لقد ظلت الثورة كامنة فى نفوس الشعب المصرى فى القاهرة، لكن الصمت لم يطل فسرعان ما انفجر بركان الغضب أسرع مما كان يتوقع بونابرت ورجاله؛ ففى 21 أكتوبر سنة 1798 أى بعد أقل من أربعة أشهر على بداية الحملة هب أهالى القاهرة فى ثورة قوية ضد الاحتلال الفرنسى، عُرفت فيما بعد بثورة القاهرة الأولى.
وقد كانت الأسباب المباشرة لهذه الثورة هى الضرائب الفادحة التى أخذت الحملة تفرضها على المصريين، ثم قرار قيادة الحملة بمصادرة بعض الأملاك وهدم المبانى وإزالة أبواب الحارات، بالإضافة إلى أسلوب القمع الذى اتبعته الحملة مع المصريين فى الأقاليم المختلفة ووصلت أخباره إلى القاهرة مع طلاب الأزهر.
وكان للثورة لجنة تديرها وتنشر دعوتها وتنظم صفوف المصريين فيها، وكان مقرها فى الأزهر، وانتخب لقيادتها الشيخ السادات، وأخذ دعاة الثورة يحرضون الناس على التمرد على الفرنسيين وشرعوا فى الوقت نفسه يثيرون الشكوك حول موقف كبار المشايخ المتعاونين مع الحملة ويتهمونهم بممالأة الفرنسيين حتى لا يستمع الجمهور لنصائحهم بالتهدئة.
وقد انضم المصريون من كل الطبقات والفئات إلى صفوف الثورة، فشارك فيها شيوخ الأزهر وطلابه، كما شارك فيها التجار والحرفيون بالإضافة إلى بعض الفلاحين من ضواحى القاهرة؛ ولنرى ما رواه شاهد عيان من ضباط الحملة الفرنسية فى وصف الساعات الأولى من الثورة؛ قال:
«21 أكتوبر سنة 1798 الساعة السادسة صباحا احتشدت الجموع فى عدة أحياء من القاهرة، وعلت أصوات السخط والاستياء، وأخذ الناقمون يعددون أسباب سخطهم، وصاح المؤذنون على مآذنهم ينادون نداءات مثيرة للخواطر، وانثال الناس مسلحين بالبنادق والعصى يقصدون الاجتماع فى صعيد واحد، ثم أقفلت الدكاكين. وفى نحو الساعة الثامنة صباحا علم الجنود الفرنسية بهذا الشيء فتأهبوا للقتال، وكان القائد العام مطمئنا لموقفه فركب جواده وصحبه من القواد كافاريللى ودومارتان وكنت معهم، وذهبنا نتفقد استحكمات مصر القديمة وجزيرة الروضة، وفى نحو الساعة العاشرة جاءه الخبر أن القتال قد بدأ فى المدينة، وإن إناسا قتلوا من الفريقين، وإن الجنرال ديبوى قومندان القاهرة ضمن القتلى، صرعه الثائرون برمية سهم نفذت إلى صدره، وكان فى كتيبة من الفرسان ذهب القتل بكثير منهم». وإذا كانت مدافع الفرنسيين قد نجحت فى قمع الثورة بعد أيام قليلة من اشتعالها، فإن روح المقاومة ظلت كامنة فى نفوس المصريين تتفجر بين الحين والآخر إلى أن رحلت الحملة عن مصر فى عام 1801 بعد ثلاث سنوات قضتها فى البلاد.