بحسب قاموس المعانى، البقشيش هو مفرد بقاشيش وهو العطية المجانية أو الإكرامية أو الهبة أو الرشوة. و«البقششة» ليست مصطلحا اقتصاديا متعارفا عليه. لكن وزير المالية أحمد جلال استخدمه قبل أيام فى سياق رده على سؤال عن توجهات السياسة الاقتصادية للحكومة المؤقتة التى يرأسها حازم الببلاوى. قال الوزير: «كان بإمكاننا استخدام المنح المقدمة من دول الخليج لدى البنك المركزى فى «البقششة» على المصريين، لكننا استخدمناها فى تنشيط الاقتصاد وتخفيض عجز الموازنة والديون»، مضيفا بحسب تقرير للشروق نشر يوم الاثنين: «استثمرنا فى البنية التحتية، وهو استثمار فى المستقبل».
ومع أن «البقششة» ليست شرا كلها. فرفع أجور من هم تحت خط الفقر أو تحديد كادر محترم للأطباء قد لا يكون له فقط أثر إيجابى على عناصر العدالة الاجتماعية (وهى اعتبار أساسى إذا انطلقت من مطالب المصريين من نظام جديد يحكمهم، وهى هنا طبعا من مالهم هم وليس من مال الحكومة «فتبقشش عليهم» مما لا تملك أصلا، إلا أن هذا النوع من الإنفاق (المدروس وفى غير رشوة قطاعات بعينها كما حدث مرات عديدة منذ الثورة كأمناء الشرطة مثلا) له آثار تنشيطية على الاقتصاد فى حد ذاته بما يخلقه من قدرة شرائية جديدة. وهو ما دعا برنامج الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) لوضع رفع الأجور كواحد من أسس سياسات التعامل مع الأزمة العالمية والكساد المصاحب لها فى مواجهة سياسات «التقشف وأولوية تخفيض عجز الموازنة» الفاشلة، التى يدعو لها صندوق النقد الدولى.
بالرغم من ذلك، فمن الممكن قبول الفكرة التى يحدثنا عنها الوزير فى أن ضخ الأموال المتاحة (خاصة لو أنها تجىء من اقتراض خارجى) فى استثمارات تخلق وظائف وتحسن الخدمات فى بنية الاقتصاد هو أولى مما اصطلحت عليه دولة مبارك وحكومات المجلس العسكرى ومن بعدها حكومة مرسى من الاقتراض الداخلى والخارجى لشراء الولاء عبر التعيينات على غير معايير الاحتياج والكفاءة فى جهاز الحكومة أو الدعم لمن لا يستحق أو رفع أجور فئات بعينها أو ترك فئات أخرى تحصل على مئات الآلاف أو ربما الملايين من ميزانية الدولة وربما الصناديق الخاصة دون رقابة أو حتى ترشيد (البقششة). لكن هل أعطت فعلا حكومة الدكتور جلال الأولوية لهذا على حساب البقششة؟
أموال الخليج والفواتير
فى حوار مع أهرام أون لاين فى 19 أغسطس الماضى قال وزير المالية أحمد جلال بالنص فى معرض التفرقة بين الاقتراض الذى تقوم به حكومته وذلك الاقتراض الذى قامت به حكومة قنديل إن الحكومة القديمة كانت تقترض المبالغ لتغطية الإنفاق الجارى ولدفع الفواتير. وليست لدى أية نية لعمل ذلك.
وفقا لأرقام البنك المركزى رفعت حكومة قنديل حجم الدين الخارجى من 34.3 مليار دولار فى نهاية يونيو 2012 إلى 43.2 مليار دولار بنهاية 2013 وهو اعلى مستوى فى تاريخه بزيادة 25% فى عام واحد، فى الوقت نفسه الذى ارتفع فيه الدين العام المحلى هو الآخر لمستويات قياسية، وذهب أغلب هذا الاقتراض بالفعل لنفقات جارية منها زيادة معاشات القوات المسلحة وأجور العاملين بالشرطة ورفع موازنة الداخلية وشراء المنتجات البترولية المدعومة... إلخ. وتحسب المجموعة المالية هيرميس فى تقرير لها صادر نهاية نوفمبر أن حكومة الببلاوى تلقت وعودا بحزمة مساعدات خليجية وصلت إلى 15.9 مليار دولار تلقت مصر بالفعل منها ما بين 7 إلى 11 مليار دولار. وتكشف تقسيمة هذه الأموال استمرار سياسة «البقششة» و«سداد الفواتير» على حالها.
فبحسب التقرير، فمن هذه الأموال القادمة من 3 دول هى الإمارات والسعودية والكويت، هناك 6 مليارات ودائع فى المركزى، و3 مليارات دعما للموازنة، و2.9 مليار منحا لمشروعات، و4 مليارات فى صورة مواد بترولية. وحتى الآن تم الإعلان عن حزمة واحدة باعتماد إضافى فى الموازنة صدر بقرار من الرئيس المؤقت عدلى منصور فى 23 أكتوبر الماضى. وإذا حسبنا نسبة ما خصص لحزمة التنشيط الاقتصادى للمستقبل على حد تعبير الوزير سنجد أنها لا تتجاوز 15.8 مليار جنيه، أى 2.3 مليار دولار (بسعر 6.80 جنيه للدولار) وهو ما يوازى 14% من إجمالى القروض الخليجية الموعودة وما بين 24% إلى 32% فقط مما تلقته مصر بالفعل منها. ويعطينا هذا فكرة عن الأولويات وكيف تذهب للبقششة (النفقات الجارية وسداد الفواتير): مثلا أعلنت الحكومة عن سداد 3 مليارات دولار للشركات الأجنبية العاملة فى مجال البترول والـ 4 مليارات للمواد البترولية... إلخ.
بل إن تمويل الحزمة أصلا ليس من أموال الإمارات والسعودية الجديدة. يكشف القرار الجمهورى (42 مكرر الصادر فى 23 أكتوبر) حقيقة أخرى وهى أنه عندما تحدث عن تمويل الاعتماد الإضافى بقيام المركزى المصرى بشراء «حساب المبالغ الواردة من الدول العربية» لم يكن يعنى المساعدات الجديدة وإنما المنح التى تلقتها مصر من دول الخليج بعد مشاركتها فى حرب الخليج فى أوائل التسعينيات والتى وضعها مبارك فى المركزى وتم ضمها للاحتياطى وتبلغ قيمتها حاليا 8.78 مليار دولار. وهو ما يعنى أن هذه الحكومة قد فكت هذه الوديعة لحساب المالية دون أى نقاش بالطبع عن ضرورة ذلك أو ما الذى يتم فعله بالنسبة لأموال الخليج أو هل كان يمكن الاستغناء عن أموال الخليج تلك. ومن الجدير بالذكر هنا أن أموال الخليج الجديدة لم تستخدم فى الحزمة الاقتصادية وأن باقى التسعة مليارات دولار تم تجنيبها فى رصيد الحسابات المؤقتة بالمركزى مما يمكن الحكومة من المزيد من الاقتراض بالجنيه من المركزى بلا فائدة بضمان هذه الأموال. وبينما يقدر وزير المالية الأسبق د. سمير رضوان أن مصر كانت تحتاج فى أبريل 2011 حزمة تنشيط اقتصادى بالتوسع فى الاستثمارات العامة لا تقل عن 40 مليار جنيه، فهو يقدر أن المطلوب الآن يصل إلى ما لا يقل عن 100 مليار جنيه. ويحتاج تركيب الحزمة التى تم الإعلان عنها تحليلا مستقلا لبيان إذا كانت الاستثمارات العامة المتضمنة فيها ونسبتها من إجمالى ما تم إنفاقه تمثل الأولويات الصحيحة أم لا.
وفى الوقت الذى تتحدث فيه الحكومة عن حزمة جديدة قريبا، فإنه ربما يتم تجميد هذه الأموال القادمة من الخليج لكى يتوافق ضخها ( فى بقششة أو غيرها) مع وصول الرئيس الجديد الموعود للسلطة.
ليس كلُ الأمر فى الاقتصاد
فى اتفاق القرض التركى المنشور بالقرار الجمهورى بالعدد 47 من الجريدة الرسمية فى 22 نوفمبر 2012 بتوقيع الرئيس المعزول محمد مرسى، يقول أحد البنود بالنص: «يبذل المقترض (مصر) قصارى جهده لضمان أن الشركات التركية تشترك فى تنفيذ مشروعات القطاع العام الاستثمارية التى ينفذها المقترض فى السنوات القادمة». هذا الالتزام الدولى، الذى يصل لحد الإذعان، على حكومة مصر اليوم تم من خلال اتفاق قرض واحد بمليار دولار فقط مع تركيا. بينما اتفاقات القروض الأخرى التى تم توقيعها مع قطر وتركيا وغيرهما ثم الإمارات والكويت والسعودية وأيضا مع البنك الدولى والبنك الأوروبى وغيرها غير منشورة ولم تناقش من برلمان ولا من الرأى العام وتصدر خلال الشهور الماضية من حكومة مؤقتة غير منتخبة تقول إنها سترحل خلال أشهر. المشكلة ليست فقط فى تضخم رصيد الدين الخارجى الذى من المتوقع أن يقفز بحساب المبالغ المقترضة الجديدة إلى حدود الستين مليار دولار حتى بعد سداد مصر لحوالى 3 مليارات دولار من ديون قطر (متوسط نصيب كل مصرى من الدين الخارجى كان 399 دولارا فى يونيو 2010 وارتفع إلى 489.9 دولار فى يونيو 2013 ومن المنتظر أن يزيد بالتطورات الأخيرة إلى 670 دولارا بنسبة ارتفاع 38%)، ولا فقط فى أعباء الفوائد والديون بالعملة الصعبة التى ستترتب عليها (فائدة القرض التركى كانت منخفضة وتتحدد بمتوسطات السوق العالمية المتراجعة وفائدة الصندوق لم تتجاوز 1.5% ويقال إن القروض العربية الجديدة منخفضة الفائدة أو بلا فائدة أصلا). هناك أيضا ما قد نفاجأ به فى اتفاقات الاقتراض السرية تلك من شروط إذعان على النمط التركى السابق. بل إن الحكومة تحدثنا الآن بوضوح عن المزيد من الدعم الخليجى فى صورة استثمارات. وبنظرة على المشروعات التى طرحت على المستثمرين الخليجيين فى مؤتمر الاستثمار الأسبوع الماضى نكتشف أنها تتضمن «سككا حديدية متميزة وخطوط مترو ومشروعات سكنية وفندقية على أراضى روض الفرج» بحسب تقرير الشروق يوم 6 ديسمبر. هذا فى حد ذاته تعبير عن توجه يتم إرساؤه لدخول رأس المال المصرى فى مشروعات بنية أساسية استراتيجية وفى الخدمات والمرافق العامة فى واحدة من أعمق وأكثر صور الخصخصة تأثيرا.
ليس هكذا تسقط سياسات «البقششة» من مالنا وعلى حسابنا ولغير مصالحنا، وليس هكذا تتحقق العدالة الاجتماعية، وليس هكذا يتم إرساء الاستقلال الوطنى.