على سبيل التذكرة، فإن عدة مقالات تم تخصيصها فى هذه المساحة لمناقشة تراجع الكثير من المجتمعات المسلمة فى مسارات التحضر الست: مسار التنظير والتفكير والابتكار، ومسار الحكم والسياسة وإدارة الدولة.
ومسار الأخلاق والمبادئ والقيم، ومسار العلم والتكنولوجيا والقدرة على الابتكار، ومسار الإنتاج والثروة والتراكم الرأسمالى، ومسار الصراع والسلاح وإدارة الحروب.
وقد يكون من المفيد مناقشة قضية الأخلاق والمبادئ والقيم والتى هى فى الأصل مفاهيم دوارة ينفذ بعضها إلى بعض. فالأصل فى الأمور أن الأخلاق هى مجموعة من المبادئ والقيم التى يلتزم بها صاحبها بغض النظر عن العائد المادى أو المعنوى المرتبط بها. بل إن قمة التزام الإنسان بالأخلاق يتجلى فى أن يلتزم المبدأ حتى وإن تعارض مع المصلحة.
ولكن من وظيفة النظام السياسى والإدارى فى أى دولة ألا تجعل الإنسان يختار بين المصلحة والمبدأ وإنما تجعلهما معا اختيارا واحدا فيصبح الخيار الأخلاقى هو الخيار العقلانى وتجعل من الفساد اختيارا غير عقلانى، ولنأخذ مثالا على ذلك. فلو خالفت إشارة المرور فى الولايات المتحدة فسيستوقفنى ضابط الشرطة ليعطينى مخالفة عادة فى حدود المائة دولار. فلو قررت أو قرر الضابط أن يتصرف على نحو غير أخلاقى، فسيجد كل منا أنه يتصرف على نحو غير منطقى ولا يخدم مصلحته.
فمثلا لو قررت أن أدفع له رشوة فلا بد أن تكون أقل من المائة دولار قيمة المخالفة. ولكن هل سيقبل هو؟ الإجابة: لا، لأنه ليس من العقلانية له أن يختار الفساد لأن مبلغ المائة دولار أو ما دونها أقل كثيرا مما يغريه لأنه يحصل سنويا على راتب فى حدود 60 ألف دولار وامتيازات صحية وتأمينية أخرى سيفقدها جميعا إن ثبت أنه حصل على هذه الرشوة.
إذن فالنظام مصمم على نحو يجعل من الغباء أن تكون فاسدا. وسيصبح الفساد خيارا عقلانيا، كما هو الحال فى مصر مثلا، حين يكون راتب الموظف العام ضعيفا لدرجة تجعله يبحث عن المبررات كى يتصرف على نحو غير أخلاقى. فلو كان راتب الضابط الأمريكى 20 ألف دولار فى السنة والمخالفة مائة دولار.
هنا سيكون الفساد بديلا مبررا عقلانيا ويستحق المغامرة فى ضوء ضعف راتب الضابط. وكذا لو كان راتبه فى حدود الـ60 ألف دولار سنويا لكن قيمة المخالفة 1000 دولار، فساعتها قد يقبل رشوة مقدارها 500 دولار مثلا لأن قيمتها تستحق المغامرة حتى مع راتبه الكبير نسبيا.
وكذا الأمر مع الفساد المالى والسياسى والذى يودى بصاحبه إلى السجن أو إلى الإقالة لاسيما مع تداول المناصب الإدارية والسياسية والتى يكون معها المسئول الجديد غير راغب أو مستعد لأن يتحمل أخطاء السابقين فيكشف فسادهم إن وجد كى يبرئ ساحة نفسه.
كل ما سبق يؤكد أن من وظيفة النظام السياسى أن يدعم الأخلاق وأن يجعلها اختيارا عقلانيا بأن يوفر لمواطنيه فرصا حقيقية تجعل المرء يعمل لله وللوطن وللحياة الكريمة دون أن يجد الحاجة للاختيار بينهم. وهذا ما فشل فيه كثير من مجتمعاتنا.
وللموضوع أساسه الفلسفى حيث هناك مصادر أربعة رئيسية للإلزام الخلقى، لا بد أن تتكامل لتنتج مجتمعا أخلاقيا، وهو ــ للأسف ــ ما فشلت فيه الكثير من مجتمعاتنا ذات الأغلبية المسلمة، مع نجاحات مهمة فى حالات استثنائية.
أما مصادر الإلزام الخلقى هذه فهى على النحو التالى: أولا العقل، فعقل الإنسان يجعله يفكر فى أنه من مصلحته المباشرة أن يلتزم بالمبادئ التى لو خالفها، فسيخالفها الآخرون حتى لا يقع فريسة لبطش من هو أقوى منه. وبالتالى أنا لا أركن سيارتى أمام مدخل البيت الذى بجوارى لأننى لو فعلت ذلك فقد أعطيت فرصة لغيرى أن يركن سيارته أمام مدخل بيتى. وهكذا لو رفعت صوت الموسيقى من بيتى، فهذه رخصة للآخرين بأن يفعلوا المثل، ولما ارتاح مريض قط. ورائد هذه المدرسة بامتياز فى الفكر الغربى كانط وقد سبقه فى الفكر العربى ابن رشد وابن سينا.
وهناك مدرسة ثانية ترى أن المصدر الرئيسى للإلزام الخلقى هو المجتمع. فحينما يتراضى مجتمع ما على مجموعة من القيم والمبادئ فإنها تصبح أخلاقه بمثابة الهواء الذى يتنفسه، فلماذا لا أذهب إلى الجامعة بلباس النوم الرجالى على الرغم من أنه يستر كامل العورة؟ لأن المجتمع تراضى على أن ملابس النوم للمنزل وليست للعمل. وهكذا، فحينما يسرى فى مجتمع ما ثقافة ختان الإناث مثلا فإن المجتمع يجعل من هذه العادة خلقا من يحيد عنه فقد أخطأ.
ويرى أنصار هذه المدرسة أن قوة المجتمع أقوى من قوة العقل كمصدر للإلزام الخلقى إلا إذا كانت هناك قوة تملك أن تحول العقل وما يمليه إلى قوانين مكتوبة ونافذة فى المجتمع. وعليه فإن قال المجتمع بعادة ختان الإناث فإن العقل، مترجما فى قوانين الدولة وحسن إدارتها لأدواتها، يقف للمجتمع رادعا ومقوما. ومن هنا جاءت مقولة: «الحاكم المستنير».
فاستنارته لا تفهم إلا فى ضوء أنه لا يعتبر نفسه أسير المجتمع الذى يحكمه، وإنما هو مصلح له مستخدما سلاح العقل وأدوات الإكراه المشروع التى تملكها الدولة. وهو ما جعل فريدريك الثانى فى روسيا، وجورج واشنطن فى الولايات المتحدة، وأحمد بن طولون ومحمد على فى مصر أقوى من المجتمعات التى عاشوا فيه وكانوا إضافة لها حين غيروها.
بيد أن يحيى حقى أشار فى روايته العبقرية «قنديل أم هاشم» لقصة الدكتور إسماعيل الذى ذهب إلى الغرب ليتعلم طب العيون وعاد إلى بيئته التى اعتادت على علاج أمراض العيون بزيت القنديل، قنديل أم هاشم، تبركا وأملا فى الشفاء. وهنا كان الصراع بين مصدرين من مصادر الإلزام الخلقى: العقل ممثلا فى العلم، والمجتمع متمثلا فى الخرافة. وقد اصطدم العلم بالخرافة، وكاد الدكتور إسماعيل يفقد حياته ظنا من العامة أنه خرج عن الدين لرفضه استخدام زيت القنديل.
لكن العالم الحق حكيم يعرف أن من واجبات العلم أن يستوعب الخرافة ليقضى عليها. وقد فعلها بطل «قنديل أم هاشم» بأن وضع العلاج الطبى السليم فى زجاجات تشبه الزجاجات التى كان يضع فيها المخرفون زيت القنديل وأوهم الناس، أو هكذا فعل، أنه يعالجهم بزيت القنديل.
وحينما اطمأن الناس له، وللعلم الذى أتى به وللعقل الذى يمثله، كان عليه أن يصارحهم بأن علاجه الموضوع فى زجاجة الزيت ما هو إلا نتاج العلم والطب والمعرفة، وهكذا فإن للعلم بيئته التى تحترم العقل ابتداء، فمحاولة استخدام العلم فى علاج مشكلات مجتمع لا يحترم العلم، هى محاولة غير علمية بل غير عقلانية فى حد ذاتها.
إذن فالعقل كمصدر للإلزام الخلقى ينبغى أن يقود المجتمع، لكنه لن يفعل إلا إذا حكم وساد وسيطر على أجهزة الدولة والمجتمع معا حتى يواجه قرونا من الخرافة والغيبيات اللاإيمانية.
وقد لاحظت خللا بنفسى مع طلابى فى الجامعة حين أرى فيهم اتكالية ابتدعوها ونسبوها ظلما للإسلام. وقد كانت قضية «القوة التدميرية للحسد» مناطا للنقاش مع بعضهم. فتساءلت: هل من الممكن أن أنظر إلى مبنى شاهق نظرة حسد فيتحول إلى كومة من التراب؟ وهل يمكن أن نرسل إلى إسرائيل 100 حاسدة فيدمرنها بنظرات العين وكلمات اللسان؟
ولو كان هذا الاختراع مقبولا، فلماذا لم يكتشفه غيرنا من أبناء الحضارات الأخرى؟ الحسد موجود ونؤمن به كمرض من أمراض القلوب، كما نص القرآن الكريم، أما إذا لم يتبعه صاحبه بكيد وفعل يحول الشعور الذاتى إلى طاقة تدمر الآخرين فلا قدرة له على التدمير أو النيل منهم، وإنما يظل شعورا يأكل صاحبه، حتى وإن ساد فى ثقافة المجتمع ما يشير إلى غير ذلك. فيضع صاحب السيارة الجديدة خرزة زرقاء كى «تأخذ العين».
هذا يترك لمقال الأسبوع المقبل فرصة مناقشة المصدرين الآخرين مع تطبيقات مباشرة على أوضاعنا المصرية.