كأننى كنت على موعد جديد مع الأستاذ «محمد حسنين هيكل» فى بيت برقاش، الذى استمد صيته من اجتماعاته ورواياته وأسراره والحملات عليه، التى وصفته فى آخر سنوات حكم الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» بـ«العاصمة الموازية».
قبل أربع سنوات فى (17) فبراير (2016) رحل صاحب البيت، المكان فقد روحه وإن استعاد أغلب هيئته التى كان عليها قبل أن يتعرض للإحراق والتخريب صباح الأربعاء (١٤) أغسطس (2013) عند فض اعتصامى «رابعة العدوية» و«ميدان النهضة».
فى ذلك اليوم الدامى قرب الظهيرة اقتحمت مجموعات مسلحة بوابته الرئيسية، التى لا يوجد عليها ما يشير إلى صاحبه، بعد أن أحرقت بزجاجات المولوتوف حديقته الأمامية.
أخذت تدمر كل ما فيه من أثاث ولوحات وذكريات، أحرقت حدائقه بأشجارها ونباتاتها، واستحال البيت أطلالًا بتفجيرات أنابيب غاز.
لم تكن هناك شرطة تردع، فمقراتها تعرضت لاعتداءات فى موجة عنف شملت دور عبادة وعدالة ومنشآت عامة ومبانى حكومية.
لم يكن فى علم الذين خططوا لإلحاق الأذى المادى والمعنوى بصاحب البيت أن الخسائر أفدح مما تصوروا.
«أول ضربات الكوارث أن الكتلة الرئيسية من الكتب النادرة والوثائق التاريخية، التى لا سبيل لتعويضها راحت» ــ على ما قال فى اليوم التالى واصفًا النتائج المروعة.
بعد كل هذه السنوات أرادت رفيقة عمره السيدة «هدايت تيمور» أن تستعيد شيئا من ذكريات الماضى فى عين المكان بعد أن أوفت، أو كادت، بالعهد.
رغم حرصه البالغ على خصوصية حياته العائلية، إلا أن كل من اقترب منه يكتشف دون عناء الدور المحورى الذى لعبته فى صياغة ظاهرته الفريدة، وقفت معه تحت كل الظروف واختفت تقريبًا عن أى أضواء.
فى برقاش امتد الحوار إنسانيا وحميما حول رجل رحل قبل أربع سنوات، أخذت تستعيد قصة زواجهما بأدق التفاصيل، اللقاء الأول والمشاعر الأولى.
«حبيبتى هدايت.. عندما تقرأين ما كتبته أكون قد عبرت الجسر ما بين الحياة والموت».
هكذا بدأ وصيته التى كتبها عام (1997) ووجدت أن مهمتها فى الحياة إنفاذ كل حرف كتبه.
أودعت (17) ألف كتاب فى مكتبة الإسكندرية وفق بروتوكول خاص وقعته مع مديرها الدكتور «مصطفى الفقى» وتولت الإشراف بنفسها على فرز ما تبقى من أوراق ووثائق نادرة حتى تطمئن أن كل شيء فى موضعه قبل إيداعه فى المكتبة حقا أصيلا للذاكرة الوطنية.
(1)
كل شيء فى برقاش عاد إلى حاله القديم باستثناء البيت الكبير، الذى كان يحتوى المكتب الذى يعمل فيه، لقد دمر بالكامل، أثاثه ولوحاته التشكيلية الأصلية وبقت منه جدرانه بعد أن أزيلت عنها آثار الحريق.
أنت أمام هياكل بيت انقضت أيامه واجتماعاته وقصصه وأسراره، غرفة مكتبه مساحة خالية تكاد تقتحمها أعشاب الحديقة التى تركت دون تهذيب لسنوات طويلة لعلها تخفى المأساة.
لم يكن بمقدور السيدة قرينته أن تأتى معى لتفقد البيت الكبير، أعصابها لم تكن تحتمل أن تراه أطلالا لذكريات انقضت.
هو نفسه رفض أن تنشر صور التخريب، لم يرغب أن يرى الناس البيت عاريا، هكذا قال.
(2)
لنحو سبعين عامًا متصلة عمل على حفظ ما يصل إليه من وثائق، بعضها لم يكن من اليسير الوصول إليها، وبعضها الآخر لم يكن ممكنًا لغيره أن يحصل عليها.
النيران التهمت عشرات الآلاف من الوثائق والمحاضر والأوراق، أو أغلبها، بينها مجموعات الوثائق المصرية، التى تستغرق بالأساس الفترة ما بين ثورة يوليو (١٩٥٢) وحرب أكتوبر (١٩٧٣)، وهذه لا يمكن تعويضها على أى نحو وتحرم الباحثين والمؤرخين من فرصة الإطلال على التاريخ المصرى الحديث عبر وثائقه المؤكدة.
«الخسارة أكبر من أن يتصورها أحد» ــ هكذا قال وهو ينظر أمامه محاولًا أن يخفى أحزانه القاسية.
كان الألم باديًا على وجهه، لكنه لا يفصح ولا يشكو.. عوّد نفسه على مدى عقود أن يكون عقلانيًا، أن ينظر إلى الحدث من خارجه، حتى لو كان متعلقًا بأعز ما يملك.
حاول بقدر ما يستطيع إنسانيًا أن يعتبر ما حدث قد حدث، أن ينسى أنه فى لحظة واحدة نجحت حالة بربرية فى حرق تراث هو بطبيعته ملك لأجيال قادمة من حقها أن تعرف بالوثائق قصة ما جرى، وأن تكون لها قراءاتها الخاصة.
من حسن الحظ أن هناك وثائق نادرة أفلتت من الحرائق قد يكون بينها ما اعتقدنا أنها قد دمرت وراحت، الأمر يحتاج إلى مراجعة تفصيلية لمعرفة ما الذى دمر وراح وما الذى بقى من وثائق ومستندات وتسجيلات نادرة.
بين ما يستحق المراجعة التفصيلية مجموعة تسجيلات لشخصيات لعبت أدوارًا جوهرية فى التاريخ المعاصر، ولم يسبق أن نظر أحد فى نصوصها المثيرة مثل ما سجله بصوته لـ(15) ساعة كاملة «حسن يوسف» (باشا)، الذى كان وكيلًا ثم رئيسًا للديوان الملكى على عهد الملك «فاروق» أودع فيها شهادته على ما رأى وعاين، طالبًا ألا تنشر وهو على قيد الحياة، ولا تخرج لأحد إلا بعد عدد من السنين، وفق اتفاق أبرم بينهما عام (١٩٧٧) بحضور «عبدالفتاح عمرو» (باشا) سفير العهد الملكى فى لندن.
وبينها تسجيلات تولاها القصر الملكى وحاول أن يستخدمها للإساءة إلى سمعة زعيم الوفد «مصطفى النحاس» (باشا)، قال إنه سوف يحرقها ولن يتركها بعده ولا بد من إنفاذ وصيته.
وبينها تسجيلات تحفظ مناقشات مستفيضة مع الفيلسوف الفرنسى «جان بول سارتر» وصديقته الروائية «سيمون دى بوفوار» لم يتسن نشر فحواها ونصوصها من قبل، فكر فى ترجمتها عن الفرنسية فربما تجد الأجيال الجديدة إطلالة مختلفة على الأفكار التى سادت العالم فى ستينيات القرن الماضى بأحلامها الكبيرة وتراجعاتها المدوية.
وبينها نصوص أصلية بخط يد «جمال عبدالناصر»، ونصوص خطية أخرى لمراسلات «مصطفى كامل» إلى السلطان العثمانى والخديو «عباس حلمى»، ومراسلات للورد «كرومر» المعتمد البريطانى إلى أهله، ومراسلات من نوع آخر تبادلها مع الفيلسوف «برتراند رسل»، والفيلد مارشال «مونتجمرى» بطل معركة «العلمين»، والرئيس الإيرانى الأسبق «محمد خاتمى» حول حوار الحضارات، ومراسلات متبادلة لها طبيعة مختلفة مهنيًا وإنسانيًا مع ألمع نجوم الصحافة العالمية فى القرن العشرين على رأسهم كاتب الـ«نيويورك تايمز» الأكبر «والتر ليبمان»، ورئيس مجلس إدارة «التايمز» البريطانية «دينيس هاميلتون»، ورئيس التحرير المؤسس لـ«لوموند« الفرنسية «بف ميرى».. ومراسلات بين أستاذه «محمد التابعى»، وزميله «مصطفى أمين» أودعها الأول لديه لربما يحتاج إليها، لكنه لم يستخدمها أبدًا.
فوق ذلك كله ملفات موثقة عن قصة الإعلام العربى من بعد الحرب العالمية الثانية إلى الآن، قال ذات مرة: «أريدك أن تأخذها كاملة».
المؤكد أن كتلة يعتد بها من الوثائق النادرة أفلتت من الحرائق حيث كانت مودعة فى «كراتين» بغرف تجاور الحراسة الخارجية لم تلتفت إليها جيوش الظلام والتخريب.
(3)
كانت الكتلة الرئيسية من كتبه ووثائقه وتسجيلاته وأوراقه الخاصة مودعة فى «بيت الورد»، وهو مبنى قديم يعود إلى خمسينيات القرن الماضى، ويطل عليك وأنت قادم على طريق معبد برمال حمراء تحيطه خضرة من على جانبيه إلى حيث كان يجلس فى حديقته الواسعة، أو ينتظرك على مدخل مكتبه.
البيت على صورته القديمة أقرب إلى الطرز المعمارية للأكواخ السويسرية أطلق العاملون فى المزرعة عليه هذا الاسم لقربه من حديقة صغيرة تظللها «بيرجولا» تحتها مقاعد خشبية يحيطها الورد من كل جانب.
المبنى الذى قضى عليه أعيدت له هيئته الأولى بقدر ما هو ممكن، أحجاره أزيلت عنها آثار الحرائق، غير أن الذخائر التى كانت مودعة فيه لا سبيل إلى استعادتها أو تعويضها.
بيت الورد استضاف بأوقات متقاربة فى ستينيات القرن الماضى الزعيمين اللاتينى «تشى جيفارا»، والفلسطينى «ياسر عرفات»، كلاهما بدا محتاجًا لوقت يخلو فيه إلى نفسه يتأمل أفكاره وخطواته التالية.
«جيفارا» مر بالقاهرة، واطلع على التجربة المصرية وبدا منبهرًا بما رأى من التفاف الجماهير حول «ناصر».
وكان قد عقد عزمه على الاستقالة من منصبه الوزارى فى الحكومة الكوبية، فهو لا يجد نفسه فيه.
شيء ما قلق داخله دعاه إلى مغادرة السلطة إلى الثورة والنفوذ إلى السلاح، فكر أن يذهب إلى إفريقيا، ولم يتحمس «جمال عبدالناصر» للفكرة وقال له: «سوف يظنونك طرزانًا جديدًا».
ذهب إلى دول أخرى فى أمريكا اللاتينية حتى لقى مصرعه فى أحراش بوليفيا.
قصة «عرفات» فى «بيت الورد» تختلف وطبيعة الرجلين تختلف.
كان التقى للتو «جمال عبدالناصر»، وصاحب البيت هو الذى فتح الأبواب المصرية أمامه وقدمه للرئيس فى أجواء ما بعد النكسة وصعود منظمات الكفاح المسلح الفلسطينية، وكانت «فتح» أكبرها وأقواها.
بصورة مفاجئة أبلغ ثلاثة من قيادات «فتح» هم «ياسر عرفات»، و«أبوإياد»، و«فاروق قدومىس، طلبوا أن يساعدهم فى مد الجسور مع القاهرة، إنه سوف يصحبهم بسيارته الخاصة للقاء شخصية مهمة.
كانت المفاجأة أنه «جمال عبدالناصر»، الذى لخص موقفه فى جملة واحدة: «أريد أن أسمع طلقة واحدة تدوى كل يوم فى الأرض المحتلة».
فى تلك الأيام من أكتوبر (١٩٦٧)، بأجوائها الملبدة، تبدت حسابات جديدة على الساحة الفلسطينية، وكان قائد «فتح» فى حاجة لوقت يبتعد فيه عن صخب التحولات والصراعات ليحسم بدوره خطواته التالية وقيادة منظمة «التحرير الفلسطينية» توشك أن تؤول إليه.
فى ذاكرة المكان حواراته مع الرئيسين «جمال عبدالناصر» و«أنور السادات»، وكلاهما ــ على ما كان يروى دائمًا لضيوفه ــ له مكان يفضل أن يجلس فيه.
«عبدالناصر» فى «تراس بيت الورد»، أو على سور منخفض أمامه.
و«السادات» فى الحديقة المفتوحة.
وفى ذاكرة المكان لقاءات مع رؤساء وملوك وأمراء وقادة فكر وصحفيين وفنانين من أجيال مختلفة، من بينهم الرئيس الفرنسى الأسبق «فرانسوا ميتران»، الذى خاطب «السادات» للإفراج عنه بعد اعتقاله فى حملة سبتمبر (١٩٨١)، التى أفضت تداعياتها إلى حادث المنصة.
للمكان أسراره، والأسرار أودعت على ورق، بعضها نشر، وبعضها الآخر قرر أن يحفظه للأجيال القادمة، لعلها ترى فيها ما يستحق قراءة التاريخ من جديد، لكن كانت للأقدار كلمة أخرى.
(4)
لم يكن يعرف أحد أين وثائق «هيكل» حيث أحاط سره وراء ستائر كثيفة من الكتمان، باستثناء عدد محدود للغاية بمقتضى الحاجة إلى أدوارهم، أبرزهم سيدة تعمل فى مكتبه شبه مجهولة لمن يترددون عليه.
عند افتراق الطرق مع الرئيس «السادات» عام (1972) انتابته مخاوف من الوصول إلى وثائقه وأوراقه، أعطى انطباعا قويا للجميع، دون استثناء، بأنها مودعة فى الخارج حتى لا يخطر ببال أحد فى السلطة العليا على مدار العقود أنها هنا على مرمى بصر زواره فى برقاش.
ذات يوم أوشك أن يبيح لى بسر الأسرار فى حياته.
قاطعنى مبتسما وأنا أتحدث عن مأمن وثائقه فى لندن قائلا: «ليست فى لندن».. «هذا كلام شائع لكنه ليس صحيحًا»، «أريدك أن تتأكد أنت بالذات من أنها ليست فى لندن».
كانت تلك نصف مصارحة لم يستكمل نصفها الآخر، ربما جال فى خاطره لحظتها بيت شعر قديم يحفظه ويستعيد حكمته دوما: «إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه.. فصدر الذى يستودع السر أضيق».
خامرتنى ظنون أنها قد تكون فى مأمن أوروبى آخر، حتى اكتشفت ما لم يخطر ببال أحد، أنه كان يحفظها طوال الوقت داخل بيت الورد، لم تتحرك كتلتها الرئيسية من موضعها يوما، وما يستدعيه من وثائق وأوراق يعود إليها، حتى جرى النيل منها.
اتجه تفكيره مرة بعد أخرى، عقدًا بعد آخر، أن يكون مستقرها الأخير فى مؤسسة مصرية مثل «جامعة القاهرة»، أو «دار الكتب»، لكنه لم يكن مطمئنًا إلى أنها سوف تكون بعيدة عن انتقام السلطات، أو محاولات تخريبها.
فكر فى الاستجابة لدعوة من مؤسسة «الأهرام» لاستضافة ذخائره من وثائق وأوراق، وجرت اتفاقات عصفت بها تغييرات فى رئاسة المؤسسة العريقة، ولم يكن يريد أن يضع ما لديه فى مهب التحولات.
مع أسبابه للقلق على سلامة الأوراق والوثائق كتب وصية فى عهدة قرينته سجل فيها بالتفاصيل ما يتعين فعله عند نقلها والضمانات الضرورية لحفظ أمانتها إلى أجيال جديدة.. غير أن ضغوطًا تصاعدت عليه من مقربين وأصدقاء وداخل أسرته دعته أن يحسم موقع مؤسسته ومستقر أوراقه ووثائقه الأخيرة فى حياته ولا يحيل عبء مسئوليتها لمن بعده.
فى نوفمبر (٢٠٠٥) تصور أن هناك فرصة لعودة أوراقه ووثائقه إلى مقرها الطبيعى فى القاهرة، هكذا صاغ وصرح حتى يحكم مغاليق سر برقاش.
تحدث طويلا وصادقا عن ضمانات سلامة وثائقه، وموضع استقرارها الطبيعى دون أن يخطر ببال أحد أنها هنا فعلا.
خفتت مخاوفه رغم انتقاداته المطردة للحكم، التى زادت درجة حدتها منذ محاضرة الجامعة الأمريكية الشهيرة فى أكتوبر (٢٠٠٢)، إذ بدت السلطة مشغولة بما بعد رئيسها وهاجسها مشروع التوريث والتاريخ بوثائقه لا يعنيها.
بصياغته: «لم أعد معتقدًا أن ورقى مطارد».
استقر تفكيره على إيداعها (نقلها فى حقيقة الأمر من برقاش) فى مؤسسة تحمل اسمه وذهب إلى نقابة الصحفيين لاستئجار دور كامل يخصصه لوثائقه وأوراقه وظنه أنها سوف تكون متاحة أمام الأجيال الجديدة من الصحفيين عند ترددهم على نقابتهم، لكنه بعد أن قام بتسديد قيمة التعاقد تنازل عنها للنقابة التى ينتسب إليها وتراجع عن الفكرة، خشية أن يجد أوراقه ووثائقه وكتبه فى مرمى الاشتباكات المتكررة بمحيط شارع «عبدالخالق ثروت»، الذى يضم إلى نقابة الصحفيين نقابة المحامين ونادى القضاة.
بعد ثورة «يناير ٢٠١١» أعلن أنه قرر أن تكون «برقاش» مقرًا لمؤسسته، استمع لما عرض عليه من «أصحاب الحق فى الإرث» مدركًا «أن المسألة أكبر من أن تكون تركة أو إرثا»، لكن العرض دعاه أن يحسم موضع الوثائق والمؤسسة معها متصورًا أن «المكتبة ينبغى أن تظل فى مكانها ببيت الورد لا تنقل لمكان آخر».
هكذا قال بالحرف فيما أخفى الجزء الأهم من الحقيقة، سره الكبير، أن تظل الوثائق والأوراق فى مكانها لا تنقل لمكان آخر.
بدأ يخضع بيت برقاش لتخطيط جديد، يكون فيه «بيت الورد» مستقرًا للكتب والوثائق وتشرف عليه نخبه تتوافر فيها القدرة على إدارة المؤسسات الدولية من هذا النوع، وأن يخصص الدور الأول فى البيت الكبير الأحدث والأوسع لزوار المؤسسة ويحتضن الدور الثانى الخبراء والباحثين.
أعدت التصميمات لإحالة مزرعة «برقاش» كلها إلى الخدمة العامة ووضعت الوقفية، (5) ملايين دولار، تحت تصرف المؤسسة والقائمين عليها.
رغم ذلك انتابه قلق من المكان عندما طلب أن ينظر فى صور «جوجل إرث» للمنطقة المحيطة.
«لم تكن الصور مطمئنة وحزام القلق الاجتماعى ظاهر عليها».
لكنه طمأن نفسه بأن «المنارات الفكرية فى أحزمة القلق الاجتماعى تكسبها شيئًا من التنوير وإطلالًا مختلفًا على عوالم جديدة».
ما إن بدأ يطمئن إلى اختياره الأخير الذى قطع فيه زمنًا طويلًا، حتى فاجأته جحافل الظلام تنقض بقسوة لم يتحسبها ولا خطرت على باله فى أكثر الاحتمالات سوداوية وتشاؤمًا.
تصدق فى قصة وثائقه وأوراقه الحكمة العربية المتوارثة «الحذر لا يمنع قدر».
(5)
فى أثناء بحثه عن مستقر آمن لما لديه عرضت عليه جامعة «أوكسفورد» شراء مجموعة أوراقه، التى تضم وثائق مهمة للدولة المصرية فى عهدى «جمال عبدالناصر» و«أنور السادات» لتضمها إلى مكتبتها.
من تقاليد الجامعة البريطانية العريقة السعى وراء مجموعات الوثائق والأوراق الخاصة لشخصيات دولية لعبت أدوارًا بارزة فى التاريخ الإنسانى المعاصر، بما يضفى قيمة مضافة على تلك المكتبة.
وقد قدرت «أوكسفورد» قيمتها بـ(٣) ملايين جنيه إسترلينى، غير أنه اعتذر عدم عن قبول هذا العرض شاكرًا لأصحابه فضل الاهتمام والتقدير بما لديه من وثائق وأوراق شخصية، وكان اعتقاده أن مصر، وليس بلدًا آخر غير مصر، المكان الطبيعى والمستقر النهائى لوثائقه وأوراقه، حسب نص اعتذاره.
فى الأوراق الخاصة ما يكشف عن طرائق التفكير، وفيها أسرار أخفاها كاتبها وأحكام لم يفصح عنها، لكنه قرر أن يتركها على النحو الذى كتبت به أول مرة لمن يأتى بعده من باحثين ومؤرخين وصحفيين يدققون فى الأصول الخام ويطابقونها بما نشر فعلًا فى مقالات وكتب.
تلك مسألة ليست باليسر التى تبدو عليها، فالأوراق الخاصة سر صاحبها، وقد تستخدم ضده: لماذا أغفل نشر معلومات وردت فيها.. وكيف تباينت الصياغات الأولية مع ما هو منشور.. ومدى تأثير الانحيازات الشخصية على الصياغات والرؤى والرواية كلها؟
قرر أن يترك كل شيء للتاريخ يحكم بما يحكم به، قبل أن تحرق الكتلة الرئيسية من تلك الأوراق الخاصة.
فى وقت لاحق التفت إلى سجالات صاخبة حول «أوراق بوب وودورد»، ألمع الصحفيين الأمريكيين المعاصرين، نالت على نحو فادح من صدقيته المهنية.
كان «بوب وودورد» قد باع بـ(٥) ملايين دولار أوراقه، التى صاغ على أساسها كتابه الأشهر «كل رجال الرئيس» عن سقوط الرئيس الأمريكى «ريتشادر نيكسون» بتداعيات فضيحة «ووتر جيت».
بدا لباحثين فى الأوراق ومنقبين فيها أن ثمة تناقضات ومعلومات جرى التلاعب بها انتهكت سلامة روايته وقوضت أسطورته الخاصة.
كل ما نشر فى الصحافة الغربية عن «أسطورة بوب وودورد التى تهاوت» أودعه داخل «دوسيه أحمر» تكرم بإرساله لى.
لم يكن مرتاحًا لفكرة «بيع الأوراق الخاصة»، لكنه بدا مستعدًا أن يواجه الاختبار ذاته.. بلا إغراء مال أو إغواء بيع، واثقًا أن التنقيب فى أوراقه وأصول تفكيره ينصفه فى التاريخ.