فى أيامه الأولى لسكناه بالبيت الأبيض، كشف الرئيس الأمريكى عن رؤيته لمنطقة الشرق الأوسط والصراع العربى الإسرائيلى، بوضوح لا يترك مجالًا للغة دبلوماسية تجمله، ولا لمواربة تمرر تشوهاتها وركاكتها البنيوية وانحيازها المفرط إلى حد التماهى مع الأمانى الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، ذلك أن إسرائيل -عنده- صغيرة كالقلم على سطح مكتبه البيضاوى الكبير، الأمر الذى يدفع بالولايات المتحدة لأخذ الأمور فى قطاع غزة المدمر بيدها، ونقل سكانه» لدول أخرى مجاورة، ويقول بثقة، إنه حادث رؤسا«ءها، وأنهم سيفعلون رغم إعلانهم ممانعتهم، وذلك تمهيدًا ليحول «هو» القطاع لريفييرا الشرق الأوسط، وكأنه أحد مشروعاته العقارية التى يراهن عليها.
لم تقتصر هجمته على منطقتنا ودولنا المكافحة المجهدة، وإنما هو قد توجه بنزائر الويل والبثور لقارته الأمريكية شمالها وجنوبها، ولكبريات دول أخرى، إشعالًا لحرب تجارية عالمية، وطردًا وترحيلًا لمهاجرين ببلاده، وكأنه التطهير العرقى أو ما يشابهه، لغة ترامب تعبيرًا عن إرادة أحادية يراها كفرائض الأديان، تأتى متجاهلة للتاريخ وبعيدة عن حكمة السياسة، ومنكرة للحقوق، ومتجاهلة للشعوب أصحاب الحق الوحيد فى تقرير مصائرها، ومقوضة لركائز أساسية للقانون الدولى وللعلاقات الدولية، وهو من بادر بالانسحاب من عديد من الاتفاقيات المهمة، وهدد علانية بتعقب محكمتى العدل الدولية والجنائية الدولية لموقفهما من إسرائيل.
جاءت الهجمة بعد الساعات القليلة لبداية ولايته التى قيل فيها عن ضغوطه وإكراهه نتنياهو لقبول اتفاق وقف إطلاق النار فى غزة، وهو ما كان من باب التسويق السياسى قبل الإفصاح عن نواياه التى يقصد إليها غير عابئ بأحد.
يتمحور السؤال الكبير حول ما يمكننا فعله؟ وما هى خطوط دفاعنا السلمية عن حقوقنا الوطنية المستهدفة بالعدوان؟ وما هى مسؤليات كل منا دولًا وقيادات ومؤسسات ونخبا وشعوبًا وقد دنت ساعة الحقيقة.
* • •
سارعت قيادات مصر والأردن وهما المعنيان أكثر من غيرها بالعدوان على سيادتهما، برفض ذلك المخطط فى خطابيهما المعلن، ورأينا تطاهرات على الحدود تعبيرا عن موقف شعبى برفض التهجير الذى يمثل فى جوهره إنهاء للقضية الفلسطينية من جانب وعدوانا جسيمًا على السيادة المصرية وترابها الوطنى من جانب آخر، ثم عقدت مؤتمرًا سداسيًا للإعلان عن رفض الأمر وتوالت ردود الأفعال الرسمية بالرفض صراحة أو ضمنًا! وفى ذات الوقت تتوالى تصريحات الرئيس الأمريكى الواثقة من إتمامه لما أفصح عنه؟ فهل يكفينا ما فعلناه أم أننا نبرئ أنفسنا من قدر نسلم بأنه واقع لا محالة؟!
ينبغى أن نتفق ابتداءً على أننا لا نستهدف بأى تحرك رسمى أو شعبى لدولنا، الدخول فى حرب مع الولايات المتحدة أو الانسياق إليها، ليس فقط لتقديرنا لقوتها العسكرية وقدراتها القتالية، ولكن وفى المقام الأول لأننا دعاة سلام وحماة حقوق، إلا أن ذلك لا يمنعنا من مغاضبتها بالحق، ومن منازلتها بما نمتلكه من أدوات وأوراق سلمية فى المقام الأول، ومن محاولة إثابتها لرشدها وإلزامها بمسئولياتها الأخلاقية وبقيم القانون والعدالة، إذ هى بمنهجها الجديد لا تتجه لاستهدافنا فحسب، بل تكاد تعلن عزمها على هدم المعبد «الكوكب» على رءوس الجميع، وهو ما لن يسمح العالم به.
• •
على قياداتنا ألا تمل -وأعنى ملوكًا ورؤساء- أن تعلن وبأوضح العبارات وأجزمها وفى كل المناسبات والمحافل العلنية، كما فى غرف التفاوض والحوار المغلقة رفضها القاطع لذلك النهج.
وعليها أن تتمسك بالمبادرة العربية المعلنة فى قمة بيروت 2002 (مبادرة الملك عبدالله) كحد أدنى لسلام المنطقة ولتطبيع علاقاتها، إنهاء للاحتلال وإقامة للدولة وتعويضًا عما كان من آلة الحرب الإسرائيلية على مدى سنوات الاحتلال للضفة وغزة، ذلك هو الحد الأدنى لسلام نقبله، أما ما عداه كما هو مطروح فهو استعادة لعصر إمبريالى فات أوانه ولن يعود، فالولايات المتحدة ليست إلها يعبد وتساق له القرابين ليرضى.
• •
وعلى نخبنا وقوانا الحية من مفكرين ومثقفين وكتاب، أفرادًا ومن خلال فاعليات مؤسسات المجتمع المدنى التى ينتسبون إليها من نقابات وصحف ومراكز بحوث وجامعات وأندية، ألا يتوقفوا عن إدانتهم لذلك المخطط وفضح أى محاولة للالتفاف لتمريره أو تسويغ تكريسه واقعيًا وكذلك تهيئتهم للرأى العام ومشاركتهم له عبر كل وسائل الاتصال المتاحة لإظهار الرفض الشعبى لتصفية القضية وللتهجير ولإجهاض حقوق الشعب الفلسطينى غير القابلة للتصرف وعلى مؤسساتنا الرسمية وأعنى البرلمانات والمنظمات القضائية أن تعلن مواقفها كذلك، وإذا كان منها ما ينبغى خصه بالذكر وإيضاح الدور المنوط به والمأمول منه، فإن للجيوش أولًا وللبرلمانات ثانيًا وللمحاكم الدستورية ثالثًا أدوار معقودة عليهم وحدهم، لست أنا بالمكلف بتذكيرهم بها، ولا هم بالقاصرين عن معرفة مقتضياتها.
الجيوش العربية لم تؤسس فى الدول إلا للزود عن أمنها الوطنى وسيادتها الإقليمية، ذلك عملها وتلك رسالتها، وهذا قسمها الذى عاهدت شعبها عليه وتلقى وجه ربها مسئولة عنه. عليها إذن أن ترتقى إلى أعلى درجات الجاهزية القتالية ولأبعد وأسوأ تقديرات الموقف احتمالًا، وأن تأخذ نفسها بأشد ضوابط الالتزام الوطنى والحكمة فى التصرف والتحركات، عليها أن تعى أننا فى صراع وجود وقد تأكدت حقيقته وجوهره، خالفنى سفير راحل على مقال لى بالأهرام فى التسعينيات مخففًا بلغته الدبلوماسية الملتفة قولا بأن الأمر ليس صراع وجود بل صراع حقوق فشرحت فى مقال تالٍ لتصريحه بأنه إن كان الخلاف على أرض الوطن فإن حق الشعب عليه هو من حيث التكييف حق ملكية تأسيسية، وحق الملكية يعنى لصاحبه استئثاره دون غيره بكل ما ينتجه استعمالًا واستغلالًا وتصرفًا، فإن كان الحديث عن أرض الوطن لا عن ملكية عقار، فهو أشد وأبعد إذ الوطن وعلى حد تعريف الإمام محمد عبده هو (محل الإنسان مطلقًا فهو المكان الذى يحفظ حقك فيه، ويعلم حقه عليك، وتأمن فيه على نفسك وأهلك ومالك، وهو المكان الذى تنسب إليه، فيه من موجبات الحرص والغيرة ثلاثة تكاد أن تكون حدودا، الأولى أنه السكن الذى فيه يقر الأهل والولد، والثانى أنه مكان الحقوق والواجبات اللتين هما مناط الحياة السياسية، والثالث أنه موضع النسبة التى بها يعلو المرؤ ويعز، أو يدنو ويسفل) فإن كان الصراع على موضع كهذا فهو ليس صراع حقوق بل صراع وجود إذ بعدمه، تنعدم حياة الإنسان وتنعدم قدرته على تمكين حياته وتحقيق ذاته وتعاقب أجياله، ولا وجود له إلا مع حرية الإنسان فيه. ولذلك فإن وصف أهل غزة بلفظ «السكان» هو وصف ملتبس مغرض فهم ليسوا سكانًا بل مواطنون أصلاء على جزء من أرض وطنهم المحتل، ليسوا سكانًا لينقلوا دون إرادتهم أو إكراهًا لهم.
* • •
أما عن البرلمانات الوطنية والبرلمان العربى فعليهم جميعًا أن يعقدوا مؤتمرا جامعًا يصدرون فيه وثيقة معبرة عن إرادة شعوبهم التى يمثلونها رفضًا للتهجير وتأكيدًا على حل الدولتين وتمسكًا بمبادرة قمة بيروت 2002.
وكذلك فعلى المحكمة الدستورية العليا أن تدعو لمؤتمر جامع للمحاكم العربية النظيرة ومعها محاكم النقض والإدارية العليا ونظائرها العربية، وللاتحاد القضائى الدولى لتصدر هى الأخرى وثيقة تؤكد عدم شرعية الاحتلال ووجوب الامتثال لقرارات الشرعية الدولية ولأحكام القانون الدولى وترفض أى توجه للتهجير أو لتصفية القضية مؤكدة على كافة حقوق الشعب الفلسطينى المحتلة أراضيه بما فيها حق العودة.
• •
وينبغى لشعوبنا أن يسمع زئيرها ليعلم كل أحد أن التهجير والتوسع لن يتما على حساب الحقوق العربية، وأعتقد أن يوم الثلاثين من مارس، والذى يصادف أول أيام عيد الفطر لهذا العام، ويتوافق مع يوم الأرض الفلسطينى، يمكن أن يكون التظاهر المليونى السلمى فيه مسمعًا لصوت الشعوب والتى يجب على حكوماتنا أن تثق فى حكمة شعوبنا ويقظتها وحرصها على أوطانها فليست المؤسسات الرسمية فقط هى من يحتكر الوطنية أو يحتكر التعبير عنها فى مفصل يهدد وجود الوطن وسيادته.
أخيرًا فإن اتفاقيات السلام ستكون على المحك مراجعة وتصويبًا إن جرى أى اعتداء على سيادتنا الوطنية ووحدة وسلامة أراضينا بالتهجير، فالمبدأ الأصيل فى القانون الدولى يرهن بقاء أى اتفاق دولى ببقاء الشروط على حالها وإلا جاز التحلل منها، وهو ما لا ينبغى إسقاطه من خياراتنا.