تقدمت الحكومة المصرية إلى مجلس النواب بمشروع قانون أعدته وزارة العدل ينص على إضافة اختصاصات جديدة للمحكمة الدستورية المصرية. ولقد وافقت الجمعية العمومية للمحكمة الدستورية على المشروع تمهيدا لمناقشته فى لجنة الشئون الدستورية والتشريعية فى مجلس النواب قبل إحالته إلى الجلسة العامة للمجلس. المشروع هو بإضافة مادتين إلى قانون المحكمة الدستورية الصادر فى سنة 1979. المادة الأولى المقترح إضافتها من شأنها أن تحمل رقم 37 مكرر وهى تنص على أن «تتولى المحكمة الدستورية العليا الرقابة على دستورية قرارات المنظمات والهيئات الدولية وأحكام المحاكم وهيئات التحكيم الأجنبية المطلوب تنفيذها فى مواجهة الدولة». أما المادة الثانية، ورقمها المفترض هو 33 مكرر، فهى تنص على أنه لرئيس مجلس الوزراء أن يطلب من المحكمة الدستورية العليا أن تحكم بعدم الاعتداد بالأحكام والقرارات المشار إليها فى المادة أعلاه أو الالتزامات المترتبة على تنفيذها ويختصم فى الطلب كل ذى شأن على أن يبين فى الطلب النص أو الحكم الدستورى المدعى بمخالفته ووجه المخالفة. المادة 33 مكرر إجرائية أما المادة 37 مكرر فهى المادة الموضوعية. هذا المقال يتناول هذه المادة الموضوعية بالتعليق من عدد من الجوانب وينتهى بأثرها على موقف مصر من مسألة سدّ النهضة.
•••
الجانب الأول يتعلق بتداخل المصطلحات والمفاهيم. الرقابة على دستورية قرارات المنظمات الدولية موضع نقاش بالفعل. ولكن الرقابة المقصودة هى بشأن ما إذا كانت القرارات المذكورة تحترم دستور المنظمة المعنية. فى الأمم المتحدة مثلا النقاش هو بشأن القرارات التى تصدر عن أجهزتها الرئيسية وعما إذا كانت تحترم توزيع الاختصاصات بين هذه الأجهزة كما ورد فى ميثاق المنظمة، وهو دستورها. النقاش ثار تحديدا حول بعض القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والتى اتسمت بصفة التشريع وهى وظيفة لا يخولها الميثاق للمجلس. عبارة «الرقابة على دستورية المنظمات الدولية» تثير لبسا فى المفاهيم.
فى نفس باب المفاهيم نلاحظ أن المشروع الذى قدمته الحكومة لم يشر إلى الرقابة على الاتفاقيات الدولية سواء كانت صادرة عن منظمات دولية أو لا، أكانت الرقابة لاحقة وهو الطبيعى فى المحاكم الدستورية أو حتى سابقة. ولكن ذلك شىء مفهوم حيث أن المادة 192 من الدستور تنص على أن المحكمة الدستورية تتولى دون غيرها الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح وتفسير النصوص التشريعية. وبما أن الاتفاقية الدولية التى يصدق عليها رئيس الجمهورية بعد موافقة مجلس النواب تكون لها قوة القانون بعد نشرها بمقتضى المادة 151 من الدستور، فإنه يصير طبيعيا أن تراقب المحكمة الدستورية مراعاة الاتفاقية لأحكام الدستور سواء كان ذلك بتفسيرها لأحكامها قبل التصديق عليها فتحول دون التصديق إن كانت مخالفة لأحكام الدستور أو بالرقابة عليها بعد التصديق مما يؤدى إلى احتمال نقضها أو الانسحاب منها. أما قرارات المنظمات والهيئات الدولية فليست تشريعات دولية وهى بالتالى لا يمكن أن تتحول إلى قوانين وطنية. الرقابة على هذه القرارات لا يدخل ضمن ما تنص عليه المادة 192 اللهم إلا إن اتسع نطاق انطباق المادة بالاستناد إلى النص المعتاد فى نهايتها وهو «ويعيّن القانون الاختصاصات الأخرى للمحكمة».
غير أن الأكثر أهمية هو ما يدخل فى باب تنظيم المجتمع الدولى. الحفاظ على المجتمع الدولى وتطويره هو من مسئولية كل الدول الأعضاء فيه ثم هو من مصلحة هذا المجتمع ومصلحة كل واحد من أعضائه، وإن تفاوت كل منهم فى تفسير المصلحة التى يجنيها من وراء المجتمع الدولى. التقدم فى التنظيم الدولى فى القرنين الماضيين كان هدفه هو تعظيم هذه المصالح للمجموع ولكل شخص من أشخاص المجتمع الدولى. تصور أن تصدر مصر قانونا يخوّل لرئيس الحكومة أن يطلب من المحكمة الدستورية أن تحكم بعدم الاعتداد بقرارات منظمة دولية فحذا حذوها الأعضاء المائة والثلاثة والتسعون الآخرون فى منظمة الأغذية والزراعة مثلا. سيتعرض التعاون الدولى للانهيار فربما اعترض عدد من الدول فى هذه المنظمة أو تلك على قرار باعتماد الميزانية فلم تعتد به وانتهت إلى عدم تسديد أنصبتها فى موارد المنظمة فلا يمكن تنفيذ برنامجها بل ولا يمكن الوثوق فى تنفيذ أى نشاط يندرج فيه بعد ذلك. هل هذا من مصلحة مصر؟ إن مصر أدركت عبر تاريخها المعاصر مزايا التنظيم الدولى العالمى والإقليمى فاشتركت بنشاط فى التفاوض ثم فى إنشاء المنظمات الرئيسية الثلاث التى تخصها وهى الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية، ناهيك عن إنشاء منظمات قطاعية وإبرام اتفاقيات متعددة الأطراف.
اعتبار آخر يتعلق بالرقابة على قرارات المنظمات الدولية هو أن هذه الرقابة لا لزوم لها أصلا لتحقيق أغراض من فكروا فيها لأنه باستثناء القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، وهى القرارات الملزمة سواء نصت على إجراءات قسرية إنفاذية بمقتضى الباب السابع من الميثاق أو لم تنص، فإن كل قرارات المنظمات الدولية بمثابة توصيات. الدول تشترك فى اتخاذ القرارات أو التوصيات وهى تنتهج السياسة فى صياغتها وفى التفاوض عليها وفى اعتمادها فى حدود الإطار القانونى الذى رسمته الاتفاقية المؤسسة للمنظمة سواء كان اسمها «دستور» أو «ميثاق» أو غير ذلك. الدول تحترم هذه القرارات التى هى فى حقيقتها توصيات لأن فى ذلك مصلحتها وإلا ما أنشأت المنظمة الدولية أساسا أو انضمت إليها فعضوية المنظمات الدولية الإقليمية والعالمية طوعية فى نهاية الأمر. القانون الدولى ينظم العلاقات بين أشخاص القانون الدولى من دول ومنظمات دولية، والدول حريصة على احترام القانون الدولى بشكل عام، وخصوصا على ألا تضبط فى حالة انتهاك له. الثقة المتبادلة هى وسيلة القانون الدولى وهى أساس التعاون الدولى. تجاهل القانون الدولى يقوض الثقة فى الدولة المعنية وينال من سمعتها، والسمعة جوهرية فى النظام الدولى الذى لا توجد فيه سلطة مركزية تنفذ القوانين. لا بدّ أن هناك من سيقول إن الولايات المتحدة لا تحترم القانون الدولى دائما وهذا صحيح، ولكن قوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية الهائلة مقارنةً بالآخرين هى التى تمكنها من ذلك. هل فى هذا انعدام للعدالة؟ نعم. ولكنه لا يختلف كثيرا عن الحال بالنسبة للقانون الداخلى. فى كل الدول الأفراد الأقوياء اقتصاديا وسياسيا لا يحترمون القانون دائما. وفى منطقتنا من العالم يمكن أن يقول قائل آخر وماذا عن إسرائيل التى تحتل الأراضى وتضمها وتطرد السكان من أراضيهم ومنازلهم وتهدم المدن على رءوسهم. الرد بسيط. هل إسرائيل مثال يمكن لأحد أن يرغب فى التأسى به؟!
•••
نصل إلى الرقابة على أحكام المحاكم وهيئات التحكيم الأجنبية المطلوب تنفيذها فى مواجهة الدولة والتى يجوز لرئيس الوزراء أن يطلب من المحكمة الدستورية أن تحكم بعدم الاعتداد بأحكامها، كما ينص على ذلك مشروعا المادة 37 مكرر و33 مكرر.
بشأن أحكام المحاكم الأجنبية فالقانون الدولى الخاص ينظم تنازع القوانين الوطنية والعلاقات بين الاختصاصات القضائية المختلفة. فى العلاقات بين الدول المسألة ليست فى أن تبحث لدى المحكمة الدستورية عن إسباغ الشرعية الداخلية على تصرف السلطة التنفيذية وإنما هى أيضا فى أن يكتسب تصرف هذه السلطة التنفيذية، نيابةً عن الدولة، الشرعية الخارجية المستمدة من احترامها للقانون الدولى الخاص مثل العام. أما عن طلب الحكم بعدم الاعتداد بأحكام هيئات التحكيم الأجنبية فهو الغرابة نفسها. هيئات التحكيم تشكلها الدول والشركات بمحض إرادتها لتفصل فى النزاعات التى يمكن أن تنشأ عن العلاقات بينها وهى تشترك فى تعيين أعضاء هيئات التحكيم وكذلك القواعد القانونية التى يستندون إليها فى أحكامهم. هل يمكن التفكير بعد ذلك فى عدم الاعتداد بأحكام هذه الهيئات لأنها صدرت ضد الدولة أو ضد شركة وطنية؟ أى تقويض فى الثقة بالمتعاملين المصريين الناشطين فى الاقتصاد الدولى يترتب على مجرد وجود هذا الاحتمال، وأى إحجام عن التعامل مع الاقتصاد المصرى ومع الشركات المصرية يمكن أن ينشأ عنه! تذكر أهمية الاستثمارات، والتجارة الدولية فى السلع، والغاز، والسياحة، وإيرادات المرور فى قناة السويس بالنسبة لمصر. دعك من هذا لوهلة وافترض أن المحكمة الدستورية حكمت بعدم الاعتداد بحكم هيئة التحكيم الأجنبية. هل ستعتد المحاكم الأجنبية بهذا الحكم أم ستُعمِلُ قانونها الوطنى فى حق الأطراف المصرية فى النزاع وتأتى على أصولهم فى بلدانها؟
أما الباب الأعجب فى الوقت الحالى بالذات فهو أن أثر مثل هذا القانون على موقف مصر من مسألة سدّ النهضة لم يؤخذ فى الحسبان. إثيوبيا لا تريد أن تتقيد بشىء بينما تصرّ مصر على التوصل إلى اتفاقية ملزمة قانونا بشأن ملء خزان السدّ وتشغيله. لا يمكن لاتفاقية ملزمة إلا أن تنص على وسائل تسوية المنازعات التى تنشأ عن تطبيقها. تشمل هذه الوسائل المفاوضات والوساطة والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية. لا يمكن لدولة تطلب اتفاقية ملزمة أن تقبل بالتفاوض أو الوساطة أو التوفيق. الإلزام يفترض وجود حكم ملزم لتسوية أى نزاع بين أطرافه يصدر إما عن هيئة تحكيم أو عن محكمة دولية. إثيوبيا لا تعترف بالاختصاص القضائى لمحكمة العدل الدولية فلا يبقى إلا تشكيل هيئة للتحكيم للبت فى المنازعات التى تنشأ عن تطبيق الاتفاقية الملزمة. هل معقول أن تصرّ مصر على عقد اتفاقية ملزمة ثم تقول ضمنا إن أحكام هيئة للتحكيم تنشئها هذه الاتفاقية لن تكون ملزمةً لها بالضرورة إن كانت فى غير صالحها؟ كيف يمكن أن يؤثر ذلك على موقف الأطراف التى تحاول أو يمكن أن تحاول المساعدة على الوصول إلى ما تريده مصر؟
مشروع القانون هذا ينال من سمعة مصر وهو يقوض مصالحها.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة