الرأى الاستشارى لمحكمة العدل بشأن الاحتلال الإسرائيلى - حامد الجرف - بوابة الشروق
الأحد 8 سبتمبر 2024 3:21 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الرأى الاستشارى لمحكمة العدل بشأن الاحتلال الإسرائيلى

نشر فى : الخميس 25 يوليه 2024 - 6:35 م | آخر تحديث : الخميس 25 يوليه 2024 - 6:40 م

بناء على طلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة، أصدرت محكمة العدل الدولية رأيها الاستشارى بشأن الاحتلال الإسرائيلى للضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة الجاثم عليها منذ يونيو 1967 منتهية لعدم قانونيته وفقًا لأحكام القانون الدولى، واصفة ممارسات دولة الاحتلال بأنها - وطيلة الفترة السابقة - كانت قاصدة لضم تلك الأراضى، وبأنها خالفت كل التزاماتها الدولية كسلطة احتلال وفقا للاتفاقيات الدولية، وموضحة ما تعرض له مواطنو الأراضى المحتلة من جور وعسف وسياسات عنصرية وتمييزية وبطش وعدوان. ويعد ذلك الرأى الاستشارى بمثابة حجر الزاوية فى توصيف الممارسات الإسرائيلية منذ يونيو 1967، والذى سبقه إصدار ذات المحكمة لرأيها الاستشارى بشأن عدم مشروعية إقامة إسرائيل لجدار العزل العنصرى عام 2004 والذى يعد بمثابة تفريع على الأصل الذى تثبتت منه المحكمة وأكدته ووصفته برأيها الاستشارى الأخير.

أوردت المحكمة فى رأيها ما مفاده، أن طول مدة الاحتلال (57 سنة) مع التواجد العسكرى المتواصل للقوات الإسرائيلية بالأراضى المحتلة، وما أقامته فيها من بنى تحتية، وما أنشأته بها من مستوطنات يزيد عدد القاطنين فيها على ستمائة ألف مستوطن، تنفى فى مجملها أى طابع مؤقت للاحتلال، خاصة وأنها ترفض الانصياع للشق المتعلق بإقامة دولة فلسطين من قرار إنشائها هى، ولدرجة أنها استبقت صدور الرأى الاستشارى الأخير للمحكمة بإصدار قانون من الكنيست بمنع أى تصويت على أى مشروع يقترح الموافقة على إقامة دولة فلسطينية.

انتهت المحكمة فى رأيها ليس فقط لعدم قانونية الوجود الإسرائيلى فى الأراضى المحتلة وعدم شرعيته بل لوجوب إنهاء ذلك الوجود ولوقف أى توسع استيطانى وإجلاء المستوطنين من الأراضى المحتلة وتعويض السكان المحليين الشرعيين، منبهة لضرورة عدم اعتراف المجتمع الدولى بالتواجد الإسرائيلى فى المناطق المحتلة، وإسراع الأمم المتحدة فى اتخاذ ما يلزم لإنهاء التواجد الإسرائيلى فيها.

• • •

من المعلوم أن محكمة العدل الدولية وبحكم المادة الأولى من نظامها الأساسى وبموجب ميثاق الأمم المتحدة تعد هى الجهاز القضائى الرئيسى للمنظمة الأممية، وهى إذ تختص بالحكم فى المنازعات التى تنشأ بين الدول إذا ما رفعت إليها إذ إن الدول فقط هى التى يجوز لها أن تكون طرفًا فى القضايا التى ترفع إليها وفقًا للمادة 34 من النظام الأساسى لها، إلا أنها تختص كذلك بوظيفة إفتائية وفقًا للمادة 65 من ذات النظام، فلها أن تصدر آراء استشارية بشأن أى مسألة قانونية بناء على طلب أى هيئة مخولة وفقًا لميثاق الأمم المتحدة لتقديم مثل ذلك الطلب. وتلتزم المحكمة قبل إبداء رأيها بإخطار الدول ذوات الصلة والسماح لها بتقديم بياناتها بشأن موضوع الطلب ثم تصدر رأيها الاستشارى فيه بعد دراسته فى جلسة علنية مثلما فعلت، كما وتلتزم المحكمة من بعد، بإعلام الأمين العام للأمم المتحدة وممثلى الدول الأعضاء بها والمنظمات الدولية المعنية بالرأى الاستشارى الذى أصدرته على الفور.

من المعلوم أيضا أن المحكمة كما تلتزم فى إصدارها لأحكامها بما نص عليه نظامها الأساسى من المادة 38 منه من مصادر للقانون الدولى، فإنها تلتزم بذات تلك المصادر كما حددها النص فيما تصدره من آراء استشارية، ومجملها يتمثل فى الاتفاقيات الدولية العامة والخاصة، والعرف الدولى المقبول بمثابة قانون، والمبادئ العامة للقانون المعترف بها فى كافة الدول المتحضرة. أى إن المحكمة باعتبارها جهازا قضائيا تلتزم وفقط بقواعد القانون الدولى فى أحكامها التى تصدرها فى الدعاوى التى ترفع إليها وكذلك فى الآراء الاستشارية أداء لوظيفتها الإفتائية إذا ما طلب ذلك منها. فلا محل فى أحكامها أو آرائها لإعمال المواءمات أو التوازنات السياسية بين الأطراف أو لأى اعتبار واقعى أو عملى آخر.

وإذا قيل بأن الآراء الاستشارية الصادرة عن المحكمة هى مجرد فتاوى غير ملزمة، فإن ذلك القول يعد مجافيًا للصواب من الناحيتين القانونية التنظيمية والواقعية معًا، فاعتبار الرأى غير ملزم لا يعدو أن يكون إعمالًا لنظرية الفصل بين السلطات فى شأن التنظيم الدولي، فالجهاز القضائى يتوقف عند حد الإفتاء- أى بيان الصواب القانونى فى المسألة المطروحة- بينما تستقل الأجهزة التنفيذية الأخرى للمنظمة الأممية بالعمل على تنفيذها، من أجل ذلك يتم إعلام الأمين العام بالرأى الاستشارى والذى له أن يضعه على جدول أعمال مجلس الأمن متى كان الأمر يشكل تهديدًا للسلم والأمن الدوليين وبما قد يصل إلى حد تنفيذ الرأى بموجب قرار من مجلس الأمن إعمالا لأحكام الفصل السابع من الميثاق، هذا فضلًا عن أن صدور الرأى الاستشارى من تلك المحكمة الرفيعة القدر والتى تحوط الميثاق لتشكيلها وإجراءاتها وفقًا لما ورد بنظامها الأساسى من ضمانات، يمنحها قوة إلزام معنوية كبرى خاصة أنها تعلن لكافة أعضاء الأسرة الدولية ولكافة المنظمات الدولية، بما يجعل من الدولة التى صدر الرأى الاستشارى مثبتًا لمخالفتها لأحكام القانون الدولى، بمثابة دولة مارقة خارجة عن نطاق الشرعية الدولية ومتأبية عليها ولكونها كذلك فإن أحكامها لا تستأنف وآراءها الاستشارية لا يعقب عليها.

• • •

نأتى للدلالات السياسية والقانونية لذلك الرأى الاستشارى وتجلياته على مسار النضال الفلسطينى استهدافًا لإنهاء الاحتلال وإنشاء الدولة لنجد أن ذلك الرأى:

1- يؤكد عدم شرعية الاحتلال والاستيطان، وتهافت كل المقولات الإسرائيلية من كون الأراضى المحتلة أراضى متنازعا عليها أو أنها أراضيهم (يهودا والسامرا) إذ هى تخرصات ومحض أوهام فى موازين القانون الدولى.

2- يؤكد ذلك الرأى كذلك أننا بصدد سبب إباحة لأصحاب الأراضى المستضعفين فيها على مدى سنوات الاحتلال فى مقاومته، خاصة إذا ما تمثلنا كل ما مارسته إسرائيل من إجراءات عنصرية ومن بينها إقامة الجدار العازل، وما قامت به من أفعال الإبادة الجماعية وما كان طوال السنوات الماضية من مسلسلات استفزاز بقصد التنكيل بأصحاب الأرض ودفعهم لليأس من إمكانية تغيير الأوضاع الجائرة بما يعنى بمفهوم الاقتضاء مشروعية أفعال المقاومة بدءًا من السابع من أكتوبر.

3- يدعم ذلك الرأى كذلك الحجة القانونية والواقعية فى إسقاط مذكرة التوقيف الصادرة بحق قادة المقاومة من المحكمة الجنائية الدولية وإلغائها إذ لا يتأتى فى مقام الدفاع الشرعى المساواة بين الجلاد والضحية.

4- يعد كذلك الرأى قاطعًا للنزاع، مانعًا للمماحكة، بشأن وجوب إنهاء الاحتلال وإنشاء دولة فلسطينية ذات سيادة وكاملة العضوية فى الجماعة الدولية وذات جيش يحميها.

5- يعد كذلك الرأى حلقة صلبة تغلق الأمر على إسرائيل وحكومتها وسياسيها فيما يتصل بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى وغير القابلة للتصرف بما فيها حق العودة، إذ جاء متزامنا ليس فقط مع صحوة للرأى العام العالمى المناصر للقضية، وإنما مع زخم رسمى على المستوى الدولى اعترافًا بفلسطين وتأييدًا للمقاومة.

وليس أبلغ فى الدلالة من تزامن صدور ذلك الرأى مع خطاب العرش البريطانى فى البرلمان الإنجليزى والذى التزمت فيه حكومة حزب العمال الجديدة بالعمل على قيام دولة فلسطين ذات سيادة وهو ما نثمنه لحكومة حزب العمال وللمملكة المتحدة تصحيحًا للخطأ التاريخى لوزير خارجيتها السابق، آرثر بلفور، فى وعده للورد رونشيلد بإنشاء إسرائيل ليأتى خطاب العرش الأخير مصححًا ولو فى زمن متأخر لموقف استعمارى خاطئ.

• • •

لذلك كله قامت قيامة إسرائيل تهجمًا على المحكمة وعلى رأيها الاستشارى ولجأ سياسيها لتخرصاتهم الفارغة ومقولاتهم المتهافتة فى محاولة للنيل من ذلك الرأى أو التشويش عليه، فقيادة إسرائيل متيقنة بأنها معركتها الأخيرة والفاصلة، ولذلك فهى تجنح لمزيد من التشدد، فبعد محاولة اصطناع انتصار هزيل زائف فى تحرير بعض المحتجزين فى مخيم النصيرات، ولقطات تليفزيونية هشة لكبيرهم فى محور فيلادلفيا، وصرخات هنا وتهديدات هناك بإشعال الجبهة الشمالية، لم يقدروا على شىء، لأن إسرائيل قد بلغت أقصى قدرتها على تحمل القتال، وباتت مهزومة فى قطاع غزة بكل المقاييس ولأنها غير قادرة على فتح جبهات متعددة حتى وهى فى ظروف أفضل، كما وأن ضربات الإبادة الجماعية فى القطاع وحتى قصفهم للحديدة ومن قبلها فى ردهم على اشتباكهم مع إيران واحتياجهم لأكثر من معين لصد هجمات إيران عليهم، يؤكد أن إسرائيل غير قادرة على الحرب بدون إسناد أمريكى، تسليحًا وتمويلًا وإسنادًا قتاليًا ودعما سياسيًا وأنها غير قادرة بمفردها على حسم أى معركة.

ثم يأتيها ليس فقط موقف الرأى العام العالمى وإنما كذلك الموقف القانونى الدولى المتمثل فيما صدر عن محكمتى العدل والجنائية الدولية وما سوف يصدر من حكم فى دعوى جنوب إفريقيا لاحقًا ليؤكد انحسار غطاء أى شرعية عنها، وليؤكد لها ولمن يساندها أنهم إنما يمارسون إرهاب الدولة والبلطجة السياسية فى كل الجبهات والمحافل، أما الجانب المحزن حقا فهو موقفنا نحن الذى هان على أصحاب الأمر فيه بعدما بيعت لهم الأوهام، فشيطنوا المقاومة الفلسطينية واعتبروها عدوًا لهم ليجدوا أنفسهم يصطفون فى الجانب الخطأ، ولا شك فى أن حكم التاريخ سيكون قاسيًا علينا إن لم ننتبه ونستفيق.

حامد الجرف قاضٍ مصري سابق
التعليقات