قصاصات من أوراق المفاوض المصري - سلمى حسين - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:43 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قصاصات من أوراق المفاوض المصري

نشر فى : السبت 12 ديسمبر 2009 - 10:34 ص | آخر تحديث : السبت 12 ديسمبر 2009 - 10:34 ص
صغيرة كانت قاعة الفندق الفخم، وتمتلئ بعشرات من رجال الأعمال وكبار موظفى وزارة التجارة. وكانت قد تمت دعوة بعض الصحفيين لحضور لقاء تحضيرى، تهدف الوزارة منه معرفة مطالب المزارعين ومصنعى المواد الغذائية قبل أن يبدأ طاقم الوزارة فى التفاوض مع الاتحاد الأوروبى.

فقد وافق الاتحاد الأوروبى على إعادة النظر فى الاتفاق الخاص بتبادل السلع الزراعية والسمكية ومصنعاتها. وهى فرصة أمام الجانب المصرى، لأن الاتفاقية التى بدأ تطبيقها منذ بداية 2004 جائرة وتعطى أوروبا عمليا إمكانية غلق أسواقها وقتما تشاء أمام القليل من السلع الغذائية المسموح استيرادها من مصر.

كأنها مكتوبة بلغة «المريخ»، تلك الاتفاقيات، لاحتوائها على مصطلحات صعبة. بل ولا تحتوى على أسماء السلع، بل لكل سلعة كود أو رقم تسمى به. مما يصعب على أى مراقب فك طلاسم الاتفاق إذا لم يكن يملك طريقة فك الشفرة. وبذلك تقتصر معرفة التفاصيل على المتخصصين جدا. وهو أمر من شأنه تضييق هامش الرقابة على تلك الاتفاقيات، التى يمتد أثرها لأجيال وأجيال. لذلك فإن مثل هذا اللقاء كان أمرا رائعا، لأن من شأنه أن يفك بعض طلاسم الاتفاقية السابقة واللاحقة بأمثلة حقيقية يطرحها أصحاب المزارع والمصانع. وبالفعل بدأ هؤلاء يتكلمون عن عيوب الاتفاق السابق، ونواقصه، بأمثلة حية جذابة. بل والسلع التى يطالب هؤلاء الاتحاد الأوروبى بأن يسمح بدخولها. كنز من القصص انبهر الصحفى بحيويتها وتفاصيلها. إلى أن تبدى فجأة أمر يفوق المنطق والخيال.

وقعت عيناه على اللافتة خلف المتحدثين على المنصة. الشعاران متجاوران. اللقاء يتم تحت رعايتهما معا. وزارة التجارة جنبا إلى جنب مع الاتحاد الأوروبى. ولكن كيف وهذا الأخير هو هنا الخصم؟ هو الطرف الذى يجب أن تبقى تفاصيل الموقف المصرى سرية عليه. وإذا بعينى الصحفى تنتقل إلى الحضور ليرى مجموعة من الأوروبيين يجلسون فرادى بين المصريين. أول سؤال تبادر إلى ذهن الصحفى هو هل يكون ذلك الاجتماع جزءا من المعونة، التى تقدمها أوروبا إلى الوزارة.. وهل يمكن قبول أن تكون المعونة الأوروبية لتنمية القدرات التفاوضية مقابل أن يحضر الأوروبيون مثل هذا اللقاء قبل شهر من جلوس ممثلى الطرفين على مائدة المفاوضات الرسمية؟ كيف ولماذا عميت الأعين عن هذه الحقيقة البديهية؟ وعندما سأل الصحفى المفاوضين المصريين هل يعلمون شيئا عن مطالب المغرب، التى كانت بدأت جولة مفاوضات مماثلة؟ أو هل تعلم المغرب شيئا عن مطالب مصر؟

وهل هناك مجال للتنسيق بينهما؟ كانت الإجابة عن تلك الأسئلة كلها بـ«لا». أى أن أوروبا تعرف والمغرب لا تعرف. كما غاب صغار المزارعين عن هذا اللقاء، وعن غيره، لا جمعية مزارعى البطاطس ولا الجمعيات التعاونية ولا أى منظمة حقوقية فلاحية. لم يستمع أحد لمطالبهم، رغم أنهم يمثلون 90% من حائزى الأراضى الزراعية، وهم الأحوج إلى أن يخترق إنتاجهم الأسواق الأوروبية. كان ذلك منذ عامين، ثم جاء الاتفاق منذ شهرين بلا جديد تقريبا، بلا نصر كبير ولا إخفاق كبير.

فقد نجح للمرة الثانية الاتحاد الأوروبى فى تغليب منهجه فى التفاوض.. ومن المفاوضات الثنائية غير المتكافئة إلى فضاء أرحب يحاول الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة فيه فرض منهجهما، دون نصر كبير حتى الآن.

إنه فضاء تحرير التجارة بين 150 دولة من دول العالم، عبر منظمة التجارة العالمية.

فمنذ أربعة أعوام، كانت القاهرة تستضيف اجتماعات تحضيرية لوزراء التجارة الأفارقة، وذلك قبل أشهر من انعقاد المؤتمر الوزارى السادس لمنظمة التجارة العالمية فى هونج كونج. هذه المنظمة من شأنها أن تدفع الدول إلى فتح أسواقها أمام سلع الدول الأخرى، بناء على نظرية مفادها أن زيادة التبادل التجارى دائما ما تعود بالنفع على البلدين، وتدفع النمو الاقتصادى. وهو ما ليس بالضرورة صحيحا، وفقا لتجارب الدول. المهم، جاءت الوفود الأفريقية، ومعها وفود من المنظمات غير الحكومية، من المعنيين بأثر فتح الأسواق على التنمية وعلى حياة البشر اليومية، مثل جمعيات مزارعى القطن الأفارقة، وجمعيات حقوق الإنسان، والحق فى الصحة وممثلى جهات بحثية مستقلة، لكل هؤلاء الحق فى حضور جميع الجلسات السرية منها والعلنية.

أما من مصر فجاء فقط ممثلو وزارة التجارة وزملاؤهم ممثلى وزارة الخارجية. لا أحد ممن سيقع عليهم آثار تلك الاتفاقيات. بل وبعد ستة أشهر، حين سافر الجميع إلى مسرح الأحداث فى هونج كونج، تحملت العديد من حكومات الدول الأفريقية جزءا من تكاليف سفر ممثلى تلك الجمعيات، بل وضمت بعض ممثليها إلى الوفد الرسمى، ليشهدوا بأنفسهم تطور المفاوضات داخل القاعات المغلقة. وكان هؤلاء ينقلون الأخبار إلى وسائل الإعلام وإلى الجماهير المحتشدة خارج مقر التفاوض، فتكون مظاهراتهم وسيلة ضغط على الدول الكبرى كى لا يتمكنوا من فرض اتفاق جائر يمس حياة الملايين من الفلاحين أو العمال فى الدول الأقل تقدما.

وقد نجحوا بالفعل فى تحقيق شعار أن «لا اتفاق خير من اتفاق سيئ»، وفشل الاجتماع بسبب رفض الدول النامية تقديم تنازلات من طرف واحد، لا تقابلها تنازلات من الدول الغنية. وكان للحركات الشعبية التى تظاهرت، فى الشوارع المحيطة بقاعة المؤتمرات، فضل كبير فى ما حدث. وفى بداية شهر نوفمبر الماضى، استضافت القاهرة مؤتمرا تحضيريا جديدا للدول الأفارقة، لكن شتان بين هذا المؤتمر وذاك.

فقد بدا من اللافتات أن المؤتمر تم برعاية منظمة التجارة العالمية (وربما بتمويلها). فقد كانت كل الجلسات مغلقة. وتمت دعوة الوفود الرسمية فقط. لا منظمات حقوقية ولا فلاحية. ولكل نتيجة مقدمة تشير إليها لمن يفطن.

كان السيد المسيح يحكى لحوارييه عن رسل سيأتون من بعده. منهم المزيفون ومنهم رسل حقيقيون. فسألوه وكيف نفرق بينهم؟ قال «من ثمارهم تعرفونهم». وهو بالفعل معيار حكم لا يخيب. فالنظر إلى النتائج لا يختلف عليه اثنان. وبالنظر إلى الاتفاقات التجارية التى أبرمتها مصر خلال العقدين الماضيين، نجد أنها إما لا تحقق مصلحة الاقتصاد والتجارة المصرية، أو لا تحقق أى فائدة أصلا، أى «زى قلِتها». والثمار الجافة المرة على مدى السنوات الفائتة هى الدليل.

قد يقول أحدهم أن الصادرات المصرية تضاعفت عبر السنوات الأخيرة بفضل تلك الاتفاقات، إلا أن العجز التجارى المتزايد ما زال علامة على عجز مصر على الإنتاج الكفء واختراق الأسواق. فكل خطوة مصرية تقابلها خطوات من موانئ الدول الأخرى إلى داخل أسواقنا، وهكذا يبقى الميزان فى صالح الدول الأخرى، كل الدول الأخرى. فنحن نشترى من الجميع أكثر مما نصدر. فمثلا تبقى مصر موسومة بعار عجز تجارى ضخم مع الاتحاد الأوروبى. بل وزادت قيمة هذا العجز، رغم أن السوق الأوروبية مفتوحة تماما أمام السلع الصناعية المصرية، بينما لن تفتح مصر سوقها تماما أمام السلع الأوروبية إلا فى 2015. كما تركزت زيادة الصادرات الزراعية المصرية فى الخضروات والفواكه، الآتية من عدد قليل من المزارع الكبيرة.

وبالمثل، فإن اتفاقية تحرير التجارة بين الدول العربية على مدى تسع سنوات لم تؤد إلى زيادة التجارة بين مصر والدول العربية إلا بمعدل أبطأ من زيادتها مع الدول الأسيوية والتى لا تربطها بمصر أى اتفاقيات تحرير تجارة. وللأسف، فإن للمفاوض المصرى نصيب كبير فى تلك المأساة. المقصود بالمفاوض هنا المؤسسة المسئولة عن التفاوض، واضعة الأهداف والتكتيكات. فتلك المرحلة وهى التحضير تشمل معرفة أهداف التفاوض والمعلومات اللازمة لإزالة أى غموض متصل بتلك الأهداف.

وتقول نظرية التفاوض إن 90% من نجاح عملية التفاوض إنما هو فى إجادة هذه المرحلة. بينما يقتصر دور المواجهة أثناء التفاوض المباشر على 10% ويكون مسئولا عنه الفريق المنفذ. فهؤلاء ما هم إلا شاشة العرض، ولكن العيب فيما تبثه تلك الشاشة من برامج.
سلمى حسين صحفية وباحثة متخصصة في الاقتصاد والسياسات العامة. قامت بالمشاركة في ترجمة كتاب رأس المال في القرن الواحد والعشرين، لتوماس بيكيتي. صدر لها في ٢٠١٤ كتاب «دليل كل صحفي: كيف تجد ما يهمك في الموازنة العامة؟».
التعليقات