قضيتنا هى الديمقراطية فى مواجهة الاستبداد - هاني شكر الله - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 9:54 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قضيتنا هى الديمقراطية فى مواجهة الاستبداد

نشر فى : الخميس 29 نوفمبر 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 29 نوفمبر 2012 - 8:00 ص

ليست قضيتنا وقد نصب الحاكم نفسه حاكما مطلقا، هى الصراع بين «القوى المدنية» وقوى الإسلام السياسى، كما يُقال، كما أنها ليست صراعا بين «العلمانية» والنزعة «الدينية»، وهى ليست بالقطع منازلة بين ما يسمى بالتيار الليبرالى والتيار الإسلامى. قضيتنا أبسط وأعقد من ذلك كثيرا.

 

•••

 

لكن دعنا قبل الخوض فى الموضوع نتوقف قليلا عند المصطلحات. القوى «المدنية» مصطلح لا معنى حقيقى له، وضدها «العسكرية» وليس «الدينية». وكان مبتدعو المصطلح قد آثروا السلامة فوقعوا عليه كنوع من «التقية»، وذلك بعد أن نجح التيار الإسلامى فى تشويه المصطلح ووضع علامات تساوى بينه والإلحاد، وفى تحويله إلى ما يشبه السباب، ومساوٍ للاتهام بالكفر.

 

أما عبارة الليبرالية فقد اقتحمت الفضاء المصرى عبر القنوات الفضائية بعد الثورة، وكانت قبلها تكاد تقتصر على اداعاءات جمال مبارك وشلته عن أنفسهم، للاستهلاك الخارجى فى المحل الأول، وتعبيدا لمشروع التوريث. وهى فى الغرب نفسه عبارة مطاطة تستخدم فى الولايات المتحدة وحدها للإشارة إلى يسار الوسط بل واليسار أحيانا، فى حين إنه فى أوروبا، حيث الصراع السياسى منذ بدايات القرن الماضى مستقطب ما بين محافظين يمينيين ينتمون للطبقات العليا واشتراكيين ديمقراطيين انبثقوا عن النقابات والحركات العمالية، فالمصطلح أكثر تخصيصا، وينصرف أساسا للإشارة إلى أعضاء الأحزاب التى تطلق على نفسها أحزابا ليبرالية، وهى فى الأغلب الأعم تقع فى الوسط أو يمين الوسط.

 

وفى حقيقة الأمر فالاستخدام الأوفر للمصطلح عند الغرب هو فى التصدير، مثله فى ذلك كمثل صفة «معتدل» المفضلة لدى المعلقين السياسيين ورجال الإعلام عندهم إشارة إلى من يرتاحون إليهم من الساسة او التيارات السياسية فى بلدان العالم الثالث وشرق أوروبا سابقا».

 

•••

 

وعبارة «الليبرالية» هى فى كل الأحوال غريبة الوقع على الأذن المصرية، كما لم أمل أن أذكر الزملاء والأصدقاء فى الحزب الديمقراطى الاجتماعى أثناء رحلتى القصيرة معه، ليس بفضل اشتقاقها الغربى  فقاموسنا المعاصر بل والموروث حافل بمثل هذه الاشتقاقات. ولكن، وفى المحل الأول، لأنها تأتى من خارج سياق نضالاتنا وتراثنا السياسى. فحتى ما يسمى بـ«العهد الليبرالي» فى التاريخ السياسى المصرى (من ثورة 1919 ودستور 23 وحتى يوليو 52) لم يطرح نفسه بوصفه ليبراليا، وعرف الناس حزب الوفد حزبا وطنيا يناضل من أجل الاستقلال والدستور (المرادف وقتها للحريات والحقوق الديمقراطية).

 

إعادة إنتاج التاريخ بصورة خيالية هو أمر معهود فى شتى الثقافات الإنسانية على أية حال، ولكن يختلف الأمر كثيرا حين يتم تصوير الواقع المعاش كذلك. وأدعى أن المرآة الأكثر تشويشا وتشويها لواقعنا السياسى والاجتماعى الراهن هى تلك التى تصور صراعات واستقطابات ما بعد الثورة بوصفها صراعا بين «القوى المدنية» و«القوى الإسلامية»، فالقراءة الشائهة للواقع السياسى المعاش يترتب عليها بالضرورة سياسات شائهة بدورها واستراتيجيات وتكتيكات عقيمة وفاقدة الاتجاه.

 

•••

 

ويمكن إيجاز اعتباراتى فى ذلك كالتالي:

 

الاعتبار الأول: ثورة الأيام الثمانى عشرة المجيدة فى مطلع 2011 لم تعر أدنى اهتمام لانقسام كان حتى وقتها ينتمى للنخبة ما بين «مدني» و«إسلامي». رفعت الثورة شعار الحرية عاليا، ولم نرَ سواء «مدنيا» أو «إسلاميا» يتحفظ بـ«بما لا يخالف شرع الله».

 

التقيت وقتها عددا من ممثلى ائتلاف شباب الثورة، ولو لم يبدأ كل منهم حديثه بتعيين انتمائه التنظيمى لما أمكن لى أو لغيرى من الحضور التمييز بين شباب الإخوان المسلمين وغيرهم من ممثلى الحركات الثورية الأخرى  وكلها غير إسلامية النزعة.

 

مهما حاول البعض اليوم اعادة كتابة تاريخ الأمس القريب وذكراه حية، محسوسة، فإن حقيقة شعارات الثورة وقيمها ما تزال واضحة كالشمس. فى ميدان التحرير وفى غيره من ميادين وشوارع مصر اطلق الثوار خطابا ناصعا جليا، رافضا للاستبداد، تواقا للحرية، يتطلع إلى مصر ديمقراطية، حرة، تحترم الكرامة المتأصلة فى النفس البشرية، وتقيم العدل بين أبناء الشعب الواحد.

 

كان خطابا وبرنامجا واعلان مبادئ يقول بالإخاء والمساواة بين المصريين جميعا، مسلمين ومسيحيين، رجالا ونساء، فقراء وميسورى الحال. وتجسد الخطاب فى الممارسة اليومية للثورة: «إن أكثر مشاهد ميدان التحرير تعبيرا وإثارة للمشاعر عندى هو مشهد الثوار الأقباط متشابكى الأيدى يشكلون درعا بشريا لحماية الثوار المسلمين وهم يؤدون شعائر الصلاة» هذا ما قاله شاب بريطانى مسلم فى لقاء قريب.

 

بل ولعلى أدعى أن أحد المظاهر الأبرز لعبقرية الثورة المصرية قد تمثل فى تقديم تجاوز كيفى لصراع «المدني» والإسلامى، الذى بقى أسير النخبة طوال عقود من الزمان.

 

•••

 

الاعتبار الثانى: إذا كان لحكم مبارك الكئود من «مأثرة» على كل من سبقوه فى حكم مصر الحديثة فقد تمثلت تلك فى إلغاء تام تقريبا للحياة السياسية فى البلاد، تجريفها، على حد التعبير المقتضب وبالغ الدلالة كعادته للأستاذ محمد حسنين هيكل. لم يكن الأمر استبدادا فحسب، لكن محوا تدريجيا وضاريا فى آن معا للمجال السياسى فى البلاد.

 

•••

 

الاعتبار الثالث: وظنى أن ذلك النجاح المبهر فى سحق السياسة فى مصر طوال ثلاثين عاما يعود إلى آليتين مترابطتين أكتفى بطرحهما هنا بإيجاز شديد وربما مخل. أولهما، التحول نحو الأوليجاركية، أى اتحاد السلطة والمال. الرأسماليون عادة ما يحتاجون إلى مجال سياسى ما يوطدون من خلاله نفوذهم على السلطة السياسية وجهاز الدولة، ويمارسون عبره المنافسة المحتمة فيما بينهم على الميز النسبية والغنائم، ويكرسون فى اطاره هيمنتهم على من عداهم من طبقات وفئات اجتماعية.

 

أما عندنا، وفى غضون التحول الأوليجاركى، فقد اكتشف رأسماليونا أن هناك إمكانية لتخطى المجال السياسى واللعب من وراء ظهره إذا جاز التعبير، وذلك من خلال العلاقات المباشرة بين مجموعاتهم وأقسامهم وشللهم المختلفة، كل بامتداداته فيما وراء البحار، والقائمون على السلطة والدولة. فجاءت علاقات التزاوج والمصاهرة والمشاركة والمؤانسة ــ جاءت هذه كلها لتحل محل السياسة ومجالها المرهق والمحفوف بالمخاطر، وذلك بقدر ما يفتح ولو بابا ضيقا ومواربا لمن يرونهم رعاع محتقرين من شأنهم افساد اللعبة أو على الأقل غل أيدى اللاعبين.

 

أما الآلية الثانية فقد تمثلت فيما يمكن أن نسميه بالقمع الانتقائى، حيث الاستبداد مخفف أو ملبرل إلى هذا الحد أو ذاك فى مواجهة النخبة السياسية والثقافية، ودولة بوليسية مطلقة العقال لا يحدها شرع أو قانون، فى وجه من هم خارج تلك النخبة من فقراء ومتوسطى الحال من أبناء الشعب، أى أغلبيته الساحقة: قمع وحشى، عشوائى، تعذيب وقتل وإهانات يومية، بالمزاج وبالواسطة وبسبب وبلا سبب.

 

•••

 

الاعتبار الرابع: فى غياب المجال السياسى تختذل الصراعات السياسية إلى سجالات أيديولوجية مذهبية، والأيديولوجيات فى غياب السياسية تختذل بدورها إلى أديان متنافسة متنازعة، وذلك بقدر ما أن المجال السياسى هو المحك العملى الأساسى فى المجتمعات الحديثة لاختبار الأفكار والعقائد. وفى هذا يكمن أحد أسرار الوزن النسبى الطاغى للإسلام السياسى فى صفوف المعارضة طوال حكم مبارك، وتفوقهم التنظيمى والانتخابى بعد ثورة يناير. فحين يختذل الصراع السياسى فى صراعات أديان فلا عجب أن يكون التفوق المطلق لمن يملك الحديث باسم الدين الحنيف نفسه.

 

الصراع بين «القوى المدنية» و«القوى الإسلامية» صراع أيديولوجى عقائدى يهم النخبة ولا يهم جموع الشعب، موروث من بين مواريث كثر للعهد المباركى طرحت الثورة المصرية نفيا لها ولم تنفها بعد.

 

•••

 

قضيتنا اليوم فى أواخر 2012 - ونحن على أعتاب الذكرى الثانية للثورة - هى هى قضيتنا خلال الـ18 يوما المجيدة فى يناير وفبراير 2011: الديمقراطية فى مواجهة الاستبداد، والحرية فى مواجهة القهر، والكرامة فى مواجهة المذلة. قضيتنا كانت ولم تزل وستبقي: عيش، حرية، عدالة اجتماعية.

 

هى بسيطة بقدر سطوع مبادئ وقيم الثورة، ومعقدة بقدر تعقيد عملية بناء القوى القادرة على وضع تلك المبادئ والقيم موضع التحقيق فى واقعنا المعاش.

 

هذه قضيتنا وهذا صراعنا، وعليه وحده تصطف الصفوف.

 

 

 

كاتب سياسى مصرى

هاني شكر الله عضو مجلس تحرير جريدة الشروق ، و المدير التنفيذي لمؤسسة هيكل للصحافة العربية ، وهو رئيس التحرير السابق لصحيفة الأهرام ويكلي ، كما أنه عضو مؤسس للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان ، وعضو مؤسس وعضو مجلس إدارة المركز العربي الأفريقي للأبحاث.
التعليقات