هل النمو الاقتصادى كافٍ للتنمية والقضاء على الفقر؟ منذ أن جاءت حكومة أحمد نظيف للحكم فى يوليو 2004، كانت الإجابة عن هذا السؤال هى: نعم. وأهمية هذه الإجابة كانت أنها تبرر اقتصاديا وسياسيا السياسات والقوانين الجديدة التى نفذتها الحكومة بدأب شديد على مدى الست سنوات الماضية. فإعطاء الأولوية للنمو هو جزء لا يتجزأ من منطق ساد علم الاقتصاد وسياسات الحكومات بلا منازع تقريبا منذ أوائل التسعينيات. منطق يقوم على أنه بفتح الباب للتراكم الرأسمالى الخاص، أى لاستثمارات وأرباح الشركات ورجال الأعمال بغض النظر عن جنسياتهم والقطاعات التى يعملون بها، سينشط الاقتصاد فيخلق الوظائف ويوظف الموارد أحسن توظيف، وبالتالى يحدث التقدم وتتحسن مستويات المعيشة من رجال الأعمال للعمال، وتلقائيا دون تدخل الدولة، الذى إن حدث فسيفسد كل شىء.
على أساس هذه الفكرة فتحت حكومة نظيف الأسواق وأصدرت كمية هائلة من القوانين لتحريرها، معطية مساحة غير مسبوقة تاريخيا لرجال الأعمال فى السياسة والاقتصاد. وبالفعل، ولأول مرة منذ عقود نما الاقتصاد بمعدلات تفوق الـ7%، وانتعشت أرباح الشركات، التى ظهر من بينها كيانات عملاقة حتى بالمعنى العالمى والإقليمى وفى قطاعات منتجة، ومع انتعاش الأرباح وتوسع الشركات، انتعشت البورصة أيضا.
لكن المشكلة أن ثمار هذا النمو ظلت فى أيدى قلة. وفى البداية وعدتنا الحكومة وأنصار تحرير السوق من الاقتصاديين والمحللين أن الرخاء قادم للفقراء لا محالة. ثم عندما تأخر ظهرت بعض الأصوات، التى تقول بضرورة خلق بعض شبكات الأمان الاجتماعى للفقراء كوسيلة مساندة حتى يجىىء هذا الرخاء. لكن النمو الاقتصادى ذاته بدأ يواجه مشكلات بسبب التعليم والصحة. إذ إن توسع الشركات يحتاج كوادر متعلمة لا يوفرها نظام التعليم المخصص ولا نظام التعليم الحكومى المأزوم. ولا تستطيع المدارس والجامعات الدولية، بحكم العدد القليل الذى يرتادها من الأغنياء، توفير رؤساء الورديات مثلا فى المصانع. ونفس الشىء ينطبق على الصحة.
قيل لنا وقتها إن الأمر يحتاج وقتا. وقيل لنا إن النمو السريع يجلب معه فروقا فى الدخول خاصة فى مراحله الأولى سرعان ما ينعدل ميزانها لاحقا. بل إن حكومتنا قارنت نفسها فى هذا الإطار بالصين والهند.
ثم جاءت الأزمة العالمية. فعادت بالنمو إلى ما تحت الـ5%. وبالرغم من أن هذا يعد جيدا للغاية مقارنة بالعالم، فإنه أقل كثيرا من المستهدف الحكومى ومما تستوجبه اعتبارات التنمية. ومع الأزمة سقطت نظرية النمو الاقتصادى قبل كل شىء، ومعها سقطت نظرية الرشاد المطلق للسوق، وقدرة حافز الربح أيا كان على توجيه الموارد أفضل توجيه، بعدما قادت شهية رجال المال له فى أسواق المشتقات والرهن العقارى العالم لأعمق كساد اقتصادى منذ ثلاثينيات القرن الماضى. ونظرة واحدة على عناوين كتب الاقتصاد وعلى سياسات الحكومات من الولايات المتحدة إلى باقى العالم تكشف حجم التغيير الذى حدث.
رد الفعل لدينا على الأزمة كان مزدوجا. من ناحية استمر الإصرار على أولوية النمو الاقتصادى بالمعنى القديم: أولوية مساندة أرباح رجال الأعمال. ولأن رجال الأعمال، الذين تضخمت هوامش ربحهم خلال السنوات السابقة على الأزمة، أصابهم الوجل والحذر فقلت شهيتهم للاستثمار، صار الحل هو تحفيزهم مرة أخرى باستثمارات حكومية فى البنية الأساسية وبدعم للصادرات.
لكن المنطق الأساسى ظل كما هو. وتبوأت أولوية النمو، ومازالت تتبوأ، مكانة أساسية فى تصريحات جمال مبارك أمين السياسات بالحزب الوطنى، مدافعا عن أن تعريض النمو للخطر لصالح توزيع أفضل للدخل هو «توزيع عادل للبؤس».
وقد سمعت بأذنى رئيس الوزراء فى افتتاح احد المؤتمرات الكبرى التى تنظمها مؤسسة دولية بالقاهرة، بعد اندلاع الأزمة العالمية مباشرة، يرد على سؤال حول إذا ما كانت مصر ستتراجع عن بعض سياسات التحرير التى جلبت الأزمة بالخارج، قائلا: العالم فى الدور العاشر من المبنى ونحن ما زلنا فى الدور الرابع أو الخامس وعندما نصل إلى العاشر سنرى. وظل هذا الإصرار على أولوية النمو مصحوبا بأفكار عامة عن ضرورة إيصال ثماره للفقراء.
والآن سمعنا أستاذ الاقتصاد ووزير الاستثمار محمود محيى الدين يتحدث بأوضح صورة شهدناها حتى الآن، وبأقسى الألفاظ، عن انهيار فكرة الأولوية المطلقة للنمو. قال محيى الدين إن ثمار النمو لا تصل تلقائيا للفقراء دون أن تحرص الدولة على الاستثمار فى المناطق الفقيرة أو تفرض ضرائب على المستفيدين، ودون أن يحدث تطوير تقوده الدولة فى التعليم والصحة.
ومما قاله وزير الاستثمار، فإن الشىء الأساسى الذى تقوم به الدولة حاليا فى هذا الإطار هو الاستثمار فى بعض مشروعات البنية الأساسية، وبعضها فى أماكن محرومة كالصعيد. لكن إذا أخذنا بالاستنتاج الرئيسى لتقرير عن التوزيع العادل لثمار النمو صادر العام الماضى عن مجلس أمناء هيئة الاستثمار، فان المحك هنا هو التشغيل وخلق الوظائف. وأى مشروعات تقوم بها الدولة أو غير الدولة لا توفر فرصا دائمة للعمل، قد تسهل وتحفز بعض الاستثمار الخاص والأرباح هنا أو هناك، لكنها لن تقوم بالأثر التنموى المعمم المطلوب. وتكفى هنا الإشارة إلى الورقة، التى أعدها المركز المصرى للدراسات الاقتصادية حول حزم التحفيز أثرها المحدود فى مواجهة البطالة وتحفيز التشغيل بسبب اعتمادها على مشروعات بنية أساسية ذات طبيعة معينة.
نعم النمو السريع يجلب معه فوارق طبقية. لكنه لا يحلها من تلقاء نفسه. هذا ما أثبتته التجارب فى الصين والهند وفى أمريكا اللاتينية. فى الدولتين الآسيويتين كان النمو مصحوبا بالدولة التى تتدخل وتعلم وتعالج بل وتستثمر فى القطاعات الإنتاجية، على عكس نظرية الأولوية للنمو الكلاسيكية، التى نتبناها فى مصر. وفى أمريكا اللاتينية، تبنت دولة كالبرازيل ما نتبعه فى مصر فزادت الفوارق الاجتماعية وعصفت أزمة المكسيك بالأداء الاقتصادى. ولما جاء لولا داسيلفا ببرنامج مغاير يقوم على استهداف الفقر ودعم التعليم والصحة ودور للدولة، استمر النمو لكن بلا قسوة، واستطاعت البرازيل، التى صارت قوة إقليمية بل عالمية، تفادى أثار الأزمة الاقتصادية.
نعم محمود محيى الدين،عالم الاقتصاد على حق. تساقط ثمار النمو تلقائيا «نظرية غير منطقية ما أنزل الله بها من سلطان»، وهو يعلم ذلك حق المعرفة بحكم متابعته اللصيقة لتطورات الفكر الاقتصادى فى العالم، وربما تنبه له قبل الآخرين وصرح به لأنه أكاديمى حق. لكن محيى الدين الوزير يحتاج لتغييرات جذرية فى سياسات حكومته وسياسات وزارته لكى يتحول ذلك إلى منطق فاعل.
فى مؤتمر حول السياسات الاجتماعية فى مصر منتصف العام الماضى، وفى ورقة قدمها القيادى بالحزب الوطنى وأمين التعليم بلجنة السياسات به، حسام بدراوى، اقتبس الطبيب الشهير قولا مأثورا للعالم ألبرت آينشتاين نصه هو أن «حل المشكلات العويصة التى نواجهها لا يتأتى بتطبيق نفس النهج الفكرى الذى كنا نتبناه عندما خلقناها». وينطبق قول آينشتين على الحكومة والنمو. إذ إنها لا تستطيع أن تحل مشكلات النمو بنفس طريقة التفكير التى خلقتها بها.
أما ما يمنع من تغيير الحكومة لـ«نهجها الفكرى»، فأستطيع أن أقتبس ما قاله القيادى فى الحزب الحاكم والمسئول عن لجنة التعليم، والذى يدافع عن سياسة تعليم مختلفة لا تعادى الفقراء.. سياسة تتجاهلها حكومة الحزب، فى تفسيره للتحديات، التى يواجهها التعليم قبل الجامعى: «نقص التمويل الحكومى والتخوف من الالتزامات التى سيفرضها التغيير».. والأهم: «مقاومة أصحاب المصالح المستقرة فى ظل الأوضاع كما هى عليه الآن».