فقط الامتناع عن «إتيان أعمال أو ممارسات التمييز العنصرى». ولا شك أن مصر تقدم التقارير الدورية التى تنص عليها المادة التاسعة من الاتفاقية عن التدابير التى تتخذها إعمالا للأحكام الواردة فيها إلى الأمين العام للأمم المتحدة الذى يحيلها إلى لجنة القضاء على التمييز العنصرى المنشأة لمتابعة تنفيذ أحكام الاتفاقية. غير أن سد الخانات الشكلى ليس هو المرام. المطلوب سياسة حقيقية وفعالة للقضاء على التمييز العنصرى. هذه السياسة يمكن أن تكون جزءا من صلاحيات مفوضية مكافحة التمييز التى نصت المادة 53 من دستور سنة 2014 على إنشائها وهى مع ذلك لم تر النور. البديهى هو أن تشمل صلاحيات مفوضية مكافحة التمييز المساواة بين المواطنين، المسلمين والمسيحيين منهم وغيرهم كذلك، والمساواة بين النساء والرجال، وعدم التمييز بين المواطنين بسبب اللون أو انتماءاتهم العرقية أو الإقليمية، كما تنص على ذلك المادة المذكورة. غير أن منطق مكافحة التمييز هو المساواة بين كل البشر، ولا يمتاز المواطنون فى أى بلد إلا فى ممارسة الحقوق السياسية. على الأسس المذكورة أعلاه، ما يهمنا اليوم هو القضاء على التمييز العنصرى بسبب اللون تحديدا، ونسارع بربطه بالسياسة الإفريقية لمصر على ضوء ما ورد فى تحقيق «المصرى اليوم». سياسة القضاء على التمييز والسياسة الإفريقية لمصر تدعم كل منهما الأخرى.
***
يمكن تحديد أربعة أهداف للسياسة الإفريقية العامة لمصر، ألا وهى تأمين وصول مياه نهر النيل بالكمية المطلوبة لمصر، والمساهمة فى تحقيق التنمية، وتأمين المساندة لمصالح مصر فى النظام الدولى، فلا يخفى أن الدول الإفريقية تمثل 27 فى المائة من الدول الأعضاء فى الأمم المتحدة، وهى أخيرا الحصول على مقعد دائم فى مجلس الأمن فى حالة النجاح فى تعديل ميثاق الأمم المتحدة وفى تشكيل مجلس الأمن. الهدفان الأخيران مرتبطان ببعضهما البعض.
ليس هذا المجال للبحث فى تحقيق الأهداف الأربعة المذكورة ولكن ما يمكن التشديد عليه هو أن النجاح المؤثر للسياسة الإفريقية لمصر رهن، ضمن عوامل أخرى، بالنجاح فى القضاء الفعلى على العنصرية فى المجتمع. لا يمكن لبلد تعتبر نفسها من كبريات البلدان الإفريقية أن تقبل بوجود ولو قدر ضئيل من التمييز العنصرى فيها. الاهتمام بقارتنا الإفريقية، وخاصة بشرقها، واضح فى السنوات الأخيرة، ولكنه اهتمام على المستوى الفوقى للدولة وحدها تصاحبه مبادرات خجولة للقطاع الخاص. المهم هو المجتمع والثقافة السائدة فيه. ينبغى أن تنصب سياسة القضاء على التمييز العنصرى على المجتمع والثقافة السائدة فيه، والتى تتسرب إلى الدولة ذاتها. الأفارقة من دبلوماسيين، وطلاب، ولاجئين، ومهاجرين، موجودين فى مصر، وهم يلمسون أنواعا من العنصرية، كما أشار إلى ذلك تحقيق «المصرى اليوم» بشأن اللاجئين.
***
أول ما يتبادر إلى الذهن هو التصدى لمفهوم «الأفارقة» على أنهم أغيار؛ اعتبار أن المصريين شىء والأفارقة شىء آخر. الحقيقة البديهية أن المصريين أفارقة غائبة عن الكثيرين منهم، فى أحاديثهم وتصرفاتهم. يرتبط بهذا المفهوم تصور لإفريقيا ابتدعه الاستعمار الأوروبى فى القرن التاسع عشر واستمر استخدامه بعد تصفية الاستعمار، واعتنقناه نحن بل وشاركنا فى ترويجه، ألا وهو تقسيم القارة إلى شمال إفريقيا وإفريقيا جنوب الصحراء. هذا تقسيم اصطناعى وتفريقى، وهو فى أفضل الأحوال، وإن أحسنا الظن، ينمُّ عن جهل بالعلاقات بين أقاليم إفريقيا المختلفة. تاريخيا، لم تكن الصحراء حدا طبيعيا ولا حاجزا يفصل أصحاب البشرة الخمرية فى شمال القارة، المختلطين سوادا وبياضا، بأصحاب البشرة السوداء، إلى جنوبهم. بل إن البلاد التى يغلب على سكانها أصحاب البشرة الخمرية، من موريتانيا والمغرب إلى مصر، فى جنوب كل منها كلها، أصحاب بشرة سوداء. الصحراء الكبرى امتداد وهى كانت على مر التاريخ معبرا بين أقاليم وسط القارة وغربها وشمالها، وبين شرقها وغربها. درب الأربعين من أسيوط مرورا بالواحات والسودان وصولا إلى مالى وغانا فى غربى القارة حمل البشر والبضاعة والثقافات فى الاتجاهين. لم يندثر الطريق، أو يغمره التراب، إلا عندما أقام الاستعمار علاقات رأسية بين الاقتصادات الإفريقية وإمبراطورياته الأوروبية، لتخدم اقتصاداته هو، عوضا عن التبادل والتلاقح بين أقاليم القارة. فى النظرية البنائية فى العلاقات الدولية، باتخاذك لأطر تحليلية واعتناقك لمفاهيم وتكرارها فى كتاباتك وأحاديثك وسياساتك، أنت تبنى ما يصير النظر إليه على أنه «حقائق» وما هو بذلك.
***
سياسة القضاء على التمييز العنصرى، الضرورية تماما أخلاقيا ومصلحيا، لا بد أن تستند إلى تغيير فى النظرة إلى إفريقيا على أنها منقسمة إلى اثنين وأن تسهم فى الوقت نفسه فى تحقيق هذا التغيير. لعل رئاسة مصر للاتحاد الإفريقى فى سنة 2019 تكون فرصة لرسم هذه السياسة وللبدء فى تطبيقها والترويج لها فى قارتنا.
مما يمكن أن تتشكل هذه السياسة؟ تدابير فى سياسات التعليم والاتصال والتعاون الدولى والمجتمع المدنى، وغيرها، يمكن أن تستكمل إجراءات السياسة الخارجية فى القضاء التدريجى على العنصرية فى المجتمع.
الخبراء فى كل من هذه السياسات أعلم بكيفية صياغة التدابير المطلوبة فى كل منها. نكتفى هنا بطرح أمثلة على هذه التدابير. فى السياسة التعليمية ومنذ المرحلة الابتدائية وحتى الثانوية ينبغى أن تشمل مقررات اللغة العربية والعلوم الاجتماعية مفاهيم المساواة ومكافحة التمييز والاهتمام بإفريقيا وجغرافيتها وتاريخها. علم الأحياء لا بد أن يدرس فيه فراغ ادعاءات التفوق العنصرى المتدثرة بعباءات شبه علمية. دراسة الجينوم كشفت عن وحدة الجنس البشرى وكذبت تماما أى ادعاء يخالفها. وبالمناسبة مكافحة التمييز العنصرى فى مصلحتنا المباشرة، فالمصريون والأفارقة الذين يسكنون فى شمال القارة، خاصة العمال منهم وهم الأغلبية، يعانون هم أيضا من آيات من التمييز فى بلدان الشمال بسبب لون بشرتهم الخمري! مكافحة التمييز العنصرى فى بلداننا هو مكافحة للتمييز ضدنا فى بلدان غيرنا. فى التعليم العالى، لا بد من التفكير فى إنشاء دراسات للعنصرية ومكافحتها، من جانب، وفى التوسع فى الدراسات الإفريقية، من جانب آخر. يوجد معهد للدراسات الإفريقية فى جامعة القاهرة. لا بد من تدعيم هذا المعهد من جانب، وإنشاء غيره وكذلك مراكز للبحث فى الشئون الإفريقية فى عدد من الجامعات المصرية، من جانب آخر. البحث يجب أن يشمل ليس فقط علاقاتنا ببقية الأقاليم والبلدان الإفريقية وإنما كذلك ما تعانيه هذه الأقاليم والبلدان من مشكلات سياسية وما يعترض تنميتها من عوائق فى مجالات الزراعة، والمياه، والصناعة، وغيرها. معاهد البحث والدراسات الإفريقية ومراكزها يمكن أن تستضيف أساتذة من البلدان الإفريقية المختلفة يلقون المحاضرات ويجرون الأبحاث مع زملائهم المصريين. سياسة الاتصال تشمل إجراءات موجهة للصحفيين وأخرى للعاملين فى المجالات الفنية. يمكن تنظيم دورات تدريبية للصحفيين الشباب والأقل شبابا فى مكافحة العنصرية وفى التعرف على قارتهم الإفريقية. للمؤلفين وكتاب السيناريو والمخرجين والممثلين يمكن تنظيم دورات شبيهة وإنشاء جوائز للأعمال الفنية التى تكافح العنصرية بشكل مؤثر دون أن يكون مباشرا أو قائما على الوعظ. سياسة التعاون الدولى يمكن أن تزيد بشكل ملموس من أعداد الطلبة الأفارقة فى الجامعات المصرية. الإنسان يخشى ما ومن يجهله ويميز نفسه عنهما. الاحتكاك المتزايد بالطلاب الأفارقة من شأنه بيان المشترك بيننا. لنا فيما تفعله المغرب وتونس لاجتذاب الطلاب الأفارقة أسوةٌ. فى إفريقيا جامعات جيدة فى أوغندا وجنوب إفريقيا وغانا والسنغال وغيرها. إرسال الطلاب والأساتذة المصريين إلى هناك ليتعرفوا على الدوائر الأكاديمية الإفريقية وليسهموا فى أنشطتها يمكن أن تسهم فيه سياسة التعاون الدولى. مجالات هذه السياسة فى إفريقيا امتدت إلى موضوعات تتعلق بالتنمية فيها فى العقد الماضى أو يزيد عليه ولكن هامش الحركة فى هذه المجالات ما زال كبيرا كما أن ثمة مجالات أخرى يمكن الخوض فيها. سياسة المجتمع المدنى يجب أن تشجع المنظمات غير الحكومية المصرية على التحرك لأغراض إنسانية وتنموية فى مختلف أقاليم القارة. نشدد على أن يبتعد التحرك عن الاعتبارات السياسية والأمنية، فهذه الاعتبارات تجهض المبتغى منه. التحرك الإنسانى والتنموى هو الذى سينشئ علاقات إنسانية بين المصريين وأبناء قارتهم فيكافح العنصرية ويسهم فى تحقيق أهداف السياسة الإفريقية لمصر. السياسة والأمن هما الهدف، ولكن الوسيلة الناجعة هى التحرك الإنسانى والتنموى. لعل تعديل قانون العمل الأهلى الجارى بحثه حاليا ينتبه إلى التحرك الخارجى لمنظمات المجتمع المدنى ويسهم فى تيسيره.
العنصرية وصمة نعانى منها نحن والقضاء عليها واجب أخلاقى تجاه أنفسنا. والعنصرية تعرقل السياسة الإفريقية لمصر. مكافحتها ضرورية من أجل تحقيق المصالح العليا للبلاد.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة