يحكى أبى أنه أثناء دراسته فى الأزهر، قرأ إعلانا من وزارة المعارف تطلب فيه مدرسين للغة العربية براتب شهرى قدره أربعة جنيهات. كان فى الثامنة عشرة من عمره، ولم يكن صغر سنه ما يمنع تعيينه فى هذه الوظيفة فى ذلك العصر (السنوات الأولى من القرن العشرين)، طالما نجح فى امتحان تحريرى وآخر شفوى. وقد نجح أبى بالفعل فيهما، فعين مدرسا فى مدرسة راتب باشا بالإسكندرية.
يقول أبى فى كتابه «حياتى»، إنه قرأ بعض كتب الغزالى وهو جالس على الشاطئ، فشعر «بنزعة صوفية»، كما قرأ كتاب «أشهر مشاهير الإسلام» لرفيق بك العظم، فتحمس لأبطال الإسلام. ولكنه يقول إن أعظم ما كسبه فى الإسكندرية تعرفه بشخصية قوية كان لها أثر كبير فى نفسه (كتب أبى اسمه فى الهامش: المرحوم الشيخ عبدالحكيم بن محمد، وذكر أن قريبا له كتب إلى الشيخ عبدالحكيم يوصيه بأبى خيرا). يصفه أبى على هذا النحو:
«كان أستاذا للغة العربية فى مدرسة رأس التين الثانوية. تخرج فى دار العلوم. كنت فى الثامنة عشرة وهو فى نحو الثانية والأربعين. وكان طويل القامة، معتدل الجسم، جميل الوجه، ذا لحية سوداء، نظيفا فى ملبسه، أنيقا فى شكله من غير تكلف. اتصلت به فأعجبنى من أول نظرة، واتخذنى أخا صغيرا واتخذته أخا كبيرا. وكان متدينا بل كان صوفيا، يعتنق طريقة النقشبندية، وهى طريقة ليس لها شعائر ولا تقاليد ظاهرة للناس. فالنقشبندى إذا ذكر الله، ذكره بقلبه لا بلسانه، وأول دروسها رسم اسم الله بنور على القلب ورفع اللسان إلى الحلق حتى لا يتحرك. ولم أعرف تصوفه إلا بعد فترة طويلة من معاشرته. وكان مع تصوفه واسع الأفق، حر الفكر، لا يدين بشىء من الخرافات والأوهام، ويؤيد الشيخ محمد عبده فى دعوته إلى الإصلاح. وكان فى مدرسته محبوبا محترما، يجله زملاؤه ورؤساؤه وتلاميذه، أبى النفس، عزوفا عن الصغائر، يعتمد فى دروسه مع تلاميذه على الحب لا على الإرهاب، ويترك لهم الحرية فى الحديث والنقد إلى درجة تشبه الفوضى. ولم يكن فى درسه مدرس لغة عربية فحسب، بل مدرس تفكير ونقد للمجتمع وما شئت من شئون الحياة، حتى كان تلاميذه يسمونه (الشيخ الإنجليزى)، لترفعه وحريته وصدق قوله وسعة فكره.. وعلى الجملة، فلئن كان أبى هو المعلم الأول، فقد كان هذا الأستاذ هو المعلم الثانى».
فتى فى الثامنة عشرة، يقابل رجلا من هذا النوع، فيلفت نظره، ويعجب به إلى هذا الحد، حتى ليعتبره معلمه الثانى بعد أبيه. فهل الفضل فى هذا يرجع فقط إلى هذا الأستاذ الجليل أم أيضا إلى أبى؟ كان هناك فى أبى، بلا شك، استعداد قوى لأن يلاحظ هذه الصفات الطيبة والنادرة، وأن يفتن بها ويستفيد منها.
ظل أبى شديد التدين، محافظا بصرامة على اتباع شعائر الدين. يقول انه فى هذه السن، كان يؤدى الصلوات لأوقاتها «فإذا كنت فى مقهى انتقلت من بين من أجالسهم إلى أقرب مسجد، فإن كنت فى حى افرنجى بعيدا عن المساجد، تلمست عمارة فيها بواب نوبى أو سودانى، وطلبت منه أن يحضر لى حصير صلاته لأصلى عليها بالقرب من الباب، فإذا لم أجد، استنظفت أى مكان مستتر، وخلعت جبتى وفرشتها وصليت عليها، ثم نفضتها ولبستها.. وفى حجرتى أقرأ كل يوم ما تيسر من القرآن».
واستمر أبى على تدينه الشديد خلال دراسته بمدرسة القضاء الشرعى، وقد تجاوز العشرين. «حتى كان طلبة فصلى يسموننى (السنى) بينما يسمون غيرى الفيلسوف أو الزنديق. وأذكر مرة أن أحد أساتذتى كان ينكر معجزة نبع الماء من بين أصابع النبى (صلى الله عليه وسلم) فحاججته، ثم انقلب الجدال إلى حدة منى، فاحمر وجهى وغضبت على أستاذى غضبا شديدا، فتقبل غضبى بالحلم والابتسامة الهادئة».
ومع ذلك فإن أبى، بمجرد أن تعرف على ناظر المدرسة القضاء (عاطف بركات)، بعد تخرجه منها بشهرين، إذ اختاره الناظر معيدا معه فى دروس الأخلاق، جذبته شخصية الناظر الرائعة، وموقفه العقلانى من الدين. «كنت أذهب إلى بيته فى كثير من الأيام عند تحضير الدرس، وكان يحضره من كتب الأخلاق الإنجليزية، فكان يقرأ بالإنجليزية ويملينى بالعربية، وأحيانا ينفرد هو بالترجمة ثم يسمعنى ما ترجم، وكنا نتناقش فى الدروس قبل إلقائها، وأحيانا يجرنا الحديث من موضوع الدرس إلى موضوع آخر، اجتماعى أو دينى أو سياسى، فيعرض آراءه ويستمع إلى مجادلتى. وقد أثر فى تأثيرا كبيرا من ناحية تحكيم العقل فى الدين. فقد كنت إلى هذا العهد أحكم العواطف لا العقل، ولا أسمح لنفسى بالجدل العقلى فى مثل هذه الموضوعات، فالدين فوق العقل، فإن جاء فيه ما لا يدركه العقل آمنا به، لأن علم الله فوق علمنا، وهو أعلم بما يصلحنا وما يضيرنا، وهو يأبى إلا تحكيم العقل والبحث عما لا نفهم حتى نفهم.. كان من أثر هذا الجدل الدينى أنى أعملت العقل فى تفاصيل الدين وجزئياته، أما جوهر الدين، من إيمان بالله وجلاله وعظيم قدرته، فظل ساكنا فى أعماق قلبى، لم ينل منه أى جدل، ولم يتأثر بأى قراءة. وكل ما فى الأمر أنى صرت أكثر تسامحا مع المخالفين، وأوسع صدرا مع المعارضين».
نعم، كان لعاطف بركات أثر كبير فى أبى، ولكن هل كان له مثل هذا الأثر فى غيره من الطلاب والمعيدين؟
مرة أخرى أقول إن الفضل فى هذا لا يعود إلى عاطف بركات وحده، بل يعود أيضا إلى هذا الاستعداد الرائع لدى أبى لاستخدام عقله فى كل شىء، والرغبة الدائمة فى الفهم والتفسير والبحث عن الأسباب.
●●●
كانت إحدى النتائج الباهرة لهذا الاستعداد القوى لدى أبى، إنتاجه لتلك السلسلة الرائعة من الدراسات فيما سماه: تاريخ الحياة العقلية فى الإسلام، والتى بدأت بكتاب «فجر الإسلام» ثم «ضحى الإسلام»، ثم أربعة أجزاء من «ظهر الإسلام» إنى إذ أقرأ اليوم فى أول كتب هذه السلسلة (فجر الإسلام) الذى كتبه فى منتصف العشرينيات من القرن الماضى، أى منذ ما يقرب من مائة عام، يعترينى انبهار شديد بهذا الميل الدائم لديه لرد كل شىء إلى أسبابه، وإلى تعليق أهمية كبيرة على أثر اختلاف الظروف الاجتماعية والطبيعية فى اختلاف العادات وأنماط السلوك والأفكار. إنه على استعداد دائم لرد اختلاف التفسيرات إلى اختلاف الظروف. لا عجب إذن من تأكيده المستمر على ضرورة الاجتهاد وابتداع حلول جديدة للظروف الجديدة، ونفوره من إخضاع العقل لحرفية النصوص، بدلا من تفسير النصوص بما يقضى به العقل.
ثم خطر لأبى، قبل وفاته بثلاث سنوات، أن يجمل تاريخ الإسلام كله فى كتاب واحد صغير، لا يكتفى فيه بتلخيص ما سبق أن كتبه فى مجموعة فجر وضحى وظهر الإسلام، بل وأن يصل بهذا التاريخ إلى اليوم الذى يكتب فيه، ويعرض رأيه فى سبب ما أصاب المسلمين من ضعف وتدهور، فأنتج كتابا جميلا أعطاه اسما ملائما هو «يوم الإسلام» (أعيد نشره حديثا عن طريق دار الشروق)، إذ هو الآن يتكلم لا عن الفجر أو الضحى أو الظهر، بل عن اليوم كله. ووصف فى مقدمته أحد أهداف الكتاب بهذه الجملة المؤثرة «أن أبين كيف كان (الإسلام) يعامل غيره من أهل الأديان أيام عزه وسطوته، وكيف يعامله غيره أيام ضعفه ومحنته».
من أسباب تميز هذا الكتاب (يوم الإسلام) فى رأيى أن أبى كان فيه ينظر إلى تاريخ الإسلام كله، فى سن متقدمة بلغ فيها مبلغا رائعا من الحكمة والبعد عن الصغائر، واعتمد فيه على ما اختزنه فى ذهنه على توالى الأيام، وليس على مطالعات جديدة، إذ لم تكن صحته ولا نظره يسمحان له بذلك. فأتى الكتاب مزيجا جميلا من الفكر والعاطفة.
احتلت الدعوة إلى ضرورة «الاجتهاد» مكانا بارزا فى هذا الكتاب، فهو يذكره ثم يعود إلى التأكيد عليه حتى نهاية الكتاب. وأنا أفهم «الاجتهاد» بمعنى تفسير النصوص الدينية بما يتلاءم مع الظروف والأحوال التى يراد تطبيقها فيها. وقد رأيت فى هذا الكتاب دفاعا مجيدا عن تحكيم العقل، وتفسيرا لانحطاطنا الراهن بهجرنا للاجتهاد والتنكر له، وتعقبنا لمن يجرؤ على الاجتهاد بالتسفيه والتخويف والعقاب. إنى أقرأ اليوم هذه الصفحات التى مضى على كتابتها ستون عاما، فأجدها كالهواء النقى المنعش وسط هواء فاسد، أفسده طرفان لا طرف واحد: طرف غلبه التعصب وضيق الأفق فى الاستخفاف بالحضارة الحديثة ومزاياها، وطرف بالغ فى الافتتان بالغرب وفى الاستخفاف بدينه وعقيدة قومه. فإذا بصوت أحمد أمين يبدو لى رائعا بتوازنه وحكمته، وجمعه بين حب عميق لدينه وأهله، وبين رغبة صادقة فى الارتقاء بهم، تدفعه إلى المناداة بتحكيم العقل وفتح باب الاجتهاد. ولكن شرح ما كان أحمد أمين يقصده يفتح باب الاجتهاد من جديد، يحتاج إلى مقال كامل آخر.