كثيرة هى الحواجز الصغيرة التى تفصل بينى وبين أبناء جلدتى من المصريين، لعل كرة القدم من أبرزها. فرغم محاولات متعددة بدأت مع الطفولة، واستمرت، وإن بمعدلات متناقصة وإلحاح متخافت مع التقدم فى العمر، لم أنجح يوما فى استجماع ما يكفى من الاهتمام الذهنى والنفسى لمتابعة ما يجرى فى ميدان يحفل دوما بالنشاط والصخب، ويعد من بين الجوامع القومية المصرية المهمة، بل وربما وصل به الأمر فى السنوات الأخيرة ليصبح المجال الرئيسى للتعبير عن الانتماء الوطنى المصرى ـ ولو فى مناسبات عابرة.
لم يحدث أن رأيت استادا رياضيا من الداخل رأى العين، ولا أعتقد أننى شاهدت أكثر من مباراتين أو ثلاثا كاملة، أذكر منهما مباراة تعود إلى سنوات الطفولة هزم الأهلى فيها الزمالك بثلاثة أجوال مقابل لا شىء، وأخرى بعدها ببضعة عقود، كانت تلك التى دخلت التاريخ كحدث قومى جلل، انتصرت فيها مصر على هولندا بهدف للا شىء ــ على ما أذكر.
الجهل بما يجرى فى عالم كرة القدم ينشئ حالة من الغربة الأكيدة بين المواطن المصرى المصاب بمثل هذا الداء العضال وبين أقرانه من المواطنين، وأعترف أنه فى حالتى يعد جهلا مبينا، فلا أعرف أسماء كبار اللاعبين ــ اللهم باستثناء أبوتريكة الذى استقر اسمه فى ذاكرتى بفضل فانلة التضامن مع غزة، وليس بفضل أى معرفة بمهاراته كلاعب كرة قدم. وكثيرة هى المواقف المحرجة التى تعرضت لها بفضل عدم درايتى بمباراة مهمة قيد اللعب أو انتهت لتوها، بما فى ذلك مباريات للقبيلتين الأهم فى مصرنا المعاصرة، الأهلى والزمالك.
ليست «الكرة» مع الأسف هى المظهر الوحيد لتلك العزلة شبه الاختيارية، فعلاقتى بالتليفزيون مظهر آخر من مظاهرها، ولا أذكر أننى تابعت مسلسلا تلفزيونيا منذ «عائلة عم جمعة» و«عادات وتقاليد» فى مقتبل عمرى وعمر التليفزيون المصرى فى أوائل الستينيات، بل ولست من هواة البرامج الحوارية وقد باتت المظهر الأهم لحصول المواطن المصرى على الأخبار وفقا للدراسات الإعلامية، أشاهد أقل القليل منها، عادة بتوصية خاصة من زملاء وأصدقاء. أما علاقتى بعالم الموسيقى والغناء فقد توقفت عند عبدالحليم حافظ وأم كلثوم وعبدالوهاب، وأعانى من جهل مطبق فيما يتعلق بمن يبدو أنهم عشرات من القادمين الجدد.
أضف إلى السابق أننى لست من هواة الحديث فى سفاسف الدين ومظاهر التدين لتدرك حجم الهوة ومشقة الحوار مع سائق التاكسى أو الجالس إلى جوارك على مائدة إفطار.
فشلى فى مشاركة ملايين المصريين عشقهم لكرة القدم واهتمامهم المتحمس بها ــ رغم محاولات استغرقت عدة عقود من الزمان ــ قابله، وفاقم من أثره خلال السنوات الأخيرة، فشل متواصل فى استجماع قدر كاف من الحماس والانفعال والاهتمام بموضوع الخلافة على منصب رئيس الجمهورية المصرية، وهو الذى جاء ليحتل بين صفوف «النخبة» المصرية موقعا لا يقل أهمية وبروزا ومركزية فى الحوار اليومى المصرى عن صعود الأهلى وهبوط الزمالك، أو المسلسل الأخير ليسرا أو نورالشريف، أو غير ذلك من أحداث جلل من قبيل إفتاء شيخ الأزهر بجواز تبرع المسلم لبناء كنيسة ثم إنكاره لذلك.
لعلنا نلاحظ مع ذلك أننا فى حالة قضية الخلافة على رئاسة الجمهورية معنيون بنوع مختلف من العزلة، وإن لم يكن أقل وطأة. عدم الاهتمام بكرة القدم يوجد حاجزا بينك وبين جموع الشعب المصرى بوجه عام، أما سؤال من يجىء إلى كرسى الرئاسة بعد الرئيس حسنى مبارك، فهو رغم مركزيته وإلحاحه البالغ عند تلك الفئة الغائمة والمصطلح عليها بين صفوفها بالذات باسم «النخبة»، لا يجد من يعبأ به كثيرا بين جموع المصريين، المصطلح عليهم ــ بين «النخبة» ــ باسم «الجماهير».
كانت الصورة عبقرية فى دلالتها تلك التى نشرتها ــ على ما أذكر ــ جريدة الوفد خلال عام «الحراك السياسى» فى 2005. الصورة لواحدة من عشرات المظاهرات التى قامت بها حركة كفاية وتفريعاتها المختلفة خلال ذلك العام تحت شعار «لا تجديد ولا توريث»، التقطها المصور فيما يبدو من فوق سطح عمارة مطلة على موقع المظاهرة التى جرت ــ على خلاف العادة ــ فى حى شبرا، وذلك فى إطار مسعى نشطاء الحركة للخروج من «عزلة» وسط البلد والوصول إلى الجماهير.
الصورة عبارة عن ثلاث دوائر، تحيط كل منها بالأخرى. فى الوسط دائرة النشطاء المشاركين فى التظاهرة، وتضم بضعة مئات، تحيطها دائرة أوسع من رجال الأمن، وعددهم يفوق أعداد المتظاهرين بعدة أضعاف، ثم خارج الدائرتين دائرة واسعة فضفاضة وغير محددة المعالم من جماهير المتفرجين. وفى الحقيقة يصعب أن يجد المرء تعبيرا رمزيا عن واقع الحياة السياسية المصرية الراهنة وموقع قضية الخلافة منها أكثر دقة وأبلغ دلالة من تلك الصورة: نخبة سياسية محدودة العدد، كثيرة الحماس، يحيطها الأمن من كل جانب، وجماهير متفرجة، غير معنية وعلى الأرجح غير مكترثة.
كيف أجد نفسى منعزلا عن أقرانى ــ على الأقل بحكم المهنة وعضوية نقابة الصحفيين ــ بين صفوف «النخبة»، قليل الحماس ومحدود الاهتمام بقضية بمثل هذه الحيوية لمستقبل البلاد، وقد صارت موضوع الساعة باقتدار؟ يبدو أن هناك عدة أسباب وراء حالة الفتور التى تعترنى إزاء هذه المسألة، لعل أحدها هو ضجرى الشديد من استمرار تعلق الكثيرين منا ــ مصريين وعربا ــ بمخلص منتظر، يأتى ليملأ دنيانا عدلا بعد جور. أذكر لافتة ضخمة اعتلت مقر نقابة المحامين بوسط القاهرة فى أثناء كارثة عربية ما، خط عليها بحروف هائلة: «نحن فى انتظارك يا صلاح الدين؟» أو شىء من هذا القبيل، وروعت وقتها لما تعكسه تلك الأمنية من تعاسة وبؤس وكسل لا شفاء منه، خاصة وقد انحدر بنا تعلقنا بصلاح الدين المنتظر إلى حد أن بتنا نصب آمالنا فى بعثه على مهرجين وأنصاف مجانين من أمثال بين لادن وصدام حسين.
غير أن هناك اعتبارا أكثر أهمية فيما يتعلق بقضية رئاسة الجمهورية فى مصر. فالمشكلة الجوهرية فى الحقيقة هى فى كرسى الرئاسة نفسه، قبل أن تكون فيمن يجلس عليه. كرسى الرئاسة المصرى صنع طبقا لمواصفات خاصة وبناء على تعاقد محدد بين صانعه، وهو جمال عبدالناصر، وكادحى الشعب المصرى من عمال وفلاحين، أعطاهم كرامة وقسطا من العدالة الاجتماعية وأعطوه فى المقابل مسوغات وإمكانات (وإذا أردت، هراوات) فرض السمع والطاعة والانضباط على الجميع، كبارا وصغارا، أغنياء وفقراء. العقد فسخ منذ عقود، والكرسى صار هرما متآكلا محتفظا فى الوقت نفسه بكل ما وضعه فيه صانعه من جبروت شامل وطاغ ولا تكاد تحده حدود. المسألة ليست من سيأتى إلى كرسى عبدالناصر ولكن أن هذا الكرسى قد عفا على الزمن، وأكل الدهر عليه وشرب، وأن الآوان قد آن لوضعه فى المتحف المصرى مع غيره من كراسى العرش.
وفى نهاية الأمر قد يعود فتورى تجاه مسألة استخلاف الحكم فى مصر إلى أمر أبسط من كل ذلك. سألنى سائق التاكسى ــ بعد أن فشل فى فتح حوار معى حول آخر الأخبار الكروية، وتوسم فىّ انتماء ما «للنخبة» ــ عن رأيى فيمن يتولى الحكم فى مصر بعد مبارك. كان ردى مقتضبا: حين يجىء ذلك اليوم ــ بعد أجل طويل إن شاء الله ــ لن يطلب أحد رأيى أو رأيك.