هل الشعب المصرى مريض نفسيا وذهنيا؟ أم هو عاقل متوازن يفعل ما يبدو منطقيا من وجهة نظر أفراده؟
من الصعب سؤال الناس فى مصر عن حقيقة أوضاعهم باستطلاعات رأى مثلا حيث إن المريض النفسى والذهنى عادة لا يعرف حقيقة مرضه بل ينكر هذا المرض أصلا لكنه يأتى من الأفعال ما يبدو غريبا مقارنة بآخرين.
يعنى مثلا هذا العزوف الغريب عن المشاركة السياسية، ولنأخذ انتخابات الشورى مثالا للمشاركة المدارة حكوميا أو التوقيع على مطالب الجبهة الوطنية للتغيير كمثال للعمل غير الرسمى، سنكتشف أنها أقل كثيرا من المتوقع والمأمول. بل حتى عدد المنضمين للأحزاب والجماعات السياسية فى مصر يؤكد أننا لسنا فى وضع طبيعى. يفخر قيادات الحزب الوطنى بأن عدد الأعضاء المسجلين نحو 3 ملايين و200 ألف. وحتى لو افترضنا أنه لا يوجد بينهم أحد انضم لأى غرض غير اقتناعه العميق بالإطار الأيديولوجى للحزب وللقائمين عليه، فهذا الرقم دليل فشل عميق فى الحياة السياسية المصرية.
هذا يعنى أن الحزب المسيطر على حياتنا السياسية لأكثر من 30 سنة، بما فى ذلك سيطرة شبه تامة على أجهزة الإعلام والتعليم والثقافة والتموين والبيروقراطية المدنية والعسكرية، لم ينجح فى أن يستقطب إلى صفوفه أكثر من 6 بالمائة من المصريين فوق سن الـ18 (أى نحو 50 مليون مصرى)، ومع ذلك يدعى البعض أن نسبة المشاركة فى الانتخابات الشورية (بالياء وليس بالباء) 30 بالمائة أى نحو 7 ملايين ناخب شاركوا فى الانتخابات.
إذن أين الخلل؟ أعتقد أن الخلل لا يكمن فى هذا الجيل من الأحياء فقط ولا فى التراث السحيق للفراعنة، وإنما هى مشكلة جيلية ترتبط بالتحولات الصادمة التى عاشها المصريون فى آخر مائة عام وقد أوضحت هذا المعنى فى بحث أكاديمى وفى عدة مقالات سابقة ولكن يكون من المفيد تركيز الفكرة بصراحة وصرامة أكبر عسى أن يكون فيها ما يفيدنا فى فهم هذه التناقضات التى نعيشها التى تعبر عن شرخ عميق فى الشخصية المصرية بحكم تعرضها لصدمات هائلة وأصبحت نتائجها جزءا أصيلا من الثقافة السياسية للمصريين. ويمكن رصد هذه الصدمات على مستويات أربعة.
أولا وعلى مستوى الهوية، وجد المصريون أنفسهم يتحولون بقرارات سياسية من «ولاية إسلامية» تتبع الخلافة العثمانية لأكثر من 450 عاما إلى دولة واقعة تحت الاحتلال البريطانى بالتعاون مع مجموعة من الملوك والزعماء الذين يجدون تحالفهم مع المحتل أنفع من تحالفهم مع زعماء الحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال، لتنتقل مصر إلى «زعيمة» الأمة العربية تقاتل باسمها ضد الصهيونية والإمبريالية فى أعقاب ثورة يوليو. وتأتى هزيمة 1967 لتفقد الثورة الكثير من شرعيتها، ثم يرفع انتصار 1973 الروح المعنوية للمصريين لكنهم يجدون أنفسهم، استيفاء لمتطلبات السلام مع إسرائيل، مطالبين بأن يضحوا بكل ما عاشوا من أجله فى السنوات الثلاثين السابقة من أجل استعادة الأرض؛ فبدلا من التفكير والتصرف كمسلمين أو كعرب كان عليهم أن يعيدوا «برمجة» أولوياتهم باعتبارهم «مصريين أولا» وأحيانا «مصريون وكفى» وأن يجد علماء الدين ما يبرر السلام مع إسرائيل من آيات القرآن وأحاديث الرسول (ص) بنفس البراعة التى كانوا يحمسون بها الناس للقتال والجهاد ضد العدو الغاصب. ومع كل صدمة من هذه الصدمات، يفقد المصرى جزءا من قدرته على تحديد هويته ومن ثم قضاياه الأولى بالتقديم.
وعلى مستوى بنية النظام السياسى الداخلى، ثانيا، فقد شهدت مصر تحولات هائلة من الملكية مع التعددية الحزبية على عيوبها ومجتمع مدنى نشط نسبيا إلى نظام ثورى يلغى الأحزاب ويؤمم الصحف ويجمد المجتمع المدنى ويطلق لفظة «البائد» على كل ما كان سابقا عليه، وقبل أن تستقر الأوضاع يرحل الرئيس عبدالناصر ويأتى الرئيس السادات ليسير على خط الرئيس عبدالناصر «بأستيكة» كما قيل.
لنجد أنفسنا نعود إلى حالة من التعددية الحزبية الشكلية التى استمرت حتى عهد الرئيس مبارك الذى تبنى مزيدا من الانفتاح الإعلامى مع ضبابية فى حدود الحرية وقيودها، والسماح بمجتمع مدنى أكثر حرية ولكن أقل فاعلية مما كان عليه قبل الثورة. وفى علاقة النظام السياسى بأقدم جماعة معارضة فى تاريخنا، أقصد جماعة الإخوان، تتوالى الصدمات بين النشأة والتفاوض ثم الإلغاء والحل فى مرحلة ما قبل الثورة، ثم دعم الثورة والتحالف معها، ثم القبض على رموزها وإعدامهم فى عهد الرئيس عبدالناصر، ثم إخراجهم من السجن والسماح لهم بالازدهار فى بدايات عهد الرئيس السادات ثم الاعتقال فى آخر عهده، ثم توسيع هامش الحركة لهم فى عهد الرئيس مبارك مع تضييق هذا الهامش تباعا بعد فوزهم فى كل انتخابات سمح لهم النظام بالتنافس فيها سوءا كانت اتحادات طلابية أو نقابات أو تشريعية.
وكذا عند الحديث عن المشاركة السياسية، يدعو رئيس الدولة المواطنين للتصويت فى الانتخابات، وحين يستجيب بعضهم يجدون أنفسهم أمام العصا الغليظة للأمن المركزى، مع وعود «منافقة» بنزاهة الانتخابات لتخرج النتائج تصرخ بفجاجة التزوير فيها؛ فينكأ جرح انعدام الثقة القديم، جرح جديد.
ثالثا على مستوى بنية النظام الاقتصادى: فى أقل من عقدين تحولت مصر من نظام السوق ببورصة نشطة وعملة قوية ومنطق التنافس والتسويق وتفاوت حاد فى الدخول والثروات فى ظل اقتصاد منفتح على العالم الخارجى فى العهد الملكى إلى دولة اشتراكية تعيش على إغلاق الحدود الاقتصادية وتبنى منطق الاعتماد على الذات وتأميم الشركات والبنوك الأجنبية ثم الوطنية، وهكذا، فمن قواعد السوق إلى التدخلات الإدارية وجد المصريون أنفسهم مطالبين بالتعايش مع واقع جديد تعاملوا معه بمنطق «لعله خير».
وبعد سنوات ليست بالطويلة، ونتيجة عجز موارد الدولة عن الوفاء بما عليها من التزامات داخلية وخارجية عسكرية ومدنية، قرر الرئيس السادات أن يعود بعجلة الزمن إلى الوراء فتتبنى مصر الانفتاح الاستهلاكى ليزيد من عجز الموازنة ويحدث خللا رهيبا بالبنية الطبقية فى المجتمع فى وقت لم يكن فيه المصريون قد استوعبوا بعد ضربات التأميم فى مطلع الستينيات، ثم تأتى روشتة البنك الدولى وصندوق النقد مع بدايات حكم الرئيس مبارك الذى أعلن انحيازه لمحدودى الدخل مع يقينه بأنهم هم الذين يدفعون ثمن كل السياسات التى تبنتها الدولة منذ حكم مصر، فتشرع الدولة فى بيع الكثير مما قامت بتأميمه من قبل.
والأخطر أن هذه المعاناة الاقتصادية أدت إلى نتائج ثقافية وقيمية شديدة جعلت ما كان حراما وعيبا ومرفوضا (لأنه يدخل فى باب الفساد والرشوة) ليس حراما أو عيبا أو مرفوضا، فيزيد الشرخ فى الشخصية المصرية اتساعا. ويكفى النظر إلى قرار تأميم الشركات والمصانع الوطنية فى عهد الثورة ثم قرار بيعها فى عهد الرئيس مبارك لنعرف حجم المعضلة التى عاشها المصريون.
فالشركات الوطنية كانت تعمل وتتوسع وتحقق تراكما رأسماليا جيدا ويدفع أصحابها الضرائب وتوجد مزيدا من فرص العمل بل وتنافس الشركات الأجنبية، ويأتى رجال الثورة بجرة قلم لتحويل كل هذه الشركات إلى مؤسسات قطاع عام، وبدلا من أن يدير الشركة صاحبها يصبح على رأس كل شركة ضابط أو أحد الموثوق فيهم الذى قد يديرها وفى ذهنه حسابات كثيرة قد يكون آخرها الصالح العام المفترض. ثم يأتى القرار ببيع ما تم تأميمه وبناؤه فى مرحلة سابقة.
لماذا لم تترك الثورة ما كان يعمل فى يد القطاع الخاص يعمل وتبنى هى ما تشاء من شركات ومصانع مملوكة للدولة؟ ولماذا لم تقم الدولة بإصلاح الشركات والمصانع إداريا قبل أن تشرع ببيع الكثير منها بمبالغ أقل كثيرا من قيمتها السوقية؟ هذا السؤال وذاك يلتقيان فى ذهن المصرى بلا إجابة لتضيف إلى الحيرة حيرة، وإلى اللا منطق جرعة أكبر من اللافهم.
رابعا وعلى مستوى السياسة الخارجية والدور الإقليمى، حدثت تحولات عميقة فى الدور المصرى من عدو لإسرائيل لصديق يهنئها بحرب استقلالها ودعمها اقتصاديا بتصدير الغاز الذى يمثل ثروة قومية مصرية للشعب الإسرائيلى «الشقيق»، ومن قيادة المنطقة العربية ضد «العدو الصهيونى» إلى محاولة لعب دور «محايد» و«وسيط نزيه» فى نفس القضية التى ناضلت مصر باسمها ومن أجلها عقودا، ومن عدو للولايات المتحدة التى توعدناها بشرب مياه البحرين الأبيض والأحمر على عهد الرئيس عبدالناصر لحليفها الاستراتيجى الأكبر لدرجة أن خطوط العداء والصداقة المصرية فى منطقتنا تنطبق تمام الانطباق مع حدود العداء والصداقة الأمريكية، ويتحول رئيسنا إلى «كنز استراتيجى» عند «العدو» الإسرائيلى. هذه كلها تغيرات أشبه بصدمات لم يستوعبها العقل الجمعى للمواطن المصرى بما أفقده بوصلة تحديد مساحات الصواب والخطأ وحدود الفعل والتقاعس.
ولم يزل المصريون، تجاه حصار غزة وغيرها، فى حالة بحث عن خريطة وبوصلة، بل أقول قيادة، تساعدهم فى الإجابة عن سؤال: ماذا يفعلون؟ وحتى تأتى الإجابة المقنعة لهم فسيظلون قليلى الهمة، كثيرى الشكوى، عديمى الهدف، سكارى بلا خمر، غضبى بسبب، أو حتى بدون سبب. فلا ينبغى أن نظلم المصريين فهم ضحايا نخبهم أكثر منهم جناة فى حق أنفسهم. هم شعب مضروب فى الخلاط.