دخل بيت صديق حميم هاتف جديد من نوع المحمول كنا قد سمعنا عنه العجب، وكيف أنه يؤدى عشرات المهام التى لا تجتمع فى غيره، ومنها أو فى مقدمتها أنه يقدم بأمانة منقطعة النظير وكفاءة نادرة تقارير فورية إلى جهات خارجية عن جميع تحركات صاحبه واتصالاته ونواياه كما تظهر فى جدول المواعيد أو فى المفكرة الشخصية.
وصل الهاتف وفى صحبته كتيب متعدد الصفحات واللغات والرسومات والصور لإرشاد المستخدم وتعريفه بالجهاز وخطوات تشغيله وطرق الاستفادة المثلى من امكاناته الهائلة. وكعادة أصيلة لدى المصريين تهرّب صديقى من قراءة الكتيب وأقبل منفردا على استخدام الجهاز معتمدا على علاقته الطويلة بأجهزة أخرى على امتداد السنوات الماضية. انتهت المحاولات برحلة إلى محل الصيانة حيث استمع مطأطئا الرأس إلى نصيحة غالية. اقرأ الكتيب.
•••
تذكرت أول محمصة خبز دخلت حياتى قبل عقود عديدة. جاءت يصحبها كتيب إرشادات لا يزيد عدد صفحاته على عدد صفحات مطوية الإرشادات التى تدسها هذه الأيام شركات الأدوية داخل علبة الدواء. وبمرور الوقت ومع التقدم التكنولوجى تنوعت الكتيبات شكلا وحجما حتى صارت تحتل حيزا لا بأس به فى الخزائن والأدراج. جاءت مع المكواة الكهربائية وغسالة الملابس والفرن الميكروويف ومجفف الشعر والخلاطات بأنواعها وجاءت مع التليفون اللاسلكى كأول طلائع الهواتف المحمولة. أقلنا يقرأها وأكثرنا يحتفظ بها وأظن أننا أشد شعوب الأرض إهمالا لها. فى النهاية نحن الخاسرون لأننا لم نحسن إقامة علاقة طيبة ومستقرة وعلى أساس من الفهم مع هذه الأدوات التى صارت من ضرورات الحياة الحديثة.
•••
كتب أحد خبراء الإدارة فى مجلة يقرأها رجال الأعمال ينصح رئيس العمل فى المصنع أو الشركة بإعداد كتيب ارشادات يوزع نسخا منه على كافة مرءوسيه يرشدهم إلى مفاتيح شخصيته وأفضل الطرق للتعامل معه. إن أول ما يتبادر إلى ذهن موظف جرى تعيينه فى وظيفة جديدة هو السؤال عن طباع الرئيس الذى سيعمل تحت قيادته. أول سؤال يسأله موظف وزارة الخارجية المنقول للعمل بسفارة فى الخارج هو المتعلق بالسفير الذى سيعمل معه، طباعه وتجاربه ومنظومة أخلاقه ومبادئه ومجالات اهتمامه وأولوياته. سفير قد يهتم باحترام مواعيد الحضور والانصراف، بينما سفير آخر يفضل أن يرى مرءوسيه يتنقلون بين المسارح ودور الأوبرا والمنتديات الثقافية والسفارات الأخرى. أعرف أن دولا عظمى توزع على دبلوماسييها كتيبات لإرشادهم عن البلاد المزمع نقلهم اليها، جوها، سياساتها وتاريخها وأهم معالمها وتقاليد أهلها وعاداتهم. أولى بوزارة خارجيتنا أن ترفق مع كل كتيب عن البلد المنقول اليها الدبلوماسى كتيبا عن السفير الذى سيعمل معه.
•••
كلنا، فى مرحلة أو أخرى من مراحل حياتنا، وفى كل مرة يسوقنا الحظ إلى العمل مع رئيس جديد، كنا نسأل كل من يعرفه عن بعد أو عمل معه من قبل أسئلة من نوع كيف يكون مزاجه فى الصباح؟ هل يفضل أن ينجز عمله هاتفيا أم باللقاء المباشر؟ هل من بين هواياته النميمة؟ هل علاقته بزوجته طيبة وهل تتصل به كثيرا خلال ساعات العمل؟ هل مزاجه من النوع المتقلب؟ هل يتدخل فى الشئون الشخصية لمرءوسيه؟ هل يبخس حق مرءوسيه أمام المسئولين الأعلى درجة أو مقاما؟
لو أن كل مرءوس جديد أتيحت له الفرصة للتعرف على تفاصيل شخصية رئيسه ومفاتيحها قبل أن يلتحق بوظيفته الجديدة، ولو أن كل رئيس جديد جاء للعمل وفى صحبته نسخ من كتيب إرشادات للتعامل معه لوفرنا على الرئيس والمرءوسين أياما صعبة وصدامات تعيسة تسبب فيها سوء الفهم المترتب عن الجهل المتبادل بين رئيس ومرءوسيه.
أتوقع تعليقا على هذه الفكرة يقترح فيه صاحبه أن يقوم بكتابة كتيب الارشادات نيابة عن الرئيس طرف ثالث وليس الرئيس نفسه، تماما ككتيبات الإرشادات عن الغسالة الكهربائية والمكواة والهاتف المحمول وجهاز التليفزيون فهذه يكتبها طرف ثالث يعرف جيدا دقائق الآلة ونقاط ضعفها وأفضل الطرق للاستفادة منها والتعامل معها.
•••
جوهر المشكلة المصرية الراهنة، كما يراه صديق قضى معظم سنين عمره يدرس السياسة ويلقنها لجيل بعد جيل، يكمن فى غياب كتيب إرشادات يشرح للناس بتبسيط شديد كل ما كان يجب أن يعرفوه عن الجماعة الحاكمة، هذه الآلة الضخمة التى تفرخ سنويا الآلاف من المتدربين على فنون الطاعة والالتزام، وكل ما كان يجب أن يعرفوه عن هؤلاء الحكام الجدد الذين تركوا منذ اليوم الأول للثورة انطباعا بأنهم خرجوا لتوهم من الكهف إلى قصور الحكم. يكمن أيضا فى غياب كتيب إرشادات آخر يشرح للحكام الجدد كل ما كان يجب أن يعرفوه عن شعب مصر، وبخاصة بعد أن اتضح لنا ولهم أنهم يتعاملون مع هذا الشعب اعتمادا على صورة خائلية رسموها خلال إقامتهم الطويلة فى كهوف المنافى والمعتقلات.